قال محمد بن إسحاق في قوله: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أي: ليس لك من الحكم شيء في عبادي إلا ما أمرتك به فيهم.
ثم ذكر تعالى بقية الأقسام فقال: أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ [سورة آل عمران:128] أي: مما هم فيه من الكفر، ويهديهم بعد الضلالة أَوْ يُعَذَّبَهُمْ أي: في الدنيا والآخرة على كفرهم وذنوبهم؛ ولهذا قال: فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ أي: يستحقون ذلك".
هنا الآية: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ [سورة آل عمران:128] قال قبلها: لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ [سورة آل عمران:127].
بعض أهل العلم يقول: إن قوله تعالى: أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ معطوف على قوله: أَوْ يَكْبِتَهُمْ وأن "أو" بمعنى إلا، فيكون الكلام بمعنى إلا أن يتوب عليهم، أي: ليقطع طرفاً من الذين كفروا، أو يكبتهم إلا أن يتوب عليهم.
وعلى كل حال يمكن أن تفهم الآية من غير هذا التفسير الذي لا يتبادر إلى ذهن السامع، ويحمل الكلام على ظاهره في أنهم قد يقع لهم هذا أو هذا أو هذا، وأن الله يتصرف فيهم كما يشاء فهم عبيده، وليس الأمر إليك وإنما عليك البلاغ.
والمقصود بقوله: أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أي بالهداية إلى الإيمان؛ لأن الله لا يتوب على الكافرين، ولكن توبته على عبده تأتي بمعنى أن يوفقه للتوبة، والرجوع إليه، وتأتي بمعنى قبول التوبة، والتوبة معناها الرجوع فتوبة الله على العبد أي برجوعه على عبده بالقبول، والمغفرة، فقبِل توبته، وغفر ذنبه.
وروى الإمام أحمد عن سالم عن أبيه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: اللهم العن فلاناً، اللهم العن الحارث بن هشام، اللهم العن سهيل بن عمرو، اللهم العن صفوان بن أمية[2] فنزلت هذه الآية: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ [سورة آل عمران:128] فتِيبَ عليهم كلهم.
وروى البخاري أيضاً عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ كان إذا أراد أن يدعو على أحد، أو يدعو لأحد؛ قنت بعد الركوع، وربما قال إذا قال: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد: اللهم أنجِ الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، والمستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسني يوسف يجهر بذلك، وكان يقول في بعض صلاته في صلاة الفجر: اللهم العن فلانا وفلانا لأحياء من أحياء العرب، حتى أنزل الله: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ الآية [سورة آل عمران:128][3]".
على كل حال قوله: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مع هذه الأسباب المذكورة في النزول فهِم منها بعض أهل العلم أن النهي إنما هو عن ذلك كله، وهذا يحتاج إلى نظر، وتحرير؛ وذلك أنه يحتمل أن يكون نهاه؛ لأنه سبق في علمه، وقدره؛ هداية هؤلاء الناس، فنهاه عن الدعاء عليهم، وعلى كل حال يكون ذلك مختصاً بهذه الواقعة جمعاً بين الأدلة، وذلك أن النبي ﷺ دعا على الكفار في مواطن متعددة في الصلاة، وفي خارج الصلاة، ودعا ﷺ على قبائل، ودعا على أشخاص، ولعن رجالاً بأعيانهم، وإنما نُهي في هذا الموطن، كما أنه - عليه الصلاة والسلام - دعا لأقوام في القنوت في الصلاة، فالدعاء على الكفار ولعنهم هذا أمر لا إشكال فيه، وهو أمر دلَّ عليه الكتاب، والسنة، ونوح - عليه الصلاة والسلام - قال: رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا [سورة نوح:26] وقال موسى وهارون - عليهما الصلاة والسلام -: رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ [سورة يونس:88] فدعوا عليهم بالربط على القلوب حتى لا يؤمنوا، وليس هناك شيء أبلغ من هذا، والأدلة على هذا كثيرة جداً، والذين يتكلفون ويقولون على الله بلا علم، وتضيق صدورهم من الدعاء على الكفار ترد عليهم مثل هذه النصوص، وقد يدعو النبي - عليه الصلاة والسلام - لأقوام، وكل مقام بحسبه، فالمقام تارة يقتضي الدعاء عليهم، وتارة يقتضي الدعاء لهم، فلسنا مطالبين دائماً بالدعاء للكفار بالهداية، بل أحياناً قد ندعو على كافر أن الله لا يهديه، ولا يوفقه، وأن يميته على الكفر، وأن يختم له بخاتمة السوء، وأن يأخذه، ويرينا فيه عجائب قدرته، وهذا مثل ما دعا موسى وهارون - عليهما الصلاة والسلام - على فرعون، ففي كل مقام حال مناسبة، والله تعالى أعلم.
