الجمعة 04 / ذو القعدة / 1446 - 02 / مايو 2025
وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ ۚ أَفَإِي۟ن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ ٱنقَلَبْتُمْ عَلَىٰٓ أَعْقَٰبِكُمْ ۚ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ ٱللَّهَ شَيْـًٔا ۗ وَسَيَجْزِى ٱللَّهُ ٱلشَّٰكِرِينَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ ۝ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَابًا مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ ۝ وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ۝ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ۝ فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [سورة آل عمران:144-148].
لما انهزم مَن انهزم مِن المسلمين يوم أحد، وقتل من قتل منهم؛ نادى الشيطان: ألا إن محمداً قد قتل، ورجع ابن قميئة إلى المشركين، فقال لهم: قتلت محمداً، فوقع ذلك في قلوب كثير من الناس، واعتقدوا أن رسول الله ﷺ قد قتل، وجوزوا عليه ذلك كما قد قص الله عن كثير من الأنبياء - عليهم السلام - فحصل ضعف، ووهن، وتأخرٌّ عن القتال، ففي ذلك أنزل الله تعالى على رسوله ﷺ: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ [سورة آل عمران:144] أي: له أسوة بهم في الرسالة، وفي جواز القتل عليه.
قال ابن أبي نجيح عن أبيه: إن رجلاً من المهاجرين مر على رجل من الأنصار وهو يتشحط في دمه، فقال له: يا فلان أشعرت أن محمداً ﷺ قد قتل؟ فقال الأنصاري: إن كان محمد قد قتل فقد بلَّغ، فقاتلوا عن دينكم، فنزل: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ [سورة آل عمران:144] رواه الحافظ أبو بكر البيهقي في دلائل النبوة".

وهذا من الحكم التي ذكرها الحافظ ابن القيم - رحمه الله - فيما وقع يوم أحد، وهو أن ذلك كان توطئة وتهيئة لنفوس أهل الإيمان فيما سيقع بعده في المآل وهو موت النبي ﷺ، فوطَّأ لهم بهذا، حيث ظهرت هذه الإشاعة، ثم عالجها القرآن، وبيّن لهم أن شأن النبي ﷺ كغيره لم يكتب له الخلد في هذه الحياة، وأنه سيموت، وأنه لا يجوز لهم بحال من الأحوال أن يرجع الناس بعده، فوطأ لهم بهذا.
"ثم قال تعالى منكراً على من حصل له ضعف: أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ [سورة آل عمران:144] أي: رجعتم القهقرى وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ [سورة آل عمران:144] أي: الذين قاموا بطاعته، وقاتلوا عن دينه، واتبعوا رسوله حياً، وميتاً.
وكذلك ثبت في الصحاح، والمساند، والسنن وغيرها من كتب الإسلام من طرق متعددة تفيد القطع، وقد ذكرت ذلك في مسندي الشيخين أبي بكر وعمر - ا - أن الصديق تلا هذه الآية لما مات رسول الله ﷺ.
روى البخاري عن عائشة - ا - أن أبا بكر أقبل على فرس من مسكنه بالسنح حتى نزل فدخل المسجد فلم يكلم الناس حتى دخل على عائشة، فتيمم رسول الله ﷺ وهو مغشىً بثوب حِبَرَة، فكشف عن وجهه".

الثوب الحِبِرَة هي ثياب من القطن أو الكتان، وربما كانت مخططة، أو معلمة، وقد كان يؤتى بها من اليمن.
"فكشف عن وجهه، ثم أكب عليه وقبله، وبكى، ثم قال: بأبي أنت وأمي، والله لا يجمع الله عليك موتتين، أما الموتة التي كتبت عليك فقد متَّها[1].
وروى الزهري عن ابن عباس أن أبا بكر خرج وعمر يحدث الناس، فقال: اجلس يا عمر، فأبى عمر أن يجلس، فأقبل الناس إليه وتركوا عمر، فقال أبو بكر: "أما بعد: من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، قال الله تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ [سورة آل عمران:144] إلى قوله: وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ [سورة آل عمران:144]"، قال: فوالله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر، فتلقاها الناس منه كلهم، فما سمعها بشر من الناس إلا تلاها.
وعن سعيد بن المسيب أن عمر قال: "والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعقرت حتى ما تقلني رجلاي، وحتى هويت إلى الأرض"".

