"يقول تعالى: وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ منتصبة للقيام بأمر الله في الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [سورة آل عمران:104] قال الضحاك: هم خاصة الصحابة، وخاصة الرواة يعني المجاهدين، والعلماء، والمقصود من هذه الآية أن تكون فرقة من الأمة متصدية لهذا الشأن، وإن كان ذلك واجباً على كل فرد من الأمة بحسبه كما ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه؛ وذلك أضعف الإيمان[1] وفي رواية: وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل[2].
وروى الإمام أحمد عن حذيفة بن اليمان - ا - أن النبي ﷺ قال: والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً من عنده، ثم لتدعنَّه فلا يستجيبُ لكم[3] ورواه الترمذي وقال: حسن، والأحاديث في هذا الباب كثيرة مع الآيات الكريمة، كما سيأتي تفسيرها في أماكنها".
فقوله - تبارك وتعالى -: وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: والمقصود من هذه الآية أن تكون فرقة من الأمة متصدية لهذا الشأن، وهذا الذي مشى عليه الحافظ ابن كثير - رحمه الله - بناءً على أن "مِن" للتبعيض، وعلى ذلك يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من قبيل فرض الكفاية؛ إذا قام به البعض سقط عن الباقين، فالمقصود وجوده دون النظر إلى فاعله، والآية تحتمل هذا احتمالاً قريباً.
والمعنى الآخر أن تكون "مِن" بيانية، فقوله: وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ أي: ولتكونوا أمة، كما يقول الإنسان لأولاده: أريد منكم أبناء بررة، أو أريد منكم أن تكونوا صالحين، فالمقصود أنه لا يريد من بعضهم أبناء بررة دون البعض، وإنما يريد منهم أن يصيروا كذلك جميعاً، وهنا وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ أي كونوا أمة، تقول: أريد أن أجعل من فلان رجلاً متميزاً، أو عالماً وهكذا، فإذا كانت "مِن" بيانية فبناء عليه يكون المعنى: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر؛ من قبيل فرض العين، فيجب على كل إنسان أن يأمر بالمعروف، وأن ينهى عن المنكر، ولا تبرأ ذمته إلا بذلك، ولا يقول: غيري سيقوم به، فالآية معناها كونوا جميعاً أمة تقوم بهذا كما قال الله : كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ [سورة آل عمران:110] وهذه الآية يمكن أن يحتج بها لهذا القول، كما يمكن لصاحب القول الأول القائل بأن "مِن" تبعيضية، أن يقول: إن قوله: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أي أن هذا وجد في هذه الأمة فصارت قائمة بأمر الله بقيام البعض بهذه الفريضة.
وعلى كل حال خلاف العلماء في مسألة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر؛ هل هو فرض عين، أو فرض كفاية؛ مرجعه إلى هذه الآية، فأصل الخلاف يدور على هذه الآية، ثم بعد ذلك يستدلون بأدلة منها قوله ﷺ: من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فيقولون: المعنى هنا من رأى منكم منكراً فإنه يجب عليه، ولا يعفيه أن يقوم أحد آخر بهذا.
والأقرب - والله تعالى أعلم - أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية، وأن "مِن" هنا للتبعيض وليست بيانية، وأن ذلك إذا وجد فإن الأمة تكون بتلك المرتبة والمنزلة التي ذكرها الله في قوله: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [سورة آل عمران:110] بقيام بعضهم بذلك.
وأما قوله ﷺ: من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإنه يجب عليه أن يغيره بحسب استطاعته، فإن قام به غيره حصل المقصود، والله أعلم.
- أخرجه مسلم في كتاب الإيمان - باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان وأن الإيمان يزيد وينقص وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان (49) (ج 1 / ص 69).
- أخرجه مسلم في كتاب الإيمان - باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان وأن الإيمان يزيد وينقص وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان (50) (ج 1 / ص 69).
- أخرجه الترمذي في كتاب الفتن - باب ما جاء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (2169) (ج 4 / ص 468) وأحمد (23375) (ج 5 / ص 391) وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب برقم (2313).