قوله تعالى: وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ لفظة "كأين" يقول عنها أمثال الخليل، وسيبويه: إن أصلها "أن" دخلت عليها كاف التشبيه، وصارت بعد التركيب وكثرة الاستعمال بمعنى "كم" ثم تصرفت فيها العرب فصار فيها أربع لغات، الأولى: كأين نحو التي في قوله: وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ، الثانية: وكائن وهي قراءة ابن كثير، ويقف عليها بعض القراء كأبي عمرو (وكأي)، واللغة الثالثة: وكأيْن بفتح الهمزة والكاف وسكون الياء، واللغة الرابعة "كي إن" بكسر الهمزة، وعلى كل حال مثل هذا يستعمل للتكثير، فقوله: وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ يعني أنبياء كثير.
فقوله تعالى: وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ [سورة آل عمران:146] يقول ابن كثير - رحمه الله -: قيل: كم من نبي قُتل وقُتل معه ربيون من أصحابه كثير، وعلى هذا التفسير صار القتل واقعاً على النبي وعلى أتباعه، وذلك على قراءة (قُتِل) وهي قراءة نافع، وابن كثير، وأبي عمرو.
وقوله: (قُتل) هذا فعل مبني للمجهول، ومعروف أن الفعل المبني للمجهول يكون ما بعده نائباً للفاعل، فما هو نائب الفاعل هنا؟ هل هو ضمير يرجع إلى النبي، يعني وكأين من نبي قتل أي هو، أم أن نائب الفاعل هو قوله: رِبِّيُّونَ أي وكأين من نبي قتل ربيون كانوا معه، وعلى هذا يكون القتل واقعاً على الربيين؟
هذا احتمال وبعض أهل العلم كالشنقيطي - رحمه الله - في أضواء البيان يرجح أن نائب الفاعل هو قوله: رِبِّيُّونَ ويحتج على هذا من جهة المعنى بأن الله أخبر أن الغلبة للرسل - عليهم الصلاة والسلام -، وأن النصر لهم، ويقول: وبالتتبع نجد أن الغلبة تكون بالسيف، وتكون بالحجة، وأكثر ما جاءت في القرآن في الاستعمال بالنسبة للأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - الذين أمروا بالقتال أن الغلبة تكون بالسيف، ثم إن الله جعل الغلبة مقابلة للقتل كما قال تعالى: فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ [سورة النساء:74] فالمقتول ليس بغالب، والله قال: وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [سورة الصافات:173] وقال: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا [سورة غافر:51] فالمقتول مغلوب - هذا كلام الشنقيطي رحمه الله -، وبناء على ذلك يقول: إن النبي إن كان قد قتل في ميدان المعركة فمعنى ذلك أنه قد غلب؛ لقوله: فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ [سورة النساء:74]؛ لأن المقتول صار مقابلاً للغالب، فالمقتول مغلوب، والقاتل غالب، ويقول: إن الأنبياء لا يغلبون، وبذلك يكون القتل وقع على الربيين.
وعلى كل حال القول بأن القتل في قوله تعالى: وكأين من نبي قُتل معه ربيون كثير - في قراءة نافع ومن معه - وقع على النبي وعلى الربيين لا يخلو من إشكال، وإن كان يمكن أن يخرَّج هذا باعتبار كأين من نبي قتل معه ربيون كثير قتلوا، لكن قد لا يكون هذا هو المتبادر، فالآية تحتمل وجوهاً من التفسير على هذه القراءة، ومنها كأين من نبي قتل أي أن القتل وقع على النبي، ومعه ربيون كثير، أي أتباع وجماعات، أو علماء ربانيين، وفقهاء، وعباد وغير ذلك فما فتَّ في أعضادهم قتل نبيهم، وقائدهم، وإمامهم، ومقدمهم، وإنما استمروا على ما كانوا عليه.
والمعنى الثاني: أن يكون القتل وقع على الربيين، فالعلماء الذين رجحوا أن القتل وقع على النبي، قالوا: لو كان القتل واقعاً على الربيين فكيف يقال: فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ [سورة آل عمران:146] وهم قد قتلوا؟
وهذا في الواقع لا إشكال فيه؛ لأن ذلك يرجع إلى من بقي منهم لم يقتل، يعني أن إخوانهم لم يتراجعوا، ويتضعضعوا، ويضعفوا أمام عدوهم حينما استحرَّ القتل في إخوانهم، وإنما من بقي حياً بقي عزيزاً ثابتاً، صامداً صابراً لم يتضعضع مع كثرة ما وقع من القتل لإخوانه.
