روى ابن أبي حاتم عن عبد الله بن مسعود : اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ قال: "أن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر" وهذا إسناد صحيح موقوف رواه الحاكم في مستدركه عن ابن مسعود مرفوعاً، ثم قال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، كذا قال، والأظهر أنه موقوف والله أعلم.
وروي عن أنس أنه قال: "لا يتق العبد الله حق تقاته حتى يخزن لسانه".
بعض أهل العلم من السلف قال: إن هذه الآية منسوخة، ومشى على هذا بعض المتأخرين حيث قالوا: نسخها قول الله - تبارك وتعالى -: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [سورة التغابن:16] وذلك أن تقوى الله حق تقاته كما قالوا: أمر لا يطاق، والشريعة لا تكليف فيها بما لا يطاق كما قال تعالى: لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا [سورة البقرة:286] حتى إن بعض السلف قال: ليس في آل عمران آية منسوخة سوى هذه الآية.
والأقرب - والله تعالى أعلم - أن هذه الآية ليست منسوخة، وقول من قال من السلف بأن الآية منسوخة يحمل على المعنى الأوسع للنسخ، فمن السلف من يطلق النسخ على معنى أوسع مما اصطلح عليه المتأخرون، فاصطلاحهم - رحمهم الله - للنسخ يقصدون به كل ما يعرض للنص العام من تخصيص، وما يعرض للنص المطلق من تقييد، وما يعرض للنص المجمل من تبيين، وأما المتأخرون فإنهم يقصدون بالنسخ رفع الحكم الشرعي، وعلى هذا يمكن حمل قول القائل بنسخ هذه الآية على أنه يريد البيان، بمعنى أن آية التغابن مبيِّنة لآية آل عمران، إلا أننا لا نستطيع أن نجزم عند قول كل قائل أنه قصد البيان، أو قصد الرفع أو غير ذلك، لكن على كل حال لا يلزم أن يكون مراد كل من عبر بالنسخ أنه أراد الرفع، وهناك قاعدة لا بد من معرفتها في هذا الباب وهي: أن النسخ لا يثبت بالاحتمال، فدعاوى النسخ كثيرة جداً، وليس كل ما لاح من تعارض ظاهر بين آيتين يمكن أن يدعى فيه النسخ، ومعلوم أن الجمع بين النصوص هو المطلوب أولاً ما أمكن، وهنا يمكن الجمع بين آيتي التغابن وآل عمران، فيقال: من قواعد الشريعة المقررة أن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها، فلا تكليف في الشريعة بما لا يطاق، وهذا أصل دلت عليه الأدلة الشرعية فلا يقال: إن المراد بقوله تعالى: اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [سورة آل عمران:102] هو ما فهمه بعضهم من أن المقصود بذلك أن يصل الإنسان إلى الحد الأعلى للتقوى فلا يقع منه صغيرة، ولا كبيرة؛ فإن كل ابن آدم خطاء، ولا بد للإنسان من هفوة، وزلة وتقصير، والله قال عن رسوله ﷺ: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ [سورة الفتح:2] لذلك فإن الأقرب أن يقال في هذه الآية - والله تعالى أعلم - إنها ليست منسوخة؛ بل هي مبيَّنة بقوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [سورة التغابن:16]، وبعبارة أخرى يقال: إن المراد بقوله: اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ [سورة آل عمران:102] أن يطاع فلا يعصى، وأن يشكر فلا يكفر؛ بقدر الوسع والطاقة، ويبين هذا المعنى قوله: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [سورة التغابن:16].
هذا هو المراد بهذه الآية، والله أعلم، وهذا هو الذي مشى عليه كثير من المحققين، وأنها ليست منسوخة، وبالنسبة للحافظ ابن كثير - رحمه الله - فإنه لم يذكر النسخ.
هذا من أحسن ما تفسر به هذه الجملة، وقد سبق الكلام على هذا المعنى في وصية يعقوب - عليه الصلاة والسلام - لبنيه عند قوله: يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [سورة البقرة:132] فالإشكال الذي قد يَرِد ووقف عنده بعض المفسرين هو أن الإنسان لا يملك خاتمته، ولا يدري بماذا يختم له، وفي الحديث: إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها[1] الحديث، فالأعمال بالخواتيم، والله ينهى عباده فيقول: {وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [(102) سورة آل عمران] فما المقصود بذلك ما دام غير مستطاع للإنسان أن يحدد خاتمته؟
قد يقال في هذا ما ذكره الحافظ ابن كثير - رحمه الله - وهذا بناءً على قاعدةِ أن الخطاب إذا توجه للمكلفين في أمر لا يدخل في طوقهم فإنه يتوجه إلى سببه، أو إلى أثره، فمثلاً: من شروط التوبة الندم، لكن هل يملك الإنسان أنه يندم متى ما شاء؟ لا يمكن أبداً، فقد يريد الإنسان الندم لكن لا يستطيع ذلك، بل كلما تذكر المعصية التي فعلها فرح، وسُرَّ بذلك، وتحركت شهوته، فمثل هذا يؤمر أن يتوجه إلى سبب الندم فيتفكر في معنىً وهو أنه عصى الله ، واجترأ عليه، وأن الله قد رآه، وكتب ذلك الكاتبون، وأن الحساب ينتظره، فإذا تذكر هذه المعاني خاف، ورجف قلبه، وندم، وتاب إلى الله ، هذا مثال في توجهه إلى سببه.
