الأربعاء 21 / ذو الحجة / 1446 - 18 / يونيو 2025
ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ فِى ٱلسَّرَّآءِ وَٱلضَّرَّآءِ وَٱلْكَٰظِمِينَ ٱلْغَيْظَ وَٱلْعَافِينَ عَنِ ٱلنَّاسِ ۗ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"ثم ذكر تعالى صفة أهل الجنة فقال: الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء [سورة آل عمران:134] أي: في الشدة والرخاء، والمنشط والمكره، والصحة والمرض؛ وفي جميع الأحوال، كما قال: الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً [سورة البقرة:274] والمعنى أنهم لا يشغلهم أمر عن طاعة الله تعالى، والإنفاق في مراضيه، والإحسان إلى خلقه من قراباتهم وغيرهم بأنواع البر".

يعني قدموا الإحسان، والبذل، والنفقة حيث دعت الحاجة سواء كان ذلك في الليل، أو في النهار، وينفقون في السراء، وفي الضراء، ومن الناس من يبخل في حال السراء، ولا ينشط للنفقة، ومن الناس من يمسك في حال الضراء، ويزداد خوفه على ما في يده، وتنتابه ألوان الوساوس، فيزداد حرصه فلا يبذل شيئاً.
"وقوله تعالى: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ [سورة آل عمران:134] أي: إذا ثار بهم الغيظ كظموه بمعنى كتموه فلم يُعملوه، وعفوا مع ذلك عمن أساء إليهم.
وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: ليس الشديد بالصرعة، ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب[1] وقد رواه الشيخان.
وروى الإمام أحمد عن ابن عباس - ا - قال: قال رسول الله ﷺ: من أنظر معسراً، أو وضع له؛ وقاه الله من فيح جهنم، ألا إن عمل الجنة حَزْنٌ بربوة - ثلاثاً -، ألا إن عمل النار سهل بسهوة".

قوله: حَزْنٌ بربوة الربوة هي المكان المرتفع، والحزن هو الصعب أو الذي يصعب المشي فيه، فهو ليس سهلاً، والمعنى أن ذلك يحتاج إلى جهد، ومجاهدة، ومشقة، وصبر، وتحمل.
وقوله: ألا إن عمل النار سهل بسهوة السهوة هي الأرض ذات التربة اللينة، السهلة التي يسهل المشي عليها دون مشقة.
"من أنظر معسراً، أو وضع له؛ وقاه الله من فيح جهنم، ألا إن عمل الجنة حَزْنٌ بربوة - ثلاثاً -، ألا إن عمل النار سهل بسهوة، والسعيد من وقي الفتن، وما من جرعة أحب إلى الله من جرعة غيظ يكظمها عبد، ما كظمها عبد لله إلا ملأ جوفه إيماناً[2] انفرد به أحمد، وإسناده حسن ليس فيه مجروح، ومتنه حسن".

وبعض أهل العلم ضعف الحديث؛ لأن فيه رجلاً مجهولاً، لكن قوله: من أنظر معسراً يوجد ما يشهد له[3]، ولهذا فهو يحتمل التحسين، لكن إسناده عند الإمام أحمد فيه رجل مجهول.
"وروى الإمام أحمد عن سهل بن معاذ بن أنس عن أبيه أن رسول الله ﷺ قال: من كظم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه؛ دعاه الله على رؤوس الخلائق، حتى يخيره من أي الحور شاء[4] ورواه أبو داود والترمذي، وابن ماجه، وقال الترمذي: حسن غريب.
وروى ابن مردويه عن ابن عمر - ا - قال: قال رسول الله ﷺ: ما تجرع عبد من جرعة أفضل أجراً من جرعة غيظ كظمها ابتغاء وجه الله [رواه ابن جرير وكذا رواه ابن ماجه][5]".

وهذا يشهد لبعض الحديث السابق، وهذا هو المعتاد المعمول به.
"فقوله تعالى: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ [سورة آل عمران:134] أي لا يُعملون غضبهم في الناس بل يكفون عنهم شرهم، ويحتسبون ذلك عند الله .
ثم قال تعالى: وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ [سورة آل عمران:134] أي: مع كف الشر يعفون عمن ظلمهم في أنفسهم، فلا يبقى في أنفسهم موجدة على أحد، وهذا أكمل الأحوال، ولهذا قال: وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ فهذا من مقامات الإحسان، وفي الحديث: ثلاث أقسم عليهن: ما نقص مال من صدقة، وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً، ومن تواضع لله رفعه الله[6]".

