الحبل يقال للسبب الذي يتوصل به إلى الشيء، فبعض السلف فسره بالطاعة فقال: وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ أي بطاعته، وبعضهم فسره بالإسلام، وبعضهم فسره بالإخلاص، وبعضهم فسره بعبارات نحو هذا، وكبير المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله - ذكر عبارة تشمل هذه الأمور فقال: وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ أي: بدينه، وطاعته.
فهذا هو الاعتصام بحبله، فيدخل فيه ما ذكر في تفسيره من أن المراد بذلك القرآن، فالقرآن هو منهاج الدين، ومن قال: أي بطاعته، أو بدينه؛ فلا فرق إذ كل ذلك يدور في فلك واحد، وهذا الذي يسمونه خلاف التنوع، ولهذا لسنا بحاجة أن نرجح بين هذه الأقوال، والله أعلم.
والحافظ ابن القيم له كلام جيد للغاية في هذا المعنى، وقد ذكرت مراراً أن من أراد أن يبني نفسه في التفسير فليدمن قراءة كلام ابن القيم، وشيخ الإسلام ابن تيمية، والشنقيطي، وتفسير ابن كثير، وتفسير ابن جرير، وإن أراد أن يستزيد فعليه بتفسير الطاهر بن عاشور، فهذه الكتب تبني طالب العلم، وتؤصِّله؛ لأن هؤلاء كثيراً ما يشيرون إلى الملحظ، والمأخذ، وطريقة الجمع بين الأقوال، أو نحو هذا من الأمور التي يحتاج إليها طالب العلم، فإذا أدمن طالب العلم القراءة مع دراسة الموافقات للشاطبي مثلاً فإنه يكون له نفَس خاص فيتميز، ولا يكون مجرد ناقل في التفسير، وإنما يكون له بصر فيه، وذوق، وقدرة على الاختيار والجمع بين الأقوال إذا أمكن وما أشبه هذا، ولنقرأ كلام ابن القيم - رحمه الله - هنا:
"قال الله تعالى: وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ [سورة آل عمران:103] وقال: وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ [سورة الحج:78]، والاعتصام افتعال من العصمة، وهو التمسك بما يعصمك ويمنعك من المحذور والمخوف، فالعصمة الحِميَة، والاعتصام الاحتماء، ومنه سميت القلاع العواصم لمنعها، وحمايتها، ومدار السعادة الدنيوية والأخروية على الاعتصام بالله، والاعتصام بحبله، ولا نجاة إلا لمن تمسك بهاتين العصمتين، فأما الاعتصام بحبله فإنه يعصم من الضلالة، والاعتصام به يعصم من الهلكة".
في الآية التي قبلها يقول سبحانه: وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [سورة آل عمران:101] والاعتصام بالله يقي المعتصم من الهلكة فلا يضل، ولا يحصل له ما يكره، والاعتصام بحبل الله هو المذكور هنا.
"فإن السائر إلى الله كالسائر على طريق نحو مقصده، فهو محتاج إلى هداية الطريق، والسلامة فيها، فلا يصل إلى مقصده إلا بعد حصول هذين الأمرين له، فالدليل كفيل بعصمته من الضلالة، وأن يهديه إلى الطريق، والعُدَّة، والقوة، والسلاح التي بها تحصل له السلامة من قطاع الطريق، وآفاتها، فالاعتصام بحبل الله يوجب له الهداية، واتباع الدليل".
الاعتصام بحبل الله هو كما سبق أنه الاعتصام بالقرآن، وبالإسلام، وبطاعة الله وهدايته، فذلك يقيه من الضلالة، والانحراف، والاعتصام به - جل وعلا - فيه حماية للمعتصم به.
"والاعتصام بالله يوجب له القوة، والعدة، والسلاح، والمادة التي يستلئم بها في طريقه، ولهذا اختلفت عبارات السلف في الاعتصام بحبل الله بعد إشارتهم كلهم إلى هذا المعنى، فقال ابن عباس - ا -: "تمسكوا بدين الله".
