"أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً [آل عمران:130] قال: كانوا يزيدون فيه كلما حَلَّ عامًا بعد عام."
قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً [آل عمران:130] هنا يَرِدْ سؤال في المناسبة، ووجه الارتباط بين هذه الآية، والتي قبلها، فالآيات تتحدث عن غزوة أُحُد، فجاءت آية الربا هذه في ثناياها، لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً [آل عمران:130] فمثل هذا نحتاج معه إلى بيان المناسبة.
قد تكون بيان المناسبة في غاية الوضوح لا حاجة للتذكير بها، كما في الآيات السابقة وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ. . . [آل عمران:123 - 124] إلى آخره.
لكن هنا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً [آل عمران:130] في ثنايا الحديث عن غزوة أُحُد، يحتاج إلى بيان، فما وجه الارتباط؟
يمكن أن يُقال - والله أعلم - بأن الحديث هنا عن المدد بالملائكة، والنصر الذي لا يكون إلا من الله، والربا: فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ[البقرة:279] فإن تعاطي الربا يكون سببًا للخذلان، والهزيمة، وهو من أعظم أسبابها؛ لأن صاحبه قد أعلمه الله بالحرب فَأْذَنُوا [البقرة:279] أعلمهم بحرب الله، ورسوله، فكيف يُنصَر من كان بهذه كالمثابة؟! هذا وجه.
ويمكن أن يُقال غير هذا، وذلك أنه جاء من حديث أبي هريرة - أن عمرو بن أقيش كان له ربا في الجاهلية، فكَرِهَ أن يُسلم حتى يأخذه، فجاء يوم أُحد، فقال: أين بنو عمي؟ قالوا: بأُحُد، قال: أين فلان؟ قالوا: بأُحُد، قال: فأين فلان؟ قالوا: بأُحُد، فلبس لأمته - والمقصود ما يلبسه المقاتل من السلاح - وركب فرسه، ثم توجه قِبَلَهُم، فلما رآه المسلمون، قالوا: إليك عنا يا عمرو، قال: إني قد آمنتُ، فقاتل حتى جُرِح، فحُمل إلى أهله جريحًا، فجاء سعد بن معاذ، فقال لأخته: سليه، حَمِيَّةً لقومِك؟ أو غضبًا لهم؟ أم غضبًا لله؟ يعني: ما أخرجك لأُحُد؟ فقال: بل غضبًا لله، ولرسوله، فمات فدخل الجنة، وما صلى لله صلاةً. هذا أخرجه أبو داود في سننه، وقال الحافظ: هذا إسنادٌ حسن وحسنه الشيخ ناصر الألباني في صحيح سنن أبي داوود والحاكم قال صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه.
يقول الحافظ بن حجر في "العُجاب في بيان الأسباب" يقول: ما زلت أبحث عن مناسبة ذكر آية الربا في وسط ذكر قصةِ أُحُد حتى وقفت على هذا الحديث، فكأنها نزلت فيه، فترك الربا، وخرج إلى الجهاد، فاستُشهِد، أو أن، ورثته طالبوا بما كان له من الربا فنُهوا عنه بالآية المذكورة.
لاحظ وجه الارتباط ظاهر على هذا، وهو أن هذا الرجل كان يتعامل بالربا، فخرج إليهم في أرض المعركة، وقاتل فقُتِل، وكان الرجل يتعامل معهم بالربا يداينهم بالربا، فظنوا أنه قد جاء ليُطالب بما له من ربا يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً [آل عمران:130].
فهذا وجه الارتباط بناءً على هذه الرواية، وهذا جيد.
وقوله: أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً [آل عمران:130] قال: كانوا يزيدون فيه كل ما حلَّ عامًا بعد عام.
يعني: يقولون له تقضي، أو تربي، تزيد فيزيد، فهنا: لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً [آل عمران:130] جاءت هذه الآية بناءً على ما كان في الجاهلية، فيتضاعف المال.
وجاء بهذه الصورة التي هي أقبح، وأشد وطأةً في أثر الربا، وما ينتج عنه، تنفيرًا للنفوس أن تعاطيه.
ولكن هل لهذه الآية مفهوم مخالفة؟ بمعنى: أنه لو قال قائل: الربا إذا لم يكن كذلك نسبة اثنين، ونصف بالمائة، فهل هذا جائز؟
وقد قال بعض المفترين مثل هذا الكلام محتجًا بهذه الآية، قال: فيجوز الربا إذا لم يكن أضعافًا مضاعفة؛ لأن الله إذا ما نهى عنه بهذه الصورة، أضعافًا مضاعفة، فمفهوم المخالفة: إن لم يكن على أضعافٍ مضاعفة فهو جائز، وهذا افتراءٌ على الله، فإن ذلك جاء يحكي واقعًا كانوا عليه.
ومعلومٌ أن مفهوم المخالفة حُجَّة، ولكنه لا يعتبر في مواضع ذكرها العلماء، كما قال صاحب المراقي: "ودع إذا ما الساكتُ منه خاف".
الساكت في كلام الناس - الله لا يخاف من أحد - لكن عمومًا مفهوم حتى في كلام الناس.
"أو جَهِل النطق" هذا في كلام الناس جهل المنطوق، فذكر، أو جَهِل النطق فَذُكِرَ له المنطوق فلا مفهومَ له.
"أو النطق إن جلب للسؤلي" كان جوابًا على سؤال بقدر السؤال، فلا مفهوم له.
"أو جرى على الذي غلب" يعني: على الغالب في ذلك الوقت.