تقول: عقر الرجل: يعني إذا بقي مكانه لشدة الفزع الذي فاجأه أو أصابه، بحيث لا يستطيع أن يتقدم أو يتأخر، فهو لا يتحرك من مكانه لشدة ما نزل به، وكأنه قد قطعت رجله.
  1. أخرجه البخاري في كتاب المغازي - باب مرض النبي ﷺ ووفاته (4187) (ج 4 / ص 1618).

مرات الإستماع: 0

"وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ [آل عمران:144] المعنى: أن محمدًا ﷺ رسولٌ كسائر الرسل، قد بلغ الرسالة كما بلغوا، فيجب عليكم التمسك بدينه في حياته، وبعد موته، وسببها: أنه صرخ صارخٌ يوم أُحد: إنّ محمدًا قد مات، فتزلزل بعض الناس[1]."

ما ذكره المؤلف - رحمه الله - من أن سبب نزول هذه الآية: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ [آل عمران:144] أن ذلك بسبب هذا الصارخ، الذي يزعم أن محمدًا ﷺ قد قُتل، فهذا لا أعلمه يثبت بطريقٍ صحيح أنه سبب النزول، بمعنى: أن سبب النزول - كما هو المعروف في القاعدة -: مبني على النقل، والسماع، لكن ما جرى في الوقعة، وأن الشيطان صاح أن محمدًا - عليه الصلاة، والسلام - قد قُتِل، هذا مشهور، لكن أنه سبب النزول، هذا لا يثبت - والله أعلم - لكن السياق في أُحد يدل على هذا. 

"أَفَإِنْ مَاتَ [آل عمران:144] دخلت ألف التوبيخ على جملة الشرط، والجزاء، ودخلت الفاء لتربط الجملة الشرطية بالجملة التي قبلها، والمعنى: أن موت رسول الله ﷺ أو قتله، لا يقتضي انقلاب أصحابه على أعقابهم؛ لأن شريعته قد تقررت، وبراهينه قد صحت، فعاتبهم على تقدير: لو أنه صدر منهم انقلابٌ لو مات ﷺ أو قُتل، وقد عُلم أنه لا يُقتل، ولكن ذكر ذلك لمّا صرخ به صارخٌ، ووقع في نفوسهم". 

في تلك الروايات التي - كما ذكرت - يذكرها أصحاب السير، ولكنها - فيما أعلم - لا تثبت من جهة الإسناد، أن بعضهم كان يقول في ذلك الأثناء، وينادي في أرض المعركة: بأن محمدًا - عليه الصلاة، والسلام - قد قُتل، فارجعوا إلى دين آبائكم[2] وأُشيع ذلك في الناس، وظاهر سياق الآيات أنها تعالج أمرًا قد وُجد في تلك الواقعة، في قوله - تبارك، وتعالى -: فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ [آل عمران:153] ولعل من أحسن ما يُفسر به: أن الغم الآخر - كما سيأتي - هو ما أُشيع من قتل النبي ﷺ فلما انكشف؛ كان الغم الأول، وهو غم القتل، والجراح، والهزيمة قد تلاشى، والغم الآخر أكبر، وأعظم، لو ثبت، وصح، فلما طرق أسماعهم كان ذلك منسيًا للغم الأول، وبعد أن انقشع، وتبيّن أنه لا ثبوت له، كان الغم الأول قد اضمحل، فوُجِد مثل هذا في النفوس، وهذا الظن، أو الاعتقاد بأن رسول الله ﷺ قد قُتل.

"الشَّاكِرِينَ [آل عمران:144] قال على بن أبي طالب : الثابتون على دينهم[3]".

وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران:144] يدخل فيه الثابت على دينه، ويدخل فيه ما هو أعم من ذلك، لكن التفسير بـ"الثابتين على دينهم" باعتبار السياق وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ فالمؤمن هو الشاكر، والكافر على اسمه، فالذي يقابل الكفر: الشكران، من هذا الوجه، والمقام مقام ارتداد، أو دعوة إلى الارتداد، والتراجع وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ في مقابل الكافرين، من يكفر، ويرتد عن دينه، فمن بقي فهو شاكر، فالمؤمن شاكر، فتفسيره بهذا الاعتبار بـ"الثابتين على دينهم" هذا وجهه، وهو معنًى صحيح - والله أعلم - وإلا - كما تعلمون - أن معنى الشكر أوسع من هذا. 

  1.  أسباب النزول ت الحميدان (ص:125).
  2.  الوجيز للواحدي (ص:236) والتفسير الوسيط للواحدي (1/502).
  3.  تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (1/517).