قوله: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً هذا يحتمل أن يكون من قبيل الاستئناف أي أنه كلام مستأنف جديد باعتبار أن هذه فئة أخرى غير الأولى، فالفئة الأولى أكمل، وهي فئة الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ [سورة آل عمران:134]، فهؤلاء أصحاب الدرجات العالية، ثم تأتي طبقة دون هؤلاء من أهل الجنة وهم الذين يحصل منهم إساءة، وتقصير، ولكنهم لا يصرون على ذلك بل يتوبون، وهم فئة الذين إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ [سورة آل عمران:135] فهذا احتمال مشى عليه بعض أهل العلم، والمعنى الثاني - وهو الأقرب والله تعالى أعلم -، واختاره ابن جرير - رحمه الله -: أن ذلك من قبيل العطف على ما سبق، وأن هذه الأوصاف جميعاً لطائفة واحدة، أي أنهم بهذه المثابة من الإحسان، والبذل، والإنفاق، والعفو، والكظم للغيظ، وإذا بدر منهم شيء فإنهم لا يصرون على ذلك، بل يبادرون إلى التوبة.
يذكر هذا الحديث ونظائره عند الكلام على الرجاء، ومثل هذه الأحاديث لا تكون مسوغاً للإنسان أن يستمرئ الذنوب والمعاصي، وإنما هي في الإنسان الذي تغلبه نفسه فيتوب، ولا يصر على الذنب، ثم تغلبه نفسه فيبادر إلى التوبة، فمثل هذه النصوص يعالج بها اليائس، والقانط، وأولئك الجهال الذين يأتيهم الشيطان، ويقول: أنتم تعملون ذنوباً ثم تظهرون للناس بحلية وصورة أخرى فأنتم تنافقون، وهكذا يحرضهم على ترك العمل الصالح بالكلية، فمثل هؤلاء تفيدهم مثل هذه الأحاديث، لكن هناك أحاديث، ونصوص، وآيات أخرى تدل على شدة أخذ الله ، وعقابه، ونكاله، فيجب أن تجمع هذه النصوص مع تلك.
وقوله تعالى: وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ [سورة آل عمران:135] أي: لا يغفرها أحد سواه.
وقوله: وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [سورة آل عمران:135] أي: تابوا من ذنوبهم، ورجعوا إلى الله عن قريب، ولم يستمروا على المعصية، ويصروا عليها؛ غير مقلعين عنها".
قوله: ذَكَرُواْ اللّهَ [سورة آل عمران:135] يحتمل أن يكون ذكروه بألسنتهم، ويحتمل أنهم ذكروه بقلوبهم، أو ذكروا وعده، ووعيده، وعظمته، وما ينتظرهم من الوقوف بين يديه، فحصل منهم الاستدراك، والرجوع، والندم، والتوبة، ومعلوم أنه ليس من شرط التوبة أن يذكر الإنسان ربه بلسانه إذا أذنب، ولكن المحرك للتوبة ابتداءً هو أن يتذكر الإنسان عظمة الله ، وما وقع في حقه من الإساءة، والتجرؤ عليه، وعلى حدوده، فيكون ذلك دافعاً له إلى الندم؛ لأن الندم أمر قد يطلبه المكلف ولا يحصل له، فالخطاب إذا توجه إلى المكلف بشيء لا يدخل تحت طوقه فإنه يتوجه إلى سببه، أو إلى آثاره، فالندم يكون بتذكر عظمة الله المؤدي إلى الندم، بمعنى أنهم لم يستمروا على الغفلة، فيحصل لهم الإبصار بسبب ذلك.
وقوله: وَهُمْ يَعْلَمُونَ قال مجاهد وعبد الله بن عبيد بن عُمَير: وَهُمْ يَعْلَمُونَ أن من تاب تاب الله عليه.
وهذا كقوله تعالى: أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ [سورة التوبة:104] وكقوله: وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا [سورة النساء:110] ونظائر هذا كثيرة جداً".
ويحتمل معنىً آخر ذكره بعض أهل العلم، واختاره ابن جرير - رحمه الله - ولعله هو المتبادر، وهو أن معنى وهم يعلمون أي: بسوء صنيعهم، وقبح عملهم، وجنايتهم، فمعنى ذلك أنهم لم يفعلوا هذا الفعل القبيح جهلاً منهم بقبحه، وأن الله حرمه، وإنما المقصود ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون قبح هذا، فإنهم إن كانوا يعلمون أن الله حرمه فهم يبادرون إلى التوبة منه.
- أخرجه البخاري في كتاب التوحيد - باب قول الله تعالى: {يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ} [(15) سورة الفتح] (7068) (ج 6 / ص 2725) وأحمد (7935) (ج 2 / ص 296).
- أخرجه أحمد (6541) (ج 2 / ص 165) وإسناده حسن كما قال الأرناؤوط.