"أو امتنانٍ" على سبيل الامتنان، لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا [النحل: 14].
والقديد المجفف من ميتة البحر، والمجفف منه المملح، ما يؤكل؟ يؤكل، لكن هذا على سبيل الامتنان، فلا مفهوم له.
"أو - هذا الشاهد - وفاق الواقع" جاءت الآية على وفاق واقع معين تحكيه مثل: تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا [النور:33] عبد الله بن أبي كان عنده جاريتان أسلما، وكان يكرههما على الزنا بأجرة - والزنا بأجرة هو البِغاء - فنزلت هذه الآية.
ولا يقال: إنها إن لم ترد التحصن فلا بأس، لا، لا يجوز أن يمكنها من الزنا، لكنه قال: وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا [النور:33] بناءً على واقعة معينة، جاريتان أسلمتا، وأرادتا التحصن، فكان يكرههن، ويضربهن على الزنا بأجرة؛ ليكتسب من ورائهن، فنزلت الآية لوفاق واقع معين، فلا مفهوم لها.
فهذه الحالات التي لا يعتبر فيها مفهوم المخالفة، فهنا لو كان الربا ليس بأضعاف مضاعفة هل يجوز؟ لو كان نسبة ربع بالمائة، ما هو واحد في المائة، أو أقل، فإنه لا يجوز، وكل قرض جرَّ نفعًا أيًا كان، فهو ربا لا يجوز.
فهذه الآية لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً [آل عمران:130] جاء على وفاق الواقع؛ ولذلك فإن قوله - تبارك، وتعالى - في الحجاب للحرائر: يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ [الأحزاب:59].
فلو صار الناس إلى حال كما في بعض بلاد الكفار إذا لبست الحجاب، أو خمرت، وجهها تؤذى يعني: صار الحجاب سببًا للأذى، هل يُقال: ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ [الأحزاب:59] مفهوم المخالفة: أنها إذا كانت تؤذى بسبب الحجاب عكست القضية، فلا تحتجب تترك الحجاب؛ لأن المقصود هو ألا تؤذى، تلبس الحجاب تُعرف أنها حرة؛ لأن بعض المنافقين، وضعفاء النفوس كانوا يتعرضون للإماء، للجواري؛ لنقص شرفهن، فيجترئ عليها بالتحرش، ونحو ذلك، يتعرض لها، لكن الحرة إذا رأى الحجاب الكامل عرف أنها حرة، فلم يجرؤ عليها ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ [الأحزاب:59] فإذا عكست القضية، وصار الحجاب سببًا للأذى هل مفهوم المخالفة ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ [الأحزاب:59] يُقال لا تحتجب؟
للأسف، أنه قد وُجِد مَنْ قال هذا في هذه الأيام، حينما ذُكِر بعض النساء اللاتي أوذين، وأوقفن بسبب الحجاب في بعض تلك البلاد.
فهذا غلط؛ لأن هذه الآية: ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ [الأحزاب:59] لا مفهوم لها، فمفهوم المخالفة غير معتبر هنا؛ لأن ذلك جاء على وفاق واقعٍ معين، أن بعض ضعفاء النفوس كانوا يتعرضون للإماء دون الحرائر حيث لا يجترؤون عليهن، فأمر الله بأن يدنين عليهن من جلابيبهن ليُعرف أنهن حرائر، فلا يتجرأ عليهن أحد.
فلو كان ذلك سببًا للأذى عن الحجاب، هل يُقال بأن المفهوم يقتضي ألا تحتجب؟! يُقال: لا، يجب أن تحتجب؛ لأن المرأة عورة، والآية لا مفهوم لها، وهذا هو الفهم الصحيح المبني على قواعد الأصول، ولا يُقال غير هذا بحالٍ من الأحوال.
ثم أيضًا هناك ما يُقال قبل هذا، وبعده، الله - تبارك، وتعالى - أمر النساء بالقرار في البيوت وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ [الأحزاب: 33] ليست مطالبة بالخروج، والذهاب، لا سيما السياحة في بلاد الكفار فإنها لا تجوز، وإنما يجوز السفر إلى بلاد الكفار بشروط، معتبرة ذكرها العلماء، ومن هذه الشروط أن يكون معتزًا بدينه قادرًا على إظهاره، فالمرأة التي لا تستطيع أن تتحجب هي غير قادرة، ومن ثمَّ فليس لها أن تسافر، وليس هناك ضرورة، وليس للإنسان أن يذهب إلى بلادٍ تظهر فيها المنكرات، والكفر، ولا يستطيع أن يُغيِّر من ذلك قليلًا، ولا كثيرًا، ويسافر إلى ذلك آلاف الأميال.
والله - تبارك، وتعالى - يقول: فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ [النساء:140] وقال: إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ [النساء:140] يسافر إلى أماكن تظهر فيها محادة الله، ومحادة رسوله ﷺ بحجة السياحة، فيرى ما لا قِبَلَ له به من أنواع الشرور، والمنكرات، والفتنة، كيف إذا كان يُضايَق في دينه، ويتعرض للأذى؟ فلربما أمر نساءه أن يتخلين عن الحجاب، هل هذا يُقال يجوز له أن يذهب؟ أبدًا، يبقى في بلاد المسلمين، ولا يُعَرِّض نفسه لهذه الشرور، والمشكلات.
هذا هو النظر الصحيح، وللأسف أن هذه الآية قد يستدل بها على خلاف مقصود الشارع، وأظن أن هذا المعنى واضح - والله المستعان -.