الخميس 10 / ذو القعدة / 1446 - 08 / مايو 2025
إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ ٱلْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُۥ ۚ وَتِلْكَ ٱلْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ ٱلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ ۗ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلظَّٰلِمِينَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ [سورة آل عمران:140] أي: إن كنتم قد أصابتكم جراح، وقُتل منكم طائفة؛ فقد أصاب أعداءكم قريب من ذلك من قتل وجراح".
القرح هو الجرح، فقوله: إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ أي: جراح، وهنا يقول الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ أي: إن كنتم قد أصابتكم جراح وقُتل منكم طائفة؛ فقد أصاب أعداءكم قريب من ذلك من قتل وجراح، وهذا الذي أصاب أهل الإيمان المقصود به قطعاً ما وقع لهم في يوم أحد، فهذه السورة تتحدث عن وقعة أحد، حيث قتل منهم سبعون، وأما الذي أشار الله إليه بقوله: فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ [سورة آل عمران:140] فمن أهل العلم من يقول: إن المراد بذلك ما وقع للمشركين في يوم أحد؛ وذلك أنه في أول الغزوة ولوا مدبرين، وسقط اللواء، فلم يجرؤ أحد على أخذه، وقتل حملته، وقتل منهم نحو تسعة، وكانت الهزيمة، فهذا القتل الذي وقع للمشركين في أول المعركة بعض أهل العلم يقول: إنه هو القرح المشار إليه في هذه الآية، ويكون هو المشار إليه بقوله تعالى: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ [سورة آل عمران:152]، والحس هو القتل، والاستئصال، نقول: حسهم بالسيف كما سيأتي، فقوله تعالى: إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ [سورة آل عمران:152] يعني صرفكم عنهم، وتحول ميزان المعركة، وهذا المعنى عند من قال: إنه القرح الذي أصاب المشركين في يوم أحد، لكن الأقرب والله أعلم أن المراد به ما وقع لهم في يوم بدر، ولهذا قال: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا [سورة آل عمران:165]، وإصابة المثلين إنما وقع في يوم بدر حيث قتل من المشركين سبعون، وأسر سبعون، وفي يوم أحد قتل من المسلمين سبعون ولم يؤسر أحد، فهذا دليل على أن المراد ما وقع للمشركين في يوم بدر، وهو المشار إليه في قوله: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ [سورة الأنفال:12]، فوقع لهم ما وقع في يوم بدر.
وأما القرح الذي أصاب المسلمين فقد أشار الله إليه في هذه الآيات حيث قال: وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ [سورة آل عمران:143] وكذلك في قوله: وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء [سورة آل عمران:140] وغير ذلك من الآيات، كقوله: تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ [سورة آل عمران:153]، وقوله تعالى: حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ [سورة آل عمران:152] يعني وقع لكم الهزيمة.
فالخلاصة أن القرح الواقع للمسلمين هو ما حصل في يوم أحد، والقرح الواقع على المشركين هو ما وقع لهم في يوم بدر، وهذا على الأرجح من قولي العلماء، والله تعالى أعلم.
"وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [سورة آل عمران:140] أي نديل عليكم الأعداء تارة، وإن كانت لكم العاقبة لما لنا في ذلك من الحكمة، ولهذا قال تعالى: وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ [سورة آل عمران:140] قال ابن عباس - ا - في مثل هذا: لنرى من يصبر على مناجزة الأعداء".
هنا عدّد جملة من الحكم فقال : وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ* وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ [سورة آل عمران:140-141] فهذه جمل من الحكم في إدالة الكفار على المسلمين في يوم أحد، فمثل هذه الأمور المذكورة، وغير المذكورة مما يُعرف كُلها داخلة تحت حكمة الله .
فهنا يقول: وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ [سورة آل عمران:140] فلو كان النصر دائماً لأهل الإيمان لدخل فيهم كل أحد من المنافقين، وكل طامع؛ ذلك أن قوماً يحالفهم الانتصار في كل الأحوال؛ جديرون بالاتباع، فالناس تبعٌ للمنتصر، لكن إذا وقعت الهزيمة في بعض الأحيان، والآلام، والجراح؛ فإنه لا يبقى، ولا يثبت؛ إلا أهل الصدق، والإيمان، ولهذا قال: وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء فهؤلاء الذين قتلوا ليسوا خسارة إلا بالمقاييس المادية الدنيوية، وكل إنسان سيموت، وقد ماتوا بآجالهم، وانتهت أعمارهم أصلاً، فحتى لو لم يقاتلوا، ولم يخرجوا إلى المعركة؛ فهم سيموتون في هذه اللحظات، ولكن الله كتب لهم هذه النهاية التي يرتفعون بها كثيراً عند الله فهذه حكمة من حكم إدالة الكفار.
يقول: وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ [سورة آل عمران:141] أي يحصل لهم التمحيص، فتذهب عنهم وساوس الشيطان، ويحصل المحق للكافرين؛ لأنهم إذا انتصروا على أهل الإيمان بغوا، وتعالوا، وطغوا، وأفسدوا؛ فيكون ذلك سبباً لمحقهم، وزوالهم، ومن أراد أن يطالع الحكم الكثيرة في هذا فلينظر في ما كتبه الحافظ ابن القيم - رحمه الله - في زاد المعاد، حيث ذكر أشياء تطول جداً.
"وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء [سورة آل عمران:140] يعني يقتلون في سبيله، ويبذلون مهجهم في مرضاته".
الشهيد قيل له شهيد لأنه مشاهد للجنة، أو كأنه مشاهد للجنة كما يقول بعض أهل العلم، أو لأنه مشهود له بالجنة، وعلى كل حال القتل في سبيل الله شهادة، وهذا أدل دليل على صدق الإيمان، كما أن النبي ﷺ قال: الصدقة برهان[1] فالإيمان قد يدعيه كل أحد، فإذا قدم مهجته فهو شهيد، وإذا قدم ماله فذلك برهان على صدق دعوى الإيمان، وأحب شيء إلى الإنسان نفسه، وماله.
  1. أخرجه مسلم في كتاب الطهارة - باب فضل الوضوء (223) (ج 1 / ص 203).

