الأربعاء 21 / ذو الحجة / 1446 - 18 / يونيو 2025
وَسَارِعُوٓا۟ إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"ثم ندبهم إلى المبادرة إلى فعْل الخيرات، والمسارعة إلى نيل القربات فقال تعالى: وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [سورة آل عمران:133] أي: كما أعدّت النار للكافرين.
وقد قيل: إن معنى قوله: عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ تنبيهًا على اتساع طولها، كما قال في صفة فُرُش الجنة: بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ [سورة الرحمن:54] أي: فما ظنك بالظهائر؟".

وجه الارتباط بين المثالين أنه في هذه الآية: بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ يقصد أنه ليس بحاجة إلى أن يبين حال الظواهر، بمعنى أنه إذا كانت البواطن التي توضع عادة من وضيع الثياب من الأقمشة التي لا قيمة لها؛ لأنها لا تظهر للناس جعلت من إستبرق فما بالك بالظواهر؟ إذاً: هذه لا يُحتاج أن توصف.
وإذا كان تراب الجنة من مسك، والزعفران حشيش نابت فيها؛ فما بالك بجواهرها، فالمقصود أن هناك أشياء ينبه بها على أشياء.
وهنا في قوله - تبارك وتعالى -: عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ يحتمل معنيين:
المعنى الأول: بما أن السماوات جمع، والأرض جنس يصدق على الأرضين السبع، فمن أهل العلم من يقول: إن المراد أن هذه السماوات العظيمة إذا بسطت كبسط الثياب، ووصل بعضها ببعض، وبسطت الأرض بطبقاتها السبع، ووصلت وصل الثياب؛ فهذا هو عرض الجنة.
المعنى الثاني: من أهل العلم من يقول: إن ذلك على طريقة العرب في المبالغة، فإذا أرادوا ذكر سعة شيء ذكروا مثل هذا، فقوله: عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أي أنها واسعة العرض.
ومن أهل العلم من قال: إن ذكر العرض يغني عن ذكر الطول؛ لأن العرض عادة أقل من الطول، والعرب تذكر عرض الشيء ليفهم السامع قدر طوله، فإذا كان العرض بهذا المقدار عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إذاً: فطولها لا شك أنه أعظم من هذا، ولكن هذا لا يجزم به هنا حيث لا يلزم أن تكون الجنة مستطيلة.
والعلماء يتكلمون في الأفلاك أن لها صفة الكروية، وأن العرش بمنزلة القبة، أو بمنزلة السقف للجنة، والنبي ﷺ قال: إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس الأعلى فإنه أعلى الجنة وسقفه عرش الرحمن[1] وذكر أنه تفجر منه أنهار الجنة، فلا يلزم أن تكون الجنة مستطيلة، لكن فهم بعض أهل العلم من ذكر العرض وأنه بهذه المثابة من الاتساع أن ذلك دليل على أن الطول أعظم، وهذا لا يلزم؛ فالعرب قد تذكر العرض في أغلب كلامها، والله أعلم.
"وقيل: بل عرضها كطولها؛ لأنها قبة تحت العرش، والشيء المقبب والمستدير عرضه كطوله، وقد دل على ذلك ما ثبت في الصحيح: إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس فإنه أعلى الجنة، وأوسط الجنة، ومنه تفجر أنهار الجنة، وسقفه عرش الرحمن[2]، وهذه الآية كقوله تعالى في سورة الحديد: سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ الآية [سورة الحديد:21]".

قوله: كَعَرْضِ السَّمَاء السماء هنا جنس، والجنس يصدق على الواحد، والكثير، فلا إشكال بين هذه الآية وآية آل عمران: عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ [سورة آل عمران:133].
"روى البزار عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى رسول الله ﷺ فقال: أرأيت قوله تعالى: وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ [سورة آل عمران:133] فأين النار؟ قال: أرأيت الليل إذا جاء لبس كل شيء فأين النهار؟ قال: حيث شاء الله، قال: وكذلك النار تكون حيث شاء الله [3]، وهذا يحتمل معنيين:
أحدهما: أن يكون المعنى في ذلك أنه لا يلزم من عدم مشاهدتنا الليل إذا جاء النهار ألا يكون في مكان وإن كنا لا نعلمه، وكذلك النار تكون حيث يشاء الله .
الثاني: أن يكون المعنى أن النهار إذا تغشى وجه العالم من هذا الجانب، فإن الليل يكون من الجانب الآخر، فكذلك الجنة في أعلى عليّين فوق السماوات تحت العرش، وعرضها كما قال الله : كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ [سورة الحديد:21] والنار في أسفل سافلين فلا تنافي بين كونها كعرض السماوات والأرض، وبين وجود النار، والله أعلم".

على كل حال هذه الأمور الغيبية الإنسان لا يخوض فيها، وإنما يؤمن بها كما أخبر الله .
  1. سيأتي تخريجه.
  2. أخرجه أحمد (22790) (ج 5 / ص 321) وأصله في البخاري في كتاب الجهاد والسير - باب درجات المجاهدين في سبيل الله  يقال هذه سبيلي وهذا سبيلي (2637) (ج 3 / ص 1028).
  3. أخرجه ابن حبان (103) (ج 1 / ص 306) والحاكم (103) (ج 1 / ص92) وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم.

مرات الإستماع: 0

" سارعوا بغير واو استئناف، وبالواو عطفٌ على ما تقدم."

نعم، سارعوا، وسارعوا: قراءتان متواترتان فقراءة الجمهور بالواو، وسارعوا خلافًا لنافع، وابن عامر، سارعوا بغير واو، "سارعوا" استئناف جملة جديدة استئنافية، وبالواو عطف على ما تقدم: لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَسَارِعُوا [آل عمران:130، 133].

