الجمعة 04 / ذو القعدة / 1446 - 02 / مايو 2025
وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ ٱللَّهِ كِتَٰبًا مُّؤَجَّلًا ۗ وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ ٱلدُّنْيَا نُؤْتِهِۦ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ ٱلْءَاخِرَةِ نُؤْتِهِۦ مِنْهَا ۚ وَسَنَجْزِى ٱلشَّٰكِرِينَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"وقوله تعالى: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَابًا مُّؤَجَّلاً [سورة آل عمران:145] أي: لا يموت أحد إلا بقدر الله، وحتى يستوفي المدة التي ضربها الله له، ولهذا قال: كِتَابًا مُّؤَجَّلاً كقوله: وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ [سورة فاطر:11] وكقوله: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ [سورة الأنعام:2]".

قوله: كِتَابًا مُّؤَجَّلاً هذا مصدر مؤكِّد لما قبله، أي أنه مؤقت لا يتقدم ولا يتأخر كما قال تعالى: فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ [سورة الأعراف:34].
"وهذه الآية فيها تشجيع للجبناء، وترغيب لهم في القتال؛ فإن الإقدام، والإحجام؛ لا ينقص من العمر، ولا يزيد فيه كما روى ابن أبي حاتم عن حبيب بن صهبان قال: قال رجل من المسلمين وهو حجر بن عدي: ما يمنعكم أن تعبروا إلى هؤلاء العدو هذه النطفة - يعني دجلة -، وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتاباً مؤجلاً، ثم أقحم فرسه دجلة فلما أقحم أقحم الناس، فلما رآهم العدو قالوا: ديوان، فهربوا".

قوله: قالوا: ديوان فهربوا يعني أنهم قالوا: هؤلاء شياطين يمشون على الماء، فخافوا منهم، والديوان فسره في الهامش فقال: "وديوان: جمع ديو وهو بالفارسية والهندية العفريت الكبير".
"وقوله: وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا [سورة آل عمران:145] أي: من كان عمله للدنيا فقط نال منها ما قدَّره الله له، ولم يكن له في الآخرة نصيب، ومن قصد بعمله الدار الآخرة؛ أعطاه الله منها مع ما قسم له في الدنيا".

هذه الآية مقيدة في سورة الإسراء، فالله يقول: مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ [سورة الإسراء:18] فقيدها بقيدين: قيد في المعطين، وقيد في المعطَى - يعني العطاء - فقال: مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ [سورة الإسراء:18] أي ما نشاء من العطاء لمن نريد من الخلق.
وفي سورة هود يقول تعالى: مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ ۝ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ [سورة هود:15-16] فلم يقيدها.
وفي سورة الشورى لم يقيدها حيث قال: مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ [سورة الشورى:20] فثلاث آيات مطلقة، وواحدة مقيدة، والتي هي آية الإسراء، والقاعدة أن المطلق يحمل على المقيد.
"كما قال تعالى: مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ [سورة الشورى:20]، وقال تعالى: مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا* وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا [سورة الإسراء:18-19] وهكذا قال هاهنا: وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ [سورة آل عمران:145] أي: سنعطيهم من فضلنا، ورحمتنا في الدنيا، والآخرة؛ بحسب شكرهم، وعملهم".

مرات الإستماع: 0

"كِتَابًا مُؤَجَّلًا [آل عمران:145] نصبٌ على المصدر؛ لأن المعنى: كتب الموت كتابًا، وقال ابن عطية: نصبٌ على التمييز[1]".

 

قوله: "كِتَابًا مُؤَجَّلًا" المؤجل هو المؤقت، يعني له وقت محدد لا يتقدم، ولا يتأخر، وكقوله - تبارك، وتعالى -: وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ [فاطر:11] يعني من عمر معمر آخر إِلَّا فِي كِتَابٍ [فاطر:11] فهذه الآجال كلها مقدرة عند الله - تبارك، وتعالى - كما قال الله - تبارك، وتعالى -: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ [الأنعام:2] فهذه تدل على هذا المعنى كِتَابًا مُؤَجَّلًا يقول: "نصبٌ على المصدر" يعني مؤكد لما قبله وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [آل عمران:145] كِتَابًا مُؤَجَّلًا يعني: كتابًا مصدر، وكِتَابًا مُؤَجَّلًا هذا مؤكدٌ لما قبله وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ يعني: أن خروج الإنسان إلى القتال، وأرض المعركة، والتعرض للأخطار، ونحو ذلك، لا يقدم الأجل، كما أن الحذر، والنأي بالنفس، والخوف لا يؤخر الأجل، كما قال الشاعر: 

لو أن حيًا مدرك الفلاحِ أدركه ملاعب الرماحِ[2]

مدرك الفلاحِ - يعني البقاء، يعني الذي يركب الأخطار، ويتعرض للقتل، وتعرفون قول خالد بن الوليد عند موته، وقد ذكر ما بجسده من الجراح، والإصابات التي تزيد على المائة، ثم يقول: "لقد حضرت كذا، وكذا زحفًا، وما في جسدي شبرًا إلا وفيه ضربة سيف، أو طعنة برمح، أو رمية بسهم، وها أنا أموت على فراشي، حتف أنفي، كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء"[3].

"قال ابن عطية: نصبٌ على التمييز"[4] وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا يعني أن مُؤَجَّلًا نصبٌ على التمييز، فــكِتَابًا مصدر، ومُؤَجَّلًا مصدر، وكأن القول: بأنه منصوبٌ على المصدرية هذا أوضح - والله تعالى أعلم -.

"نُؤْتِهِ مِنْهَا [آل عمران:145] في ثواب الدنيا مقيدٌ بالمشيئة، بدليل قوله: عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ [الإسراء:18]".

هو كذلك، فآيات آل عمران هذه مطلقة، وجاء ذلك مقيدًا في آية الإسراء عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ جاء بقيدين في آية الإسراء، في العطاء: ما نشاء، والمعطى: لمن نريد، فما كل من طلب الدنيا أُعطِي، فكم مَنْ النفوس من يطلبها، ويتهافت عليها، وهي غايته، ومع ذلك لا يأتيه منها إلا ما قُدِّرَ له، فما طلب الإنسان للدنيا يجلبها، وما انصرافه عنها، وزهده فيها يحجبها، فقدَّر الله - تبارك، وتعالى - الآجال، والأرزاق، فيأتي الإنسان منها ما قُدِّر له فإن نفسًا لن تموت حتى تستوفي رزقها، وإن أبطأ عنها، فاتقوا الله، وأجملوا في الطلب[5]

  1.  تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (1/518).
  2.  البيت للبيد في الصحاح تاج اللغة، وصحاح العربية (1/219) وتاج العروس (4/212).
  3.  البداية، والنهاية ط إحياء التراث (7/129).
  4.  تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (1/518).
  5.  أخرجه ابن ماجه في كتاب التجارات، باب الاقتصاد في طلب المعيشة برقم: (2144) وصححه الألباني.