مرات الإستماع: 0

"إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ [آل عمران:140] الآية، معناها إن مسكم قتلٌ، أو جراحٌ في أحد، فقد مس الكفار مثله في بدر، وقيل: قد مس الكفار يوم أحد مثل ما مسكم فيه؛ فإنهم نالوا منكم، ونلتم منهم، وذلك تسلية للمؤمنين بالتأسي."

يعني: باعتبار أنه قُتِل من الكفار سبعون في أحد إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ [آل عمران:140] يحتمل أن يكون في بدر، ويحتمل أن يكون في أحد باعتبار أنه قتل منهم سبعون، نلتم منهم، ونالوا منكم إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ [النساء: 104].

وأصل القرح: هو الألم بالجراح، أو ما أشبهها، هذا أصله، قرح.

"نُدَاوِلُهَا [آل عمران:140] نداولها تسلية أيضًا عما جرى يوم أحد."

﴿نُدَاوِلُهَا أي، نجعلها للمؤمنين تارة، وللكافرين تارة، والدولة اسم للشيء الذي يتداول بعينه، كما في قوله - تبارك، وتعالى - في المال، والفيء:كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً [الحشر: 7] يعني: متداول بين فئة معينة، بين الأغنياء منكم، والأصل تحول شيء من مكان إلى مكان، هذا دولة تداوله الناس.

"قوله:وَلِيَعْلَمَ [آل عمران:140] متعلق بمحذوف، تقديره: أصابكم ما أصابهم يوم أُحُد ليعلم، والمعنى: ليعلم ذلك علمًا ظاهرًا لكم تقوم به الحجة."

هذا في كل المواضع - كما هي القاعدة: أن الله إذا علق علمه بالشيء، يعني: بعد وقوعه فالمراد بذلك فالعلم الذي يترتب عليه الجزاء، يعني: وليعلم الله، يعلم ما كان، وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون.

