الخميس 17 / ذو القعدة / 1446 - 15 / مايو 2025
وَٱلَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا۟ فَٰحِشَةً أَوْ ظَلَمُوٓا۟ أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا۟ ٱللَّهَ فَٱسْتَغْفَرُوا۟ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ إِلَّا ٱللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا۟ عَلَىٰ مَا فَعَلُوا۟ وَهُمْ يَعْلَمُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"وقوله تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ [سورة آل عمران:135] أي: إذا صدر منهم ذنب أتبعوه بالتوبة والاستغفار".

قوله: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً هذا يحتمل أن يكون من قبيل الاستئناف أي أنه كلام مستأنف جديد باعتبار أن هذه فئة أخرى غير الأولى، فالفئة الأولى أكمل، وهي فئة الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ [سورة آل عمران:134]، فهؤلاء أصحاب الدرجات العالية، ثم تأتي طبقة دون هؤلاء من أهل الجنة وهم الذين يحصل منهم إساءة، وتقصير، ولكنهم لا يصرون على ذلك بل يتوبون، وهم فئة الذين إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ [سورة آل عمران:135] فهذا احتمال مشى عليه بعض أهل العلم، والمعنى الثاني - وهو الأقرب والله تعالى أعلم -، واختاره ابن جرير - رحمه الله -: أن ذلك من قبيل العطف على ما سبق، وأن هذه الأوصاف جميعاً لطائفة واحدة، أي أنهم بهذه المثابة من الإحسان، والبذل، والإنفاق، والعفو، والكظم للغيظ، وإذا بدر منهم شيء فإنهم لا يصرون على ذلك، بل يبادرون إلى التوبة.
"روى الإمام أحمد عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: إن رجلاً أذنب ذنباً، فقال: رب إني أذنبت ذنباً فاغفره، فقال الله : عبدي عمل ذنباً فعلم أن له رباً يغفر الذنب، ويأخذ به؛ قد غفرت لعبدي، ثم عمل ذنباً آخر فقال: رب! إني عملت ذنباً فاغفره، فقال - تبارك وتعالى -: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب، ويأخذ به، قد غفرت لعبدي، ثم عمل ذنباً آخر فقال: رب! إني عملت ذنباً فاغفره لي، فقال الله : علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب، ويأخذ به، قد غفرت لعبدي، ثم عمل ذنباً آخر فقال: رب! إني عملت ذنباً فاغفره لي، فقال الله : علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب، ويأخذ به، أشهدكم أني قد غفرت لعبدي، فليعمل ما شاء [أخرجه في الصحيح بنحوه]"[1].

يذكر هذا الحديث ونظائره عند الكلام على الرجاء، ومثل هذه الأحاديث لا تكون مسوغاً للإنسان أن يستمرئ الذنوب والمعاصي، وإنما هي في الإنسان الذي تغلبه نفسه فيتوب، ولا يصر على الذنب، ثم تغلبه نفسه فيبادر إلى التوبة، فمثل هذه النصوص يعالج بها اليائس، والقانط، وأولئك الجهال الذين يأتيهم الشيطان، ويقول: أنتم تعملون ذنوباً ثم تظهرون للناس بحلية وصورة أخرى فأنتم تنافقون، وهكذا يحرضهم على ترك العمل الصالح بالكلية، فمثل هؤلاء تفيدهم مثل هذه الأحاديث، لكن هناك أحاديث، ونصوص، وآيات أخرى تدل على شدة أخذ الله ، وعقابه، ونكاله، فيجب أن تجمع هذه النصوص مع تلك.
"وقد روى عبد الرزاق عن أنس بن مالك قال: بلغني أن إبليس حين نزلت: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ الآية [سورة آل عمران:135] بكى.
وقوله تعالى: وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ [سورة آل عمران:135] أي: لا يغفرها أحد سواه.
وقوله: وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [سورة آل عمران:135] أي: تابوا من ذنوبهم، ورجعوا إلى الله عن قريب، ولم يستمروا على المعصية، ويصروا عليها؛ غير مقلعين عنها".