وروى الإمام أحمد عن أنس أن النبي ﷺ كسرت رباعيته يوم أحد، وشج في جبهته حتى سال الدم على وجهه فقال: كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم ؟ فأنزل الله: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ [سورة آل عمران:128][5] ورواه مسلم[6]".
هذه الروايات المتعددة في سبب النزول روايات صحيحة، وهي صريحة، ومعنى الصريح من أسباب النزول هو ما ذكر فيه سبب، أو حادثة، أو سؤال، ثم قال بعد: فأنزل الله كذا، أو فنزلت الآية، فهذا كله من قبيل الصريح، تارة بأنها نزلت في لعن النبي ﷺ لرجال من قريش بأعيانهم، أو في دعائه ﷺ على قبائل، أو فيما حصل له ﷺ في أحد حينما قال ما قال، هذه كلها أسباب صحيحة، وصريحة، فإن تقارب الزمان كان ذلك متقارباً، والقاعدة أنه إذا تعددت أسباب النزول فإنه ينظر إلى الثبوت، ثم نختار الصحيح، ثم العبارة فنختار الصريح، ثم إنْ تقارب الزمان حُملت الآية على هذه الأسباب جميعاً، يقال: حصل كذا، وحصل كذا، وحصل كذا، فنزلت الآية بعد هذه الأشياء جميعاً، وإنْ تباعد حُمل على تكرر النزول، أي أنها نزلت في أكثر من مناسبة، وبعض أهل العلم في مثل هذا الموطن يعمد إلى الترجيح بطريقة من طرق الترجيح الكثيرة، كأن يرجح مثلاً رواية الصحيحين، أو رواية البخاري أو نحو هذا، ولكن الترجيح فيه إهدار لأحد الأدلة، والجمع مطلوب ما أمكن، فمثل هذه الأشياء حينما دعا النبي ﷺ على هؤلاء من قريش وغيرهم وما وقع في أحد، هذه القضايا متقاربة، حيث إن هناك أشياء وقعت بعد أحد فينظر في مثل هذا.
- أخرجه البخاري في كتاب التفسير - باب تفسير سورة آل عمران (4283) (ج 4 / ص 1661).والنسائي في كتاب صفة الصلاة - باب لعن المنافقين في القنوت(1078) (ج 2 / ص 203).
- أخرجه الترمذي في كتاب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ باب تفسير سورة آل عمران (3004) (ج 5 / ص 227) وأحمد (5674) (ج 9 / ص 486) وصححه الألباني في صحيح الترمذي برقم (3004).
- أخرجه البخاري في كتاب التفسير - باب تفسير سورة آل عمران (4284) (ج 4 / ص 1661) ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة - باب استحباب القنوت في جميع الصلاة إذا نزلت بالمسلمين نازلة (675) (ج 1 / ص 466) واللفظ للبخاري.
- أخرجه البخاري معلقاً في كتاب المغازي - باب لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ [(128) سورة آل عمران] (ج 4 / ص 1493) وأخرجه مسلم عن أنس في كتاب الجهاد والسير - باب غزوة أحد (1791) (ج 3 / ص 1417).
- أخرجه الترمذي في كتاب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ باب تفسير سورة آل عمران (3002) (ج 5 / ص 226) وأحمد (11974) (ج 3 / ص 99) وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين.
- صحيح مسلم عن أنس في كتاب الجهاد والسير - باب غزوة أحد (1791) (ج 3 / ص 1417).