وأما في توجهه إلى أثره فمثل قوله تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [سورة النور:2] فالرأفة رحمة رقيقة تقع في قلب الإنسان من غير إرادة، فإذا رأى إنساناً يجلد فإنه يرِقُّ له ويرحمه، فمثل هذا لا يلام، وإنما يتوجه الخطاب إلى الأثر الذي قد يقع وهو تخفيف الحد أو إلغاؤه.
فهنا في قوله: وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [سورة آل عمران:102] نقول: إن الإنسان لا يملك خاتمته، والله لا يكلف بما لا يطاق، وبالتالي فالخطاب يتوجه إلى سببه، وسببه هو ما ذكره الحافظ ابن كثير وهو مبني على هذا الأصل، ولذلك لم يقل ابن كثير - رحمه الله -: وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [سورة آل عمران:102] أي: اجعلوا خاتمتكم الإسلام؛ لأن هذا أمر لا يستطيع الإنسان أن يحدده، فالخاتمة لا نملكها، لكن نسأل الله حسنها، والمقصود أن يقال: إن الخطاب يتوجه إلى السبب وهو أنه على الإنسان أن يحسن العمل، وأن يستقيم سلوكه على الصراط المستقيم في الدنيا كما أمره الله ، فهذا مؤذن - إن شاء الله - أن يموت على ما عاش عليه.
وروى الإمام أحمد أيضاً عن جابر قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول قبل موته بثلاث: لا يَمُوتَنَّ أحَدُكُمْ إلا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاللهِ [3] ورواه مسلم.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي[4]".
ما العلاقة بين هذه الأحاديث وبين قوله: وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [سورة آل عمران:102]؟
يمكن أن يقال - والله تعالى أعلم -: تتضح العلاقة في المعنى الذي ذكره الحافظ ابن كثير وهو أن الإنسان يموت على ما عاش عليه، وهذا مقتضى حسن الظن بالله - تبارك وتعالى - من أنه لا يضيع عبده، وأنه رؤوف بعباده، لا يخيب آمالهم، فمن أحسن في العمل فإن الله يسدده، ويثبته عند الموت، ولا يختم له بالخاتمة السيئة، وإنما يختم له بالسعادة، فينبغي إحسان الظن بالله - تبارك وتعالى - بهذا الاعتبار، وهذا هو وجه الارتباط بن هذه الأحاديث وبين الآية، وابن كثير - رحمه الله - لم يذكر هذا الكلام تفسيراً لقوله تعالى: وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [سورة آل عمران:102] وإنما ذكره - والله تعالى أعلم - ليكمِّل به المعنى الذي ذكره، وهو أن من عاش على شيء مات عليه، فمقتضى حسن الظن بالله - تبارك وتعالى - أن الله يكمل لعبده صلاح الحال إلى الممات فيوافي على ما كان عليه في الحياة الدنيا، والله أعلم.
- رواه البخاري في كتاب القدر - برقم (1226) (6/2433)، ومسلم في كتاب القدر - باب كيفية الخلق الآدمي في بطن أمه وكتابة رزقه وأجله وعمله وشقاوته وسعادته برقم (2643) (4/2036).
- أخرجه الترمذي في كتاب صفة جهنم - باب ما جاء في صفة شراب أهل النار (2585) (ج 4 / ص 706) وابن ماجه في كتاب الزهد - باب ذكر الشفاعة (4325) (ج 2 / ص 1446) وأحمد (2735) (ج 1 / ص 300).
- أخرجه مسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها - باب الأمر بحسن الظن بالله تعالى عند الموت (2877) (ج 4 / ص 2205).
- أخرجه البخاري في كتاب التوحيد - باب قول الله تعالى: وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ [(28) سورة آل عمران] (6970) (ج 6 / ص 2694) ومسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار - باب الحث على ذكر الله تعالى (2675) (ج 4 / ص 2061).