لكن المقصود هنا علم الوقوع الذي يترتب عليه الجزاء؛ لأن الله لا يجازيهم بمجرد علمه فيهم قبل أن يفعلوا، وإنما علم الوقوع الذي يترتب عليه الجزاء، هذا في كل المواضع، وهذه القاعدة يمكن أن تضبط هذا الفهم، والمعنى.

"قوله:شُهَدَاءَ [آل عمران:140] من قتل من المسلمين يوم أحد."

وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ [آل عمران:140] يعني: أن الله - تبارك، وتعالى - يجري ما يجريه هذه الآلام، ونحو ذلك، تداول الأيام بين الناس وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ هذه سنتهوَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا فهنا يتميز أهل الإيمان من أهل النفاق؛ لأنه لو كان النصر حليفًا للمؤمنين دائمًا؛ فسيدخل معهم مَنْ هب، ودب، ودرج، لكن إذا كان هناك شدة فهنا يتمحص الصف، ويتميز الناس، ويظهر النفاق، ويظهر أهل اليقين الكامل، والإيمان الصحيح.

أيضًا علة أخرى:وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ، فهؤلاء الذين يقتلون في سبيل الله ليسوا خسارة، الله يتخذهم شهداء، ويحيون حياة أكمل، وأعظم من حياتهم التي كانوا يقضونها في هذه الدنيا دار الكبد، والكدر ﴿وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ الله يجتبيهم، ويصطفيهم بالشهادة، ولن يموت أحد إلا بأجله، فالله - تبارك، وتعالى - يختار هؤلاء، ولو شاء لبقوا، ولم يقتلواوَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ.

وشهداء جمع شهيد؛ لكونه يعني مشهودًا له في الجنة، أو جمع شاهد لكونه كالمشاهد للجنة، فالقتل في سبيل الله هذه شهادة على صدق اليقين، والإيمان، النبي ﷺ يقول: والصدقة برهان[1] برهان على أن هذا الإنسان حينما يبذل شقيق النفس، وهو المال، برهان على أنه صادق الإيمان، بخلاف المنافق كما قال الله :وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ [التوبة:98] مقطوعة من قلبه، ويشعر أنها مغرم أنها غير مخلوفةوَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ يقول: ننتظر سيأتي اليوم الذي نستريح من هؤلاء، ويؤخذون، ويستأصلونوَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ[التوبة:99] فالصدقة برهان، والقتل في سبيل الله شهادة.

"قوله:وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ [آل عمران:141] أي: يظهر، وقيل: يميز، وهو معطوف على ما تقدم من التعليلات لقصة أحد، والمعنى: أن إدالة الكفار على المسلمين إنما هي لتمحيص المؤمنين، وأن نصر المؤمنين على الكفار إنما هو ليمحق الله الكافرين، أي: يهلكهم."

وَلِيُمَحِّصَ أي: يطهر عدلوها، يمحص، أي: يطهر، وليس يظهر، يطهر، يعني: يطهر، ويختبر، وينقي، هذا معنى يمحص، والتمحيص هو الابتلاء، والاختبار، هذا قول ابن جرير - رحمه الله -[2] وأصل المحص تخليص الشيء، وتنقيته، مما فيه من عيب.

وهذا التطهير، والتنقية مبنية على الاختبار، فبين المعنيين ملازمة، يعني: من فسره بالتنقية، والتطهير فذلك تفسير له بالنتيجة، فهي نتيجة الاختبار، ومن فسره بالاختبار، والابتلاء فقد فسره بأصل المعنى - والله أعلم - فإن أصل (المحص) تخليص الشيء، وتنقيته مما فيه عيب، وهذا يكون بالابتلاء، والاختبار، يكون فسره بلازمه. 

  1. أخرجه مسلم، كتاب الطهارة، باب فضل الوضوء، رقم: (223).
  2. تفسير الطبري (7/244).