وكما جاء في الحديث أن رسول الله ﷺ قال يوما لأصحابه: أيُّ الْمُؤمِنِينَ أعْجَبُ إلَيْكُمْ إيمَانًا؟ قالوا: الملائكة، قال: وَكَيْفَ لا يُؤْمِنُونَ وَهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ؟!، وذكروا الأنبياء قال: وَكَيْفَ لا يُؤْمِنُونَ وَالْوَحْيُ يَنزلُ عَلَيْهِمْ؟! قالوا: فنحن قال: وَكَيْفَ لا تُؤْمِنُونَ وأنَا بَيْنَ أظْهُرِكُمْ؟! قالوا: فأيّ الناس أعجب إيمانًا؟ قال: قَوْمٌ يجيئون مِنْ بَعْدِكُمْ يَجِدونَ صُحُفًا يُؤْمِنُونَ بِمَا فِيهَا[1]".
فقوله - تبارك وتعالى -: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ [سورة آل عمران:101]، الحافظ ابن كثير - رحمه الله - فسر هذه الآية بالقرآن، وفسرها بالسنة، ومعلوم أن هذا الضرب من التفسير يعتبر في المرتبة العليا، لكن لما كانت الآيات التي ذكرها - إضافة إلى الحديث - محتملة أن تكون بمعنى هذه الآية، خاصة وأن الحديث لا تعرض فيه لآية آل عمران فإن ذلك غير مقطوع به، ولهذا فهم منها بعض أهل العلم أنها بمعنى الإنكار، فالحافظ ابن كثير حملها على معنى الاستبعاد أي أن ذلك بعيد منكم لوجود كذا وكذا؛ أي لأن آيات الله تتلى عليكم، وفيكم رسوله؛ فيبعد منكم هذا غاية البعد.
لكن المعنى الثاني هو أن ذلك للإنكار أي كيف تكفرون بالله وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله؟! لا سيما مع ما يذكر في السير من سبب نزول هذه الآية إن صحَّ، وهو ذلك اليهودي الذي جاء إلى أصحاب النبي ﷺ من الأوس والخزرج وهم جلوس، وبينهم من المودة والمحبة ما غاظه، فردَّد بعض الأشعار التي قيلت في يوم بعاث، وذكَّرهم بما جرى بينهم من حرب طويلة، وكانت الغلبة في يوم بعاث للأوس، فتثاور القوم؛ فحصل بينهم ترادّ، ثم قام رجل وجثا على ركبتيه وقال: إن شئتم رددناها جذعة، فقالوا: نعم، ثم تواعدوا في الظاهرة في الحرة، وحملوا السلاح، وخرجوا، فجاء النبي ﷺ يمشي بين الصفين، وينكر عليهم هذا الذي وقع، وهو يقول محذراً لهم من هذا: لا ترجعوا بعدي كفاراً[2] أو كلاماً نحو هذا، فلو صحَّ أن هذه الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ [سورة آل عمران:100-101] نزلت بسبب هذا يكون المعنى كيف تكفرون بطاعتكم هذا الذي جاءكم من عند من دفعه ليحركوا النفوس، ويثيروا كوامنها، ويجددوا الأحقاد والثارات القديمة، وبهذا الاعتبار هو ينكر عليهم ما وقع بينهم حيث اصطفوا للقتال فقال: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ [سورة آل عمران:101] أي كيف يقع منكم هذا؟ فالآية تحتمل هذا، وتحتمل هذا، وإنما ذكرتُ هذا لأن تفسير القرآن بالقرآن يدخله الاجتهاد، وكذلك الأمر في أحد النوعين من تفسير القرآن بالسنة وهو ما لم يتعرض فيه النبي ﷺ للآية، ولكن المفسر عمد إلى الحديث، وفهم منه الارتباط أو معنىً يرتبط بالآية، فربط بين الآية والحديث، وقد يكون الارتباط بينهما غير موجود أصلاً.
وعلى كل حال هذا الذي ذكره ابن كثير - رحمه الله - من أنها للاستبعاد لعله هو الأقرب، والله تعالى أعلم.
- رواه البزار (ج 2 / ص 347) وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة ثم تراجع عن ذلك وصححه في السلسلة الصحيحة برقم (3215).
- أخرجه البخاري في كتاب العلم - باب الإنصات للعلماء (121) (ج 1 / ص 56) ومسلم في كتاب الإيمان - باب بيان معنى قول النبي ﷺ لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض (65) (ج 1 / ص 81).