الخميس 17 / ذو القعدة / 1446 - 15 / مايو 2025
قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا۟ فِى ٱلْأَرْضِ فَٱنظُرُوا۟ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلْمُكَذِّبِينَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

قال المفسر - رحمه الله تعالى - في تفسير قوله تعالى: قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ ۝ هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ ۝ وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ۝ إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ۝ وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ۝ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ۝ وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ [سورة آل عمران:137-143].
"يقول تعالى مخاطباً عباده المؤمنين الذين أصيبوا يوم أحد وقتل منهم سبعون: قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ أي: قد جرى نحو هذا على الأمم الذين كانوا من قبلكم من أتباع الأنبياء، ثم كانت العاقبة لهم، والدائرة على الكافرين، ولهذا قال تعالى: فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ [سورة آل عمران:137].
ثم قال تعالى: هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ [سورة آل عمران:138] يعني القرآن فيه بيان للأمور على جليتها، وكيف كان الأمم الأقدمون مع أعدائهم".

فقوله - تبارك وتعالى -: قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ [سورة آل عمران:137] المراد به المثلات التي وقعت للأمم المكذبة، حيث أجرى الله العادة بأن يعذب المكذبين الظالمين من الأمم التي كانت قبلنا، ويأخذهم بذنوبهم، فأرشد إلى النظر في هذا فقال: فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ [سورة آل عمران:137]، وهذا الأمر هو لمن كان عنده شيء من التردد، والشك، أو التكذيب.
ولا مستمسَك في هذه الآية لطوائف المتكلمين ممن قالوا: إن أول ما يجب على المكلف هو النظر؛ لأن الله قال: فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ [سورة آل عمران:137] وإنما أمر الله بالنظر لمن كان عنده تردد، أو شك، أو تكذيب، ولم يؤمر به أهل الإيمان الذين ثبتوا، فهم لا يحتاجون إلى مثل هذا كأبي بكر الصديق وأمثاله، وقد قال القائل:
وليس يصح في الأذهان شيءٌ إذا احتاج النهار إلى دليل
قوله - تبارك وتعالى -: هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ [سورة آل عمران:138]، قال: يعني القرآن فيه بيان للأمور على جليتها، وبعض أهل العلم يقول: إن اسم الإشارة في قوله: هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ يعود إلى الآية التي قبلها، وهي قوله: قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ [سورة آل عمران:137] أي أن السياق يكون هكذا: قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ.. [سورة آل عمران:137]، ثم قال: هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ [سورة آل عمران:138]، وهذا فيه بعد والله تعالى أعلم، والأحسن من هذا هو ما ذكره كبير المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله - من أن المراد بقوله: هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ [سورة آل عمران:138] ما ذكره الله قبله من التفاصيل، والأمور التي بيّن بها حال أهل الإيمان والمكذبين الكافرين، وما جرى لهؤلاء، وما جرى لهؤلاء، وما وقع في يوم أحد، وأسباب ذلك، فهذا التفصيل الذي سبق في الآيات هو المراد بقوله: هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ [سورة آل عمران:138].
وما ذكره الحافظ ابن كثير هنا من أنه القرآن لا يبعد من هذا كثيراً؛ لأن القرآن بيان للناس، وهذه الأشياء التي ذكرها الله من الآيات هي من جملة هذا القرآن، وما تضمنه من البيان، والهدايات التي يحتاج إليها الناس، والعلم عند الله .
"وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ [سورة آل عمران:138] يعني القرآن فيه خبر ما قبلكم، وهدىً لقلوبكم، وموعظة للمتقين، أي: زاجر عن المحارم والمآثم".

مرات الإستماع: 0

"قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ [آل عمران:137] خطابٌ للمؤمنين تأنيسًا لهم، وقيل للكافرين تخويفًا لهم."

قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ [آل عمران:137] مضت، وذهبت سنن سنن، سنن يعني: سير أمثال، وطرائق، ومناهج، جمع سنة، وهي الطريق المسلوكة، وبعضهم يقول: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ أمم، جمع سنة: الأمة، وأصل هذه المادة: "السين، والنون، والنون" جريان الشيء، بمعنى جريان الشيء، واطراده بسهولة، والمعنى: أنه قد مضى على الأمم قبلكم طرائق جارية على الخلق، كتداول النصر، والهزيمة، وإمهال الكفار، وإنجاء المؤمنين بعد ابتلائهم، قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [آل عمران: 137] كل هؤلاء انتصروا عليكم في هذه الواقعة، ما يقع من تداول النصر، والهزيمة، هذا أمر قد مضى على الأمم قبلكم، فهذا من سنن الله في الصراع بين الحق، والباطل، لكن تكون العاقبة للتقوى، تكون العاقبة للإيمان، يعني ما حصل في غزوة أحد من الهزيمة، وما فعله خالد بن الوليد حيث أغار بمن معه من الخيل على من بقي من الرماة، فقتلهم، ثم بعد ذلك أغار على جيش رسول الله ﷺ والمشركون قد فروا، وانهزموا، ولما رأوا خيلهم تعترك مع المسلمين رجعوا، بعد ما قتل منهم سبعون، وفرت نساؤهم إلى الجبل ليس بين أخذهن شيء، وانهزموا شر هزيمة، رجعوا ثانية، وصارت الكرة لهم، وانتصروا، وحصل ما حصل، وقتلوا سبعين من المسلمين قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ، خالد فعل هذا، وبعد المعركة، وقف أبو سفيان على الجبل، وقال: أفيكم محمد؟ أفيكم ابن أبي قحافة؟ أفيكم عمر؟ إلى أن قال: أعل هبل، كل هذا.

وقال: تجدون في القوم مثلة لم آمر بها، ولم تسؤنى[1].

ومثلوا بأصحاب النبي ﷺ منهم حمزة جدعوا أنفه، وقطعوا أذنيه، وما إلى ذلك من التشويه، وبقروا بطنه .

لاحظ هؤلاء أبو سفيان أسلم، وخالد بن الوليد صار سيف الله، والذي قتل حمزة، وهو وحشي أسلم.

وهؤلاء من كبار المشركين، وقادتهم دخلوا في الإسلام، عكرمة أسلم، صفوان بن أمية أسلم، والحارث بن هشام أسلم، وسهيل بن عمرو العامري أسلم، وصاروا يجاهدون في سبيل الله، فأبو سفيان كما قال بعض أهل العلم، أول من قاتل المرتدين، قبل أن يقاتلهم أبو بكر قدم من اليمن، وكان النبي ﷺ قد توفي، وهو في الطريق فلقي ذا الخمار مرتدًا فقاتله، والله يقول: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ [الممتحنة:7] وذلك بتحولهم إلى الإسلام، فهنا الله يقول: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ [آل عمران:137].

يحصل نصر، وهزيمة لكن العاقبة للتقوى، فحينما تقرأ في تفاصيل ما وقع في أُحُد في كتب السيرة، تجد ما يدمي القلب، ويؤلم، لكن حينما تفتح الصفحة، وتنظر إلى ما بعد ذلك، فتح مكة، تجد حالًا أخرى تمامًا، فهكذا تكون العاقبة للتقوى، فهؤلاء الذين نالهم ما نالهم في يوم أُحُد لو كشف لهم عن الغيب حينها، ورأوا مكة تفتحها جموع أهل الإيمان، عشرة آلاف يقودها رسول الله ﷺ لأزاح ذلك عنهم كل عناء، وتعب، وألم، لكن الله لم يطلعهم على الغيب قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ [آل عمران:137] هكذا الصراع، والعبرة بكمال النهايات، لا بنقص البدايات.

"قوله: فَانْظُرُوا من نظر العين عند الجمهور، وقيل: هو بالفكر."

فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ من نظر العين باعتبار الإنسان يذهب إلى المعذبين، والمهلكين، ويرى ذلك بعينه، وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ ۝ وَبِاللَّيْلِ [الصافات:137، 138] فهذا نظر العين مع أن السفر إلى بلاد المعذبين، وأرض المعذبين لا يشرع إلا في حالة واحدة، إذا كان عند الإنسان تردد، وشك، هنا فسيروا في الأرض، هذا السير لم يخاطب به كل أحد، وإنما خوطب به من كان عنده نوع تردد، وإلا فمن كان ثابت اليقين، والإيمان، فلا يشرع له زيارة تلك الأماكن، كما هو معلوم عن النبي ﷺ أسرع حينما مرَّ بأرض الحِجر، فعن عبد الله بن عمر، قال: قال رسول الله ﷺ لأصحاب الحجر: لا تدخلوا على هؤلاء القوم المعذبين، إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم، أن يصيبكم مثل ما أصابهم[2].

  1. أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة أحد، رقم: (3039).
  2. أخرجه مسلم، كتاب الزهد، والرقائق، باب لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم، إلا أن تكونوا باكين، رقم: (2980).