قوله: ذَكَرُواْ اللّهَ [سورة آل عمران:135] يحتمل أن يكون ذكروه بألسنتهم، ويحتمل أنهم ذكروه بقلوبهم، أو ذكروا وعده، ووعيده، وعظمته، وما ينتظرهم من الوقوف بين يديه، فحصل منهم الاستدراك، والرجوع، والندم، والتوبة، ومعلوم أنه ليس من شرط التوبة أن يذكر الإنسان ربه بلسانه إذا أذنب، ولكن المحرك للتوبة ابتداءً هو أن يتذكر الإنسان عظمة الله ، وما وقع في حقه من الإساءة، والتجرؤ عليه، وعلى حدوده، فيكون ذلك دافعاً له إلى الندم؛ لأن الندم أمر قد يطلبه المكلف ولا يحصل له، فالخطاب إذا توجه إلى المكلف بشيء لا يدخل تحت طوقه فإنه يتوجه إلى سببه، أو إلى آثاره، فالندم يكون بتذكر عظمة الله المؤدي إلى الندم، بمعنى أنهم لم يستمروا على الغفلة، فيحصل لهم الإبصار بسبب ذلك.
"وقوله: وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [سورة آل عمران:135] أي: تابوا من ذنوبهم، ورجعوا إلى الله عن قريب، ولم يستمروا على المعصية، ويصروا عليها؛ غير مقلعين عنها، ولو تكرر منهم الذنب تابوا عنه.
وقوله: وَهُمْ يَعْلَمُونَ قال مجاهد وعبد الله بن عبيد بن عُمَير: وَهُمْ يَعْلَمُونَ أن من تاب تاب الله عليه.
وهذا كقوله تعالى: أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ [سورة التوبة:104] وكقوله: وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا [سورة النساء:110] ونظائر هذا كثيرة جداً".

ويحتمل معنىً آخر ذكره بعض أهل العلم، واختاره ابن جرير - رحمه الله - ولعله هو المتبادر، وهو أن معنى وهم يعلمون أي: بسوء صنيعهم، وقبح عملهم، وجنايتهم، فمعنى ذلك أنهم لم يفعلوا هذا الفعل القبيح جهلاً منهم بقبحه، وأن الله حرمه، وإنما المقصود ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون قبح هذا، فإنهم إن كانوا يعلمون أن الله حرمه فهم يبادرون إلى التوبة منه.
"وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو - ا - عن النبي ﷺ أنه قال وهو على المنبر: ارحموا ترحموا، واغفروا يغفر لكم، ويل لأقماع القول، ويل للمصرِّين الذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون[2] تفرد به أحمد".
  1. أخرجه البخاري في كتاب التوحيد - باب قول الله تعالى: {يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ} [(15) سورة الفتح] (7068) (ج 6 / ص 2725) وأحمد (7935) (ج 2 / ص 296).
  2. أخرجه أحمد (6541) (ج 2 / ص 165) وإسناده حسن كما قال الأرناؤوط.

مرات الإستماع: 0

"وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135] حذف مفعوله، وتقديره: وهم يعلمون أنهم قد أذنبوا"

وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135] يعلمون أنهم قد أذنبوا، وأنهم معرضون للعقوبة إن أصروا عليها، ويعلمون وجوب التوبة منها، وأنه يقبل التوبة، كل هذا، وابن جرير - رحمه الله - يقول: يعلمون أي بقبح ذنوبهم[1] ويقول الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: وهم يعلمون أنه من تاب، تاب الله عليه[2] كما قال تعالى: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ [التوبة:104] وفي الحديث: ويل للمصرين الذين يصرون على ما فعلوا، وهم يعلمون[3] يصروا على ما فعلوا، وهم يعلمون، نعم يعني، وهم يعلمون أنها معصية، وهم يعلمون بقبحها، وهم يعلمون أن الله نهى عن ذلك. 

  1. تفسير الطبري (7/219).
  2. تفسير ابن كثير (2/126).
  3. أخرجه أحمد (11/99) رقم: (6541).