وقد قيل: إن معنى قوله: عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ تنبيهًا على اتساع طولها، كما قال في صفة فُرُش الجنة: بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ [سورة الرحمن:54] أي: فما ظنك بالظهائر؟".
وجه الارتباط بين المثالين أنه في هذه الآية: بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ يقصد أنه ليس بحاجة إلى أن يبين حال الظواهر، بمعنى أنه إذا كانت البواطن التي توضع عادة من وضيع الثياب من الأقمشة التي لا قيمة لها؛ لأنها لا تظهر للناس جعلت من إستبرق فما بالك بالظواهر؟ إذاً: هذه لا يُحتاج أن توصف.
وإذا كان تراب الجنة من مسك، والزعفران حشيش نابت فيها؛ فما بالك بجواهرها، فالمقصود أن هناك أشياء ينبه بها على أشياء.
وهنا في قوله - تبارك وتعالى -: عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ يحتمل معنيين:
المعنى الأول: بما أن السماوات جمع، والأرض جنس يصدق على الأرضين السبع، فمن أهل العلم من يقول: إن المراد أن هذه السماوات العظيمة إذا بسطت كبسط الثياب، ووصل بعضها ببعض، وبسطت الأرض بطبقاتها السبع، ووصلت وصل الثياب؛ فهذا هو عرض الجنة.
المعنى الثاني: من أهل العلم من يقول: إن ذلك على طريقة العرب في المبالغة، فإذا أرادوا ذكر سعة شيء ذكروا مثل هذا، فقوله: عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أي أنها واسعة العرض.
ومن أهل العلم من قال: إن ذكر العرض يغني عن ذكر الطول؛ لأن العرض عادة أقل من الطول، والعرب تذكر عرض الشيء ليفهم السامع قدر طوله، فإذا كان العرض بهذا المقدار عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إذاً: فطولها لا شك أنه أعظم من هذا، ولكن هذا لا يجزم به هنا حيث لا يلزم أن تكون الجنة مستطيلة.
والعلماء يتكلمون في الأفلاك أن لها صفة الكروية، وأن العرش بمنزلة القبة، أو بمنزلة السقف للجنة، والنبي ﷺ قال: إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس الأعلى فإنه أعلى الجنة وسقفه عرش الرحمن[1] وذكر أنه تفجر منه أنهار الجنة، فلا يلزم أن تكون الجنة مستطيلة، لكن فهم بعض أهل العلم من ذكر العرض وأنه بهذه المثابة من الاتساع أن ذلك دليل على أن الطول أعظم، وهذا لا يلزم؛ فالعرب قد تذكر العرض في أغلب كلامها، والله أعلم.
قوله: كَعَرْضِ السَّمَاء السماء هنا جنس، والجنس يصدق على الواحد، والكثير، فلا إشكال بين هذه الآية وآية آل عمران: عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ [سورة آل عمران:133].
أحدهما: أن يكون المعنى في ذلك أنه لا يلزم من عدم مشاهدتنا الليل إذا جاء النهار ألا يكون في مكان وإن كنا لا نعلمه، وكذلك النار تكون حيث يشاء الله .
الثاني: أن يكون المعنى أن النهار إذا تغشى وجه العالم من هذا الجانب، فإن الليل يكون من الجانب الآخر، فكذلك الجنة في أعلى عليّين فوق السماوات تحت العرش، وعرضها كما قال الله : كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ [سورة الحديد:21] والنار في أسفل سافلين فلا تنافي بين كونها كعرض السماوات والأرض، وبين وجود النار، والله أعلم".
على كل حال هذه الأمور الغيبية الإنسان لا يخوض فيها، وإنما يؤمن بها كما أخبر الله .
- سيأتي تخريجه.
- أخرجه أحمد (22790) (ج 5 / ص 321) وأصله في البخاري في كتاب الجهاد والسير - باب درجات المجاهدين في سبيل الله يقال هذه سبيلي وهذا سبيلي (2637) (ج 3 / ص 1028).
- أخرجه ابن حبان (103) (ج 1 / ص 306) والحاكم (103) (ج 1 / ص92) وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم.