"قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ [آل عمران:137] خطابٌ للمؤمنين تأنيسًا لهم، وقيل للكافرين تخويفًا لهم."
قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ [آل عمران:137] مضت، وذهبت سنن سنن، سنن يعني: سير أمثال، وطرائق، ومناهج، جمع سنة، وهي الطريق المسلوكة، وبعضهم يقول: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ أمم، جمع سنة: الأمة، وأصل هذه المادة: "السين، والنون، والنون" جريان الشيء، بمعنى جريان الشيء، واطراده بسهولة، والمعنى: أنه قد مضى على الأمم قبلكم طرائق جارية على الخلق، كتداول النصر، والهزيمة، وإمهال الكفار، وإنجاء المؤمنين بعد ابتلائهم، قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [آل عمران: 137] كل هؤلاء انتصروا عليكم في هذه الواقعة، ما يقع من تداول النصر، والهزيمة، هذا أمر قد مضى على الأمم قبلكم، فهذا من سنن الله في الصراع بين الحق، والباطل، لكن تكون العاقبة للتقوى، تكون العاقبة للإيمان، يعني ما حصل في غزوة أحد من الهزيمة، وما فعله خالد بن الوليد حيث أغار بمن معه من الخيل على من بقي من الرماة، فقتلهم، ثم بعد ذلك أغار على جيش رسول الله ﷺ والمشركون قد فروا، وانهزموا، ولما رأوا خيلهم تعترك مع المسلمين رجعوا، بعد ما قتل منهم سبعون، وفرت نساؤهم إلى الجبل ليس بين أخذهن شيء، وانهزموا شر هزيمة، رجعوا ثانية، وصارت الكرة لهم، وانتصروا، وحصل ما حصل، وقتلوا سبعين من المسلمين قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ، خالد فعل هذا، وبعد المعركة، وقف أبو سفيان على الجبل، وقال: أفيكم محمد؟ أفيكم ابن أبي قحافة؟ أفيكم عمر؟ إلى أن قال: أعل هبل، كل هذا.
وقال: تجدون في القوم مثلة لم آمر بها، ولم تسؤنى.
ومثلوا بأصحاب النبي ﷺ منهم حمزة جدعوا أنفه، وقطعوا أذنيه، وما إلى ذلك من التشويه، وبقروا بطنه .
لاحظ هؤلاء أبو سفيان أسلم، وخالد بن الوليد صار سيف الله، والذي قتل حمزة، وهو وحشي أسلم.
وهؤلاء من كبار المشركين، وقادتهم دخلوا في الإسلام، عكرمة أسلم، صفوان بن أمية أسلم، والحارث بن هشام أسلم، وسهيل بن عمرو العامري أسلم، وصاروا يجاهدون في سبيل الله، فأبو سفيان كما قال بعض أهل العلم، أول من قاتل المرتدين، قبل أن يقاتلهم أبو بكر قدم من اليمن، وكان النبي ﷺ قد توفي، وهو في الطريق فلقي ذا الخمار مرتدًا فقاتله، والله يقول: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ [الممتحنة:7] وذلك بتحولهم إلى الإسلام، فهنا الله يقول: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ [آل عمران:137].
يحصل نصر، وهزيمة لكن العاقبة للتقوى، فحينما تقرأ في تفاصيل ما وقع في أُحُد في كتب السيرة، تجد ما يدمي القلب، ويؤلم، لكن حينما تفتح الصفحة، وتنظر إلى ما بعد ذلك، فتح مكة، تجد حالًا أخرى تمامًا، فهكذا تكون العاقبة للتقوى، فهؤلاء الذين نالهم ما نالهم في يوم أُحُد لو كشف لهم عن الغيب حينها، ورأوا مكة تفتحها جموع أهل الإيمان، عشرة آلاف يقودها رسول الله ﷺ لأزاح ذلك عنهم كل عناء، وتعب، وألم، لكن الله لم يطلعهم على الغيب قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ [آل عمران:137] هكذا الصراع، والعبرة بكمال النهايات، لا بنقص البدايات.
"قوله: فَانْظُرُوا من نظر العين عند الجمهور، وقيل: هو بالفكر."
فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ من نظر العين باعتبار الإنسان يذهب إلى المعذبين، والمهلكين، ويرى ذلك بعينه، وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ [الصافات:137، 138] فهذا نظر العين مع أن السفر إلى بلاد المعذبين، وأرض المعذبين لا يشرع إلا في حالة واحدة، إذا كان عند الإنسان تردد، وشك، هنا فسيروا في الأرض، هذا السير لم يخاطب به كل أحد، وإنما خوطب به من كان عنده نوع تردد، وإلا فمن كان ثابت اليقين، والإيمان، فلا يشرع له زيارة تلك الأماكن، كما هو معلوم عن النبي ﷺ أسرع حينما مرَّ بأرض الحِجر، فعن عبد الله بن عمر، قال: قال رسول الله ﷺ لأصحاب الحجر: لا تدخلوا على هؤلاء القوم المعذبين، إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم، أن يصيبكم مثل ما أصابهم.