هذا التفسير مثل ما تقول: عفت الريح الأثر إذا طمسته، ومحته، فلا يبقى له في النفس بقية أو أثر، وأما الصفح فهو الإعراض كما في قوله تعالى: فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ [سورة البقرة:109] فالصفح من صفحة العنق وهو أن يُعرض الإنسان عن إساءة المسيء، وقد يُعرض الإنسان لكن يبقى في نفسه شيء، وقد يذهب الذي في النفس لكنه يحتاج إلى معاتبة لسبب أو لآخر، والذي ينبغي للمسلم أن يعفو ويصفح.
  1. أخرجه البخاري في كتاب الأدب - باب الحذر من الغضب (5763) (ج 5 / ص 2267) ومسلم في كتاب البر والصلة والآداب - باب فضل من يملك نفسه عند الغضب وبأي شيء يذهب الغضب (2609) (ج 4 / ص 2014).
  2. أخرجه أحمد (3017) (ج 1 / ص 327) وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده ضعيف جداً.
  3. صحيح مسلم في كتاب الزهد والرقائق - باب حديث جابر الطويل وقصة أبي اليسر (3006) (ج 4 / ص 2301).
  4. أخرجه أبو داود في كتاب الأدب - باب من كظم غيظاً (4779) (ج 4 / ص 394) وابن ماجه في كتاب الزهد - باب الحلم (4186) (ج 2 / ص 1400) وأحمد (15675) (ج 3 / ص 440) وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده حسن.
  5. أخرجه ابن ماجه في كتاب الزهد - باب الحلم (4189) (ج 2 / ص 1401) وأحمد (6114) (ج 2 / ص 128) وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب برقم (2752).
  6. أخرجه أحمد (18060) (ج 4 / ص 231) وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (3024).

مرات الإستماع: 0

" فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ [آل عمران: 134] في العسر، واليسر."

السراء: بمعنى السرور، والفرح، واللذة في القلب عند حصول النفع، أو توقع ذلك، أو عند رؤية أمر يعجب، في السراء الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ [آل عمران:134].

والضراء سوء الحال، والفقر، والقحط، فالضر خلاف النفع، يقول الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: في الشدة، والرخاء، والمنشط، والمكره، والصحة، والمرض، وفي جميع الأحوال، وهذا جيد، ينفقون في السراء، والضراء.

قد يقول قائل: بأن ذكر الإنفاق في حال الضراء ظاهر وجهه، يعني: إذا كان سابح شديد البؤس فقير، فقد يضن بما في يده، فإذا أنفق فإن ذلك يدل على يقين، وإيثار، وإيمان ثابت.

لكن في السراء في حال الرخاء، ونحو ذلك، بعض أهل العلم يقول: أن الإنسان قد يكون في حال الضراء في سكرة، وغفلة، فلا ينفق، فيكون في حال من اللهو، ولكن الله ذكر الأحوال كلها، ففي حال السراء التي يغفل فيها من يغفل، ويلهو من يلهو بما في يده من النعمة، وقد يطغى كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى ۝ أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [العلق:6 - 7] فلا يلهيه ما هو فيه من سعة العيش عن الإنفاق، والبذل، وكذلك في حال الضراء، والشدة، فهو ينفق أيضًا؛ حيث أن الكثيرين يضن بما في يده، إذا كانت الأمور شديدة، والأحوال المعيشية صعبة، ونحو ذلك، وكثيرون يقبضون أيديهم؛ لضعف يقينهم، كما قال الله - تبارك، وتعالى -: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا [البقرة:268] فهذه عدة الشيطان، فإذا تسامع الناس بأحوال، وأمور تنبئ عن ضيق عيش، أو نحو ذلك، ضن الواحد بما في يده، وامتنع عن الصدقة، ولربما عن الزكاة، وتعلل بمثل هذه العلل، وما علم أن خزائن السموات، والأرض بيد الله -   يا ابن آدم أَنْفِق أُنْفَق عليك[1] وأنه ما نقص مال من صدقة، لكن ضعف اليقين، وضعف الثقة بالله هو الذي يحمل الإنسان على مثل تلك التصرفات. 

  1. أخرجه البخاري، كتاب النفقات، باب فضل النفقة على الأهل، رقم: (5352) ومسلم، كتاب الزكاة، باب الحث على النفقة، وتبشير المنفق بالخلف، رقم: (993).