الأربعاء 02 / ذو القعدة / 1446 - 30 / أبريل 2025
وَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱبْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِى رَحْمَةِ ٱللَّهِ هُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [سورة آل عمران:107] يعني الجنة ماكثون فيها أبداً لا يبغون عنها حولاً.
وقد روى أبو عيسى الترمذي عند تفسير هذه الآية عن أبي غالب قال: رأى أبو أمامة رءوساً منصوبةً على درج دمشق، فقال أبو أمامة: كلاب النار، شرّ قتلى تحت أديم السماء، خير قتلى من قتلوه، ثم قرأ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ إلى آخر الآية، قلت لأبي أمامة: أنت سمعته من رسول الله ﷺ، قال: لو لم أسمعه إلا مرةً، أو مرتين، أو ثلاثاً، أو أربعاً.. حتى عدَّ سبعاً ما حدثتكموه، ثم قال: هذا حديث حسن، ورواه ابن ماجه، وأخرجه أحمد في مسنده بنحوه"[1].

هذا حديث مرفوع أطلق فيه هذا الوصف، وحمل فيه الآية يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ على الخوارج، ويقول: سمعته من رسول الله ﷺ وإن كان هذا ليس بقاطع، بمعنى أنه قد يكون الذي سمعه من رسول الله ﷺ هو أنهم كلاب النار، شر قتلى تحت أديم السماء، خير قتلى من قتلوه، ثم قرأ، يعني قد لا يكون سمع الآية تقرأ في هذا المقام من رسول الله ﷺ، ولكن الظاهر أنه سمع ذلك جميعاً من النبي ﷺ، فحملُها على أهل البدع، وأنهم يدخلون في هذا يكون بحسبه، أي يكون فيهم من هذا السواد بحسب ما عندهم من البدع، فأصحاب البدع المكفرة لهم السواد التام، ومن كان دونهم فله من السواد بحسبه، والله يقول: وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ [سورة الزمر:60]، وقال: وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ ۝ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ ۝ أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ [سورة عبس:40-42]، وهكذا في قوله: وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ جَزَاء سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُم مِّنَ اللّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [سورة يونس:27].
  1. أخرجه الترمذي في كتاب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ  باب تفسير سورة البقرة (3000) (ج 5 / ص 226) وابن ماجه في افتتاح الكتاب في الإيمان وفضائل الصحابة والعلم - باب في ذكر الخوارج (176) (ج 1 / ص 62) وأحمد (22262) (ج 5 / ص 256) وحسنه الألباني في المشكاة برقم (3554).

مرات الإستماع: 0

"يَوْمَ تَبْيَضُّ، وُجُوهٌ [آل عمران:106] العامل فيه محذوف، وقيل: عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران:105]."

فقوله - تبارك، وتعالى -: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ قال: العامل فيه محذوف يعني: واذكر، أو واذكروا يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ.

قال: وقيل: عَذَابٌ عَظِيمٌ يعني: العامل فيه ما قبله: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران:105] فهذا هو الذي اختاره ابن جرير - رحمه الله -[1] العامل فيه الآية قبلها لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ۝ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ هكذا يكون المعنى: عَذَابٌ عَظِيمٌ ۝ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ.

قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: تَبْيَضُّ وُجُوهٌ أهل السنة، والجماعة وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ أهل البدعة، والفرقة"[2] ونحو هذا قال ابن عباس - ا -[3].

وجاء عن الحسن: أن ذلك في المنافقين[4] يعني: تسودّ وجوه المنافقين، ولاشك أن الكفار ممن تسْوّد وجوههم، وكذلك أهل النفاق، وأهل البدع الغليظة - أيضًا - هؤلاء كذلك وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ [الزمر:60] قال الله - تبارك، وتعالى -: وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا [طه:102] الزرقة هنا: يعني زرقة العيون.

"أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [آل عمران:106] أي: يقال لهم: أكفرتم؟ والخطاب لمن ارتد عن الإسلام، وقيل: للخوارج، وقيل: لليهود، لأنهم آمنوا بصفة النبي ﷺ المذكورة في التوراة، ثم كفروا به لما بعث."

في قوله - تبارك، وتعالى -: أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ هذا قرينة، عند من قال: بأن المراد بالآية أهل النفاق، وهل آمن المنافقون، يمكن أن يكون بعض هؤلاء آمن، ثم بعد ذلك نافق، وارتد، والمنافق كافرٌ في الباطن، ويمكن أن يكون ذلك، باعتبار ما أظهروه من الإيمان، كقوله - تعالى-: لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة:66] يعني: الذي أظهرتموه، على قولٍ معروف في التفسير، فهذا قرينة تدل على أن المراد بذلك أهل النفاق، ولاشك أنهم بهذه الصفة تَسْوَدُّ وُجُوهٌ هم أهل الدرك الأسفل من النار.

لكن هل يختص ذلك بهم، قد لا يختص بهم، فإنها سواد الوجه - نسأل الله العافية - يكون للكفار، ويكون للمنافقين، ولكل من خاب في ذلك اليوم، وأيضًا قول من قال بأنهم: "أهل البدعة"[5] تكون هذه قرينة تدل على هذا، والمقصود: البدعة الغليظة التي تخرج صاحبها من الملة أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ووقعوا في ضلالةٍ، وبدعة بعد الإيمان.

وكذلك من ارتد عن الإسلام، يصدق عليه: أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ.

قال: وقيل: للخوارج الخوارج لاشك أن ذلك يصدق عليهم، عند من قال بأنهم كفار، والكلام في الخوارج معروف، ولما سئُل علي : أكفارٌ هم؟ قال: من الكفر فروا، لكن قوله ﷺ يمرقون من الدين، كما يمرق السهم من الرمية[6] فَهِم منه طوائف من أهل العلم، بأن هؤلاء خرجوا عن الإسلام، فقوله: أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ بهذا الاعتبار يدخل فيه الخوارج.

قال: وقيل: لليهود، لأنهم آمنوا بصفة النبي ﷺ المذكورة . . . إلى آخره، والحديث عن هذه القرينة، وأما سواد الوجه - فكما سبق - أنه يكون لكل من خاب في ذلك اليوم - والله أعلم -.

ولا يوجد طرف ثالث يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ يعني: لا يوجد بين بين، فذكر الذين اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ وذكر الذين ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ قال: فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [آل عمران:107] في الجنة، فالناس هناك في ذلك اليوم إما إلى الجنة، وإما إلى النار.

  1.  - تفسير ابن كثير (4/264).
  2.  - تفسير ابن كثير (2/92).
  3.  - المصدر السابق).
  4.  - المصدر السابق).
  5.  - قاله ابن عباس - ا - المصدر السابق.
  6.  - أخرجه البخاري بأرقام متعددة منها برقم (3344) في كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله : وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ [الحاقة:6]: شَدِيدَةٍ. . .  وبرقم (6930) في كتاب استتابة المرتدين، والمعاندين، وقتالهم، باب قتل الخوارج، والملحدين بعد إقامة الحجة عليهم، ومسلم، كتاب الزكاة، باب ذكر الخوارج، وصفاتهم، برقم (1064).