نهاهم عن أكل الربا الذي يكون سببًا للعقوبات العامة، والخاصة، وأمرهم بالمسارعة إلى مغفرةٍ من الله - تبارك، وتعالى - وجنةٍ عرضها السماوات، والأرض، كما هي عادة الشارع إذا نهى عن شيء أمر بما ينفع، ويرفع؛ لأن النفوس - كما قال شيخ الإسلام - لم تُخلق للترك، فالترك مقصودٌ لغيره، وإنما خلقت للفعل.

يعني: لعمارة القلوب بالإيمان، بطاعة الله، وبطاعة رسوله ﷺ، ولهذا لا يصلح في التربية أن الناس توجه لهم المنهيات، والنواهي، لا تفعل، لا تفعل، لا تفعل، لا تفعل، لا تفعل.

طيب! وماذا أفعل، هذا مقصود لغيره، لا تفعل، لكن هو بحاجة أن يُعَلَّم ماذا يفعل؛ ليكون قلبه معمورًا بالإيمان، فهذا هو المقصود لذاته.

وأيضًا من الأمور التي قد تفيد في هذا الموضع: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ [آل عمران:133] هل المغفرة شيء يمكن للإنسان أن يسارع له، ويراه، ويشاهده، ويجده بين يديه، ويسارع إليه؟ والجنة كذلك يستطيع الإنسان أن يهرول إليها برجله؟ لا لا يدخل أحد منكم الجنة بعمله[1].

إذًا، يكون ذلك محمله على المسارعة إلى أسباب المغفرة، ادخلوا الجنة بالأعمال الصالحة؛ لأن القاعدة: "أن خطاب الشارع إذا توجه إلى المكلف بشيءٍ غير مقدور؛ فإنه ينصرف إلى سببه، أو إلى أثره".

فهنا المغفرة مقدورة، مَنْ أراد المغفرة، والجنة فإنه يتوجه الخطاب إلى السبب، ما هو السبب للمغفرة، والجنة؟ العمل الصالح، والإيمان فيسارع إلى ذلك، فإنه يتوجه إلى سببه، أو إلى أثره، إلى أثره كقوله تعالى في حد الزنا: فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ [النور:2] فالرأفة رحمة رقيقة تتسلل إلى القلب من غير إرادة، فكيف ينهاهم عن شيء لا يملكونه، فكان هذا متوجهًا إلى الأثر، ما هو الأثر؟ إسقاط الحد، أو تقليل العدد، أو تخفيفه، يكون تحلة قسم، شيء لا يذكر من الجلد من باب كما يُقال: تحلة القسم، اسم أنه جلد مائة جلدة، فهذا متوجه إلى الأثر، خطاب الشارع إذا توجه إلى المكلف بشيء غير مقدور؛ لأن الله لا يكلف نفسًا إلا وسعها، لا تكليف بما لا يطاق، فإنه يتوجه إلى سببه، أو إلى أثره.

"قوله: إِلَى مَغْفِرَةٍ أي: إلى الأعمال التي تستحقون بها المغفرة."

هذا السبب.

قوله: عَرْضُهَا قال ابن عباس: تقرن السماوات، والأرض بعضها إلى بعض كما تبسط الثياب، فذلك عرض الجنة، ولا يعلم طولها إلا الله[2] وقيل: ليس العرض هنا خلاف الطول، وإنما المعنى ساعتها كسعة السماوات، والأرض".

يقول: قال ابن عباس: قاله كثيرون أيضًا غير ابن عباس، كثير من السلف، عرضها تقرن السماوات، والأرض بعضها إلى بعض كما تبسط الثياب، فذلك عرض الجنة، هذا شيء لا يمكن أن يتصور، السماء الواحدة كم تبلغ؟ فكيف إذا جمعت السماوات السبع، وبسطت كالثياب، هذا خارج عن الحصر، والتصور بالنسبة للبشر، فذلك عرض الجنة، ولا يعلم طولها إلا الله، والقاعدة: أن العرب تذكر العرض لبيان الاتساع مستغنية بذلك عن الطول؛ لأن العرض إذا كان بهذه المثابة فلا تسأل عن الطول، فالعرب تذكر العرض وتكتفي عن الطول، إذا ذُكِرَ هذا العرض، فالطول هذا على القول بأن الطول، طول الجنة أكثر من عرضها، مع أن بعض أهل العلم قال إن الطول، والعرض متساوي، لأن النبي ﷺ لما ذكر الفردوس ذكر أنه أعلى الجنة، وأن سقفه عرش الرحمن، فبعضهم قال: بأن العرش مثل قبعة، وتحته، وما كان كذلك كانت أجزاؤه متساوية، الطول، والعرض، والعلم عند الله .

لكن هذه قاعدة معروفة أن العرب تذكر العرض مكتفية عن الطول؛ ولهذا بعضهم يقول: إن ذلك ذكر على سبيل المبالغة على طريقة العرب، عرضها السماوات، والأرض، يعني: ليس بالضرورة أنها تبسط كبسط الثياب السماوات السبع، وإنما لبيان الاتساع، وبعضهم يذكر مثل هذا، يقول: هذا تنبيه على اتساع الطول، وخلافًا لمن قال بأن العرض كالطول لما سبق - والله أعلم -. لكن على كل حال: قول الصحابي إذا صح فإنه مقدم على غيره.

  1. أخرجه أحمد (12/449) رقم: (7479). بهذا اللفظ
  2. تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (1/508).