وهذا جواب واضح، ولا إشكال فيه، وله شواهد، وله ما يدل على صحة هذا التخريج ومنها قول الله لبني إسرائيل في الكفارة لما عبدوا العجل: فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ [سورة البقرة:55] أي أنهم لما طلبوا أن يروا الله جهرة عاقبهم الله بأن أخذتهم الصاعقة فكيف ينظرون؟
المعنى على أحد الأقوال في الآية: أن بعضهم ممن لم يمت كان ينظر إلى الآخر وهو يموت أي ينظر بعضهم إلى بعض فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ [سورة البقرة:55]، فهذا أحد المعاني في هذه الآية، وبمثل هذا المعنى يقال في قوله: فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ [سورة آل عمران:146] أي أن من بقي حياً بقي عزيزاً ثابتاً، صامداً صابراً، لم يتضعضع مع كثرة ما وقع من القتل لإخوانه، والله تعالى أعلم.
وعلى القراءة الأخرى: وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ [سورة آل عمران:146] فهذا لا إشكال فيه، ثم إن القتل غير القتال، فما أصابهم من جراح، وآلام، وهزيمة لم يفتّ في أعضادهم، والآية تحتمل هذه المعاني جميعاً، وهذه المعاني معتبرة فيها وهي تربية لأهل الإيمان، فقد يقتل نبيهم كما قتل جماعة من الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -، وقد يقتل كثير من الأتباع بل من خيار الأتباع، وتبقى البقية صامدة ثابتة لا تتضعضع، والقرآن يعبر عنه بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، ومن المعاني أنه يفترق المعنى في حال الوقف والوصل، فعند الوقف وكأين من نبي قُتل يصير المعنى والحال أن معه هؤلاء الجماعات رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ [سورة آل عمران:146]، والله أعلم.
قيل: معناها "كم من نبي قُتل وقُتل معه ربيون من أصحابه كثير"، يقول: "وهذا القول هو اختيار ابن جرير"، والصواب أن هذا ليس اختيار ابن جرير، وإنما اختيار ابن جرير يوافق قول ابن إسحاق الذي سيأتي.
يعني عكس الأول، فالقول الأول الذي قال عنه: "وهذا قول ابن جرير" هو إن القتل وقع على الربيين، والقول الآخر هو أن القتل وقع على النبي فثبت أتباعه، وأصحابه من بعده، وهذا هو قول ابن جرير وليس الأول.
قوله: "وله اتجاه؛ لقوله..." يعني والذي يمكن أن يرجِّح هذا القول هو قوله تعالى: فَمَا وَهَنُواْ، والمعنى أنه لو كانوا هم الذين قتلوا فكيف يقول: فَمَا وَهَنُواْ؟
لكن هذا يُرَدُّ بأنه لا إشكال فيه في الواقع حيث إن البقية التي لم تقتل منهم هي التي صبرت، وثبتت، وصمدت.
أي: لم يحكِ قولاً آخر، وإنما اقتصر على هذا كأنه مختار.
وقال ابن عباس - ا - ومجاهد، وسعيد بن جبير وعكرمة، والحسن وقتادة، والسدي والربيع، وعطاء الخرساني: الربيون: الجموع الكثيرة".
بعضهم يقول: إن الرّبة الواحدة ألف، والربيون: بمعنى ألوف، فهذا تفسير لقول من قال: إن الرِّبة والرَّبة الواحدة تعني ألفاً.
يقول: "وقال ابن عباس - ا - ومجاهد، وسعيد بن جبير وعكرمة، والحسن وقتادة، والسدي والربيع، وعطاء الخرساني: الربيون الجموع الكثيرة" وهذا لا ينافي قول من قال: إنهم ألوف؛ فالألوف جموع كثيرة، وقد قرأ بعض السلف بضم الراء، وهي ليست من القراءات المتواترة، لكن نقل ذلك عن علي وجاء عن ابن عباس بالفتح، وبهذا يكون الواحد رَبِّي والجمع على الفتح رَبيون، وبعضهم يقول: هذا نسبة إلى الرب، كقوله: وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ [سورة آل عمران:79] ويقال: العالم الرباني، والرباني فيه