فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [سورة آل عمران:106] قال الحسن البصري: وهم المنافقون، فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ [سورة آل عمران:106] وهذا الوصف يعم كل كافر".
هذه الآيات في غاية الترابط، فالله قال: وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ [سورة آل عمران:104] ثم قال: وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ [سورة آل عمران:105] فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو سبيل الاجتماع، ودفع أسباب الشر، والتفرق، والتطاحن، فإذا تُرك الناس كما يشاءون افترقت الأمة، وصار أصحاب الشهوات يغرقون في شهواتهم، ونشأت الأهواء، والبدع، والضلالات، وحصل الانقسام في الأمة والافتراق ولا بُد، وإذا حصل هذا فهذا هو عين التفرق، وكما قيل: من خالف عقده عقدك خالف قلبه قلبك، فالذي يخالفك في الاعتقاد مهما سميت اعتقاده، ومهما لطفت له العبارة فسميته طيفاً، أو سميته بالآخَر، فإن ذلك لا يغير من كوامن النفوس أبداً، ولذلك إذا جاءت اللحظات التي يتنفس فيها ظهرت عندئذ شروره، وغوائل بدعته، وضلالته.
ولو نظرنا إلى ما حولنا من البلاد فإننا نرى ذلك ظاهراً عياناً، ففي لبنان مثلاً هل يوجد وهابية مسيطرة متسلطة تستحق الإبادة كما يقولون؟ لا يوجد ذلك أبداً، فلماذا يحصل في لبنان ما يحصل الآن، ولماذا حصل ما حصل قبل نحو عشرين سنة؟
إنما هو الحقد والقتل الذريع لأناس مساكين أبعد ما يكونون عن الدين، ومع ذلك يقتلون قتلاً في الشوارع، وتقطع الأيدي من أجل أن تؤخذ الساعة أو السوار من المرأة أو نحو ذلك، وهكذا تجد الجثث منتفخة في الشوارع بعد أن تمزق عنها الثياب، وبوادر هذا ظاهرة الآن، وفي العراق الأمر أشدّ، فهل كان عند هؤلاء هيمنة طائفة على البقية؟
ليس الأمر كذلك أبداً، فهذه بلاد ليس للعقيدة والدين عندهم أي تأثير في أمور الحياة إلا ما رحم ربي، ومع ذلك إذا افترقت الأمة إلى عقائد، وبدع، وأهواء، وضلالات، فهذا هو الخطر الذي يهددها، لكن حينما يوجد الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر - بمعنى أنه كلما ظهرت بادرة تنكر وقيل لصاحبها: توقف -، ثم يظهر العلم فلا يبقى الناس على جهل، ولذلك إذا خالف من خالف فإنه يكون قد خالف عن علم، ولهذا قال بعده: وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ [سورة آل عمران:105] ولهذا قال الله عن أهل الكتاب: وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ [سورة آل عمران:19] فهذا هو حالهم، وواقعهم، فإذا قمنا بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر؛ أقمنا الحجة على الناس، وقطعنا دابر الشر من أوله، وإذا ترك الأمر بحجة الحرية الفكرية، والحرية المطلقة؛ بحيث يفعل المرء ما يشاء من الذنوب، والمعاصي؛ عندئذ تتفرق الأمة وتنقسم، وتكون طوائف، وشيعاً، وأحزاباً، يعادي بعضها بعضاً، وللعلم فإنه لا يمكن أبداً أن تنقسم الأمة إلى طوائف، وأحزاب؛ بينها توافق، أو تواصل، أو تقريب في وجهات النظر حتى وإن اجتمعوا في مكان واحد، بل كل واحد ينظر إلى الآخر بالريبة، وهو يحدث نفسه متى يتمكن حتى يبطش به، وهذا هو واقع الحال، فتغيير الأسماء والعبارات من صاحب الهوى، والبدعة، والكافر؛ وما إلى ذلك إلى طيف، والآخَر، وما شابهه لا يغير شيئاً.
يقول الله : يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [سورة آل عمران:106] في هذه الآية ذكر - تبارك وتعالى - جزاء هؤلاء جميعاً، وكثير من السلف قالوا: هؤلاء هم أصحاب البدع، والحقيقة أن أهل البدع يدخلون في هذا، ويدخل فيه كل من عمل عملاً يسود وجهه، لكن السياق في الكفار؛ لأن الله قال بعدها: فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [سورة آل عمران:106] ولهذا قال من قال من السلف: إنها في المنافقين، وهم كفار في الباطن، فقوله: أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [سورة آل عمران:106] يعني بعد إيمانكم الذي زعمتموه، وأظهرتموه، وإلا فإنهم لم يؤمنوا أصلاً.
وبعضهم قال: إن هذه الآية في أهل الكتاب؛ لقوله: أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [سورة آل عمران:106]، والمعنى أنهم آمنوا بكتابهم، وكفروا بمحمد ﷺ.
وعلى كل حال يدخل في هذه الآية كل الكفار، ويدخل فيها أهل النفاق، ولأهل البدع نصيب من هذا السواد بقدر ما عندهم من الضلالات، والأهواء، والبدع، ويكون للإنسان من بياض الوجه، والأمن في الآخرة؛ بقدر ما عنده من الاتباع، والاستقامة، ولزوم السنة، ولهذا فإن قوله - تبارك وتعالى -: الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ [سورة الأنعام:82]، والنبي ﷺ فسر الظلم في هذه الآية بالشرك، فهذا هو معنى الآية، لكن ذلك لا يمنع أن يقال: إنه ينقص من أمن الإنسان، ومن اهتدائه؛ بقدر ما ينقص من إيمانه؛ لأن الحكم المعلق على وصف يزيد بزيادته، وينقص بنقصانه، ولهذا يتفاوتون في النعيم بحسب تفاوتهم في الإيمان، وهكذا يتفاوتون في الموقف يوم المحشر في العرق، والشدة؛ بقدر إيمانهم، والله المستعان.
وقوله تعالى: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [سورة آل عمران:106] من أهل العلم من ربطها بما قبلها ككبير المفسرين ابن جرير - رحمه الله - حيث يقول: إنها مرتبطة بما قبلها باعتبار وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [سورة آل عمران:105-106] ومتى يكون العذاب العظيم؟ يكون يوم تبيض وجوه، وتسود وجوه، أي هو عذاب كائن لهم في ذلك اليوم، ومن أهل العلم من يرى أنها مستأنفة، وعلى كل حال هذه الآية أيضاً يحتمل أن يكون المراد بها أهل الردة، وهم بلا شك داخلون في هذا، وكل هذا من أجل قوله تعالى: أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [سورة آل عمران:106] لكن إذا نظرت إلى المنقول عن السلف في التفسير رأيت كثرة من يقول: إنها في أهل البدع.