"إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ [آل عمران:140] الآية، معناها إن مسكم قتلٌ، أو جراحٌ في أحد، فقد مس الكفار مثله في بدر، وقيل: قد مس الكفار يوم أحد مثل ما مسكم فيه؛ فإنهم نالوا منكم، ونلتم منهم، وذلك تسلية للمؤمنين بالتأسي."
يعني: باعتبار أنه قُتِل من الكفار سبعون في أحد إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ [آل عمران:140] يحتمل أن يكون في بدر، ويحتمل أن يكون في أحد باعتبار أنه قتل منهم سبعون، نلتم منهم، ونالوا منكم إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ [النساء: 104].
وأصل القرح: هو الألم بالجراح، أو ما أشبهها، هذا أصله، قرح.
"نُدَاوِلُهَا [آل عمران:140] نداولها تسلية أيضًا عما جرى يوم أحد."
﴿نُدَاوِلُهَا أي، نجعلها للمؤمنين تارة، وللكافرين تارة، والدولة اسم للشيء الذي يتداول بعينه، كما في قوله - تبارك، وتعالى - في المال، والفيء:كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً [الحشر: 7] يعني: متداول بين فئة معينة، بين الأغنياء منكم، والأصل تحول شيء من مكان إلى مكان، هذا دولة تداوله الناس.
"قوله:وَلِيَعْلَمَ [آل عمران:140] متعلق بمحذوف، تقديره: أصابكم ما أصابهم يوم أُحُد ليعلم، والمعنى: ليعلم ذلك علمًا ظاهرًا لكم تقوم به الحجة."
هذا في كل المواضع - كما هي القاعدة: أن الله إذا علق علمه بالشيء، يعني: بعد وقوعه فالمراد بذلك فالعلم الذي يترتب عليه الجزاء، يعني: وليعلم الله، يعلم ما كان، وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون.
لكن المقصود هنا علم الوقوع الذي يترتب عليه الجزاء؛ لأن الله لا يجازيهم بمجرد علمه فيهم قبل أن يفعلوا، وإنما علم الوقوع الذي يترتب عليه الجزاء، هذا في كل المواضع، وهذه القاعدة يمكن أن تضبط هذا الفهم، والمعنى.
"قوله:شُهَدَاءَ [آل عمران:140] من قتل من المسلمين يوم أحد."
وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ [آل عمران:140] يعني: أن الله - تبارك، وتعالى - يجري ما يجريه هذه الآلام، ونحو ذلك، تداول الأيام بين الناس وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ هذه سنتهوَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا فهنا يتميز أهل الإيمان من أهل النفاق؛ لأنه لو كان النصر حليفًا للمؤمنين دائمًا؛ فسيدخل معهم مَنْ هب، ودب، ودرج، لكن إذا كان هناك شدة فهنا يتمحص الصف، ويتميز الناس، ويظهر النفاق، ويظهر أهل اليقين الكامل، والإيمان الصحيح.
أيضًا علة أخرى:وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ، فهؤلاء الذين يقتلون في سبيل الله ليسوا خسارة، الله يتخذهم شهداء، ويحيون حياة أكمل، وأعظم من حياتهم التي كانوا يقضونها في هذه الدنيا دار الكبد، والكدر ﴿وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ الله يجتبيهم، ويصطفيهم بالشهادة، ولن يموت أحد إلا بأجله، فالله - تبارك، وتعالى - يختار هؤلاء، ولو شاء لبقوا، ولم يقتلواوَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ.
وشهداء جمع شهيد؛ لكونه يعني مشهودًا له في الجنة، أو جمع شاهد لكونه كالمشاهد للجنة، فالقتل في سبيل الله هذه شهادة على صدق اليقين، والإيمان، النبي ﷺ يقول: والصدقة برهان برهان على أن هذا الإنسان حينما يبذل شقيق النفس، وهو المال، برهان على أنه صادق الإيمان، بخلاف المنافق كما قال الله :وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ [التوبة:98] مقطوعة من قلبه، ويشعر أنها مغرم أنها غير مخلوفةوَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ يقول: ننتظر سيأتي اليوم الذي نستريح من هؤلاء، ويؤخذون، ويستأصلونوَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ[التوبة:99] فالصدقة برهان، والقتل في سبيل الله شهادة.
"قوله:وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ [آل عمران:141] أي: يظهر، وقيل: يميز، وهو معطوف على ما تقدم من التعليلات لقصة أحد، والمعنى: أن إدالة الكفار على المسلمين إنما هي لتمحيص المؤمنين، وأن نصر المؤمنين على الكفار إنما هو ليمحق الله الكافرين، أي: يهلكهم."
وَلِيُمَحِّصَ أي: يطهر عدلوها، يمحص، أي: يطهر، وليس يظهر، يطهر، يعني: يطهر، ويختبر، وينقي، هذا معنى يمحص، والتمحيص هو الابتلاء، والاختبار، هذا قول ابن جرير - رحمه الله - وأصل المحص تخليص الشيء، وتنقيته، مما فيه من عيب.
وهذا التطهير، والتنقية مبنية على الاختبار، فبين المعنيين ملازمة، يعني: من فسره بالتنقية، والتطهير فذلك تفسير له بالنتيجة، فهي نتيجة الاختبار، ومن فسره بالاختبار، والابتلاء فقد فسره بأصل المعنى - والله أعلم - فإن أصل (المحص) تخليص الشيء، وتنقيته مما فيه عيب، وهذا يكون بالابتلاء، والاختبار، يكون فسره بلازمه.