"وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ [آل عمران: 141] يمحق الله الكافرين، أي: يهلكهم، وأصل المحق النقصان، هذا أصله، أو نقصان الشيء قليلًا قليلًا، شيئًا، فشيئًا، وبعضهم يقول: أصله التمحيق، يعني: محو الآثار، والمعنى يستأصلهم، ويمحق الكافرين."
قوله: أَمْ حَسِبْتُمْ [آل عمران:142] أم هنا منقطعة مقدرة ببل، والهمزة عند سيبويه.
مقدرة ببل، والهمزة عند سيبويه، يعني: بل أحسبتم، هذا التقدير، بل أحسبتم.
"وهذه الآية، وما بعدها معاتبة لقومٍ من المؤمنين صدرت منهم أشياء يوم أحد."
نعم صدرت منهم أشياء، واستغربوا كيف وقع هذا، وأحل بهم ما حل من الهزيمة، والجراح، والقتل.
"قوله: تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ [آل عمران:143] خوطب به قوم فاتتهم غزوة بدر، فتمنوا حضور قتال الكفار مع النبي ﷺ ليستدركوا ما فاتهم من الجهاد، فعلى هذا إنما تمنوا الجهاد، وهو سبب الموت، وقيل: إنما تمنوا الشهادة في سبيل الله."
سواء تمنوا الشهادة، أو تمنوا الجهاد الذي هو سببها، كنتم تمنون الموت بحضور القتال، تمني الموت - كما هو معلوم - أنه منهي عنه لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به فليس المقصود أنهم تمنون الموت، ومفارقة هذه الحياة هكذا، وإنما الموت بمعنى الشهادة في سبيل الله، التي تكون بلقاء العدو، والجهاد في سبيل الله .
وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ [آل عمران:143] بمعنى: رأيتم أسبابه في أرض المعركة؛ حيث السلاح مشرع، والرؤوس تقطع، والرجال يتساقطون.
وكما قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - الفرق بين العزم على الصبر، والصبر، فيقول: الإنسان قد يعزم على شيء، قد يعزم على الصبر، ولكنه لا يصبر إذا ابتلي، فالعزم على الصبر غير الصبر.
وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ [آل عمران:143] فلماذا التراجع؟ وهكذا لما قالوا: ودوا بأن يعرفوا أحب الأعمال إلى الله، فأخبروا أنه الجهاد، فتباطؤوا، وتثاقلوا، وتمنوا لو أنه أخر، فنزل العتاب في أول سورة الصف، لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ [الصف:2 - 4] فهذه في العزم على الصبر، وترك الصبر.
وقل مثل ذلك أيضًا في نظائره كما في قصة طالوت، فهؤلاء قالوا: ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة: 246]. الآية.
فلما كتب عليهم، حصلت هذه التراجعات مرارًا، في البداية تلكؤوا لماذا كتب علينا القتال؟ ثم بعد ذلك اعترضوا على اختيار طالوت، ثم بعد ذلك تساقطوا عند الشرب، والابتلاء به إلى النار، ثم لما حصلت المواجهة أيضًا قالت طائفة من القلة التي بقيت: لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ [البقرة: 249].
فالعزم على الصبر غير الصبر، والناس كثيرًا ما يطلبون أشياء، فإذا أتيحت لهم حصل منهم التثاقل، والتباطؤ، والتراجع، هذا كثير.