وقال ابن مسعود : "هو الجماعة"، وقال: "عليكم بالجماعة فإنها حبل الله الذي أمر به، وإنما تكرهون في الجماعة، والطاعة؛ خير مما تحبون في الفرقة".
وقال مجاهد وعطاء: "بعهد الله"، وقال قتادة والسدي وكثير من أهل التفسير: هو القرآن.
قال ابن مسعود عن النبي ﷺ: إن هذا القرآن هو حبل الله، ونوره المبين، والشفاء النافع، وعصمة من تمسك به، ونجاة من تبعه[1].
وقال علي بن أبي طالب عن النبي ﷺ في القرآن: هو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تختلف به الألسن، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا يشبع منه العلماء[2]".
الأثر هذا لا يصح رفعه إلى النبي ﷺ.
"وقال مقاتل: بأمر الله وطاعته، ولا تفرقوا كما تفرقت اليهود والنصارى.
وفي الموطأ من حديث مالك عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: إن الله يرضى لكم ثلاثاً، ويسخط لكم ثلاثاً".
ابن القيم جمع بين الأقوال، وكما قال: فالسائر إلى الله بحاجة إلى هاد يهديه، وبحاجة إلى قوة، ومنعة، وحماية، فالاعتصام بالله يوفر له المنعة، والقوة، والاعتصام بحبل الله يوفر له الهداية، ولهذا فُسِّر هنا بالإسلام، وبطاعة الله، وطاعة رسوله ﷺ ونحو ذلك من المعاني، فهذا هو الاعتصام بحبل الله، فهذا من أحسن ما يقال في التفسير، لذلك فإن النظر في كلام السلف يحتاج فيه إلى مثل هذا البصر، والسابقون وأرضاهم كانوا يعبرون عن المعنى بعبارات غريبة كأن يكون بمثال، أو بجزء المعنى، أو بنحو ذلك مما يقربه للسامع؛ فلا يدققون كثيراً، لذلك من الخطأ أن تفرد هذه الأقوال على أنها من قبيل الخلاف ثم يطلب الترجيح بينها، وإنما ينبغي أن يعبر عنها بعبارة وافية شاملة، وللأسف نجد أن بعض كتب التفسير، أو بعض المختصرات؛ تعمد إلى قول مثل هذه الأقوال، ثم تذكره في هذا الموضع، مع أن المعنى أشمل من هذا، ولو أنه كُتب هذا المختصر، أو هذا المهذب، بنَفس، وتحرير مثل هذا الذي ذكره ابن القيم - رحمه الله - فذلك الأولى، والأحسن؛ لأنه بهذه الطريقة سيكون قد عُبِّر فيه بعبارات لائقة تجمع عبارات السلف فلا يكون ذلك مقتصراً على أحد الألفاظ، أو العبارات، أو المعاني التي هي جزء مما ذكره، أو مما يدخل في معنى الآية الواسع، والله تعالى أعلم.
وأنا أقول هذا الكلام لأهميته حيث إن كتب التفسير مليئة بمثل هذا التعبير، أعني تعداد الأقوال على أنها القول الأول، والثاني، والثالث، والرابع، وهكذا بحيث إذا نظر فيها طالب العلم فإنه ربما تحيَّر، وأشكل عليه الأمر.
وقوله: وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا إلى آخر الآية [سورة آل عمران:103] وهذا السياق في شأن الأوْس والخَزْرَج فإنه كانت بينهم حُروبٌ كثيرة في الجاهلية، وعداوة شديدة، وضغائن، وإحَنٌ، وذُحُول".
قوله: "وذُحُول.": يعني أحقاد، وثارات، لكن هذا في الواقع لا يختص بالأوس والخزرج، فالعرب في الجاهلية عموماً كانوا يعيشون في حروب وثارات ربما دامت الواحدة منها أكثر من مائة سنة، فحرب بعاث مثلاً استمرت نحو مائة وعشرين سنة على أسباب تافهة، بمعنى أنها كانت تجدد حتى فني رؤوسهم، وكبارهم، وزعماؤهم، فلما جاء النبي ﷺ وجد تلك الرؤوس قد حصدت من هذه الحرب، فالمقصود أن العداوة كانت موجودة بين قبائل العرب حتى ممن ليسوا من الأوس والخزرج، فالحروب والأحلاف كانت قائمة، وهذا شيء لا يخفى في تاريخ العرب، فهم كانوا أعداء فألَّف الله بين قلوب العرب، والعجم جميعاً، فحصلت مكان تلك العداوات الأخوة، والرابطة الإيمانية.
ومما يدل على أن العداوات لم تكن منحصرة بين الأوس والخزرج أن وفد عبد القيس لما جاءوا للنبي ﷺ قالوا له: إنا لا نستطيع أن نأتيك إلا في شهر الحرام، وبيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر، بمعنى أنهم كان بينهم حروب، فكانوا لا يأمنون على أنفسهم.
هنا يفسر - رحمه الله - قوله تعالى: وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ [سورة آل عمران:103] وإن لم يذكر جزءاً من الآية المتصل بهذا لكنه دخل فيها.
والمقصود بشفا حفرة أي على طرف أو على شفير جهنم، والمعنى أنه لم يكن بينكم وبين دخول النار إلا أن تموتوا فتدخلوها، لكن أنقذكم الله من ذلك ببعث محمد ﷺ، فمن ترك ما بعث به رسول الله ﷺ، واستبدل الإيمان بروابط أخرى كرابطة القبيلة؛ عادت تلك العداوات، ومن استبدلها بالتراب عادت تلك العداوات، ومن استبدلها بالدم كالقوميات ونحو ذلك عادت تلك العداوات بين المسلمين العرب، والعجم، وأهل هذا البلد وذاك، وفي داخل البلد الواحد؛ والسبب أن هؤلاء من هذه الناحية، أو من هذه القبيلة أو نحو ذلك، فتبقى بينهم المشاحنة، والكراهية، والمنافرة، فلا يمكن أن يجمع هذه الأمة إلا الرابطة الإيمانية، قال تعالى مؤكداً هذه الرابطة: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [سورة المسد:1] مع أنه عمُّ النبي ﷺ، ومن أهل مكة، ومن العرب، ومن قريش، ومع ذلك تبت يداه؛ لأنه ليس مؤمناً.
ويقول النبي ﷺ مؤكداً هذه الرابطة: سلمان منا أهل البيت[4] وهكذا صار البعيد قريباً، والقريب بعيداً، فالرابطة هي الرابطة الإيمانية وليست شيئاً آخر، فمتى رجع الناس إلى الجاهلية بأي لون من ألوانها سواء كانت بالدم، أو التراب؛ رجعت تلك العداوات بين الأمة.
- أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (8665) (ج 9 / ص 130) والبيهقي في شعب الإيمان (1933) (ج 2 / ص 324) وابن أبي شيبة في مصنفه (ج 7 / ص 165) وضعفه الألباني في الضعيفة برقم (6842).
- أخرجه الترمذي في كتاب فضائل القرآن - باب ما جاء في فضل القرآن (2906) (ج 5 / ص 172) وضعفه الألباني في المشكاة برقم (2138).
- أخرجه مسلم في كتاب الأقضية - باب اليمين على المدعى عليه (1715) (ج 3 / ص 1340).
- أخرجه الطبراني في الكبير (6052) (ج 6 / ص 212) والحاكم (6539) (ج 3 / ص 691) وضعفه الألباني في ضعيف الجامع برقم (3272).
- أخرجه مسلم في كتاب الزكاة - باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام وتصبر من قوى إيمانه (1061) (ج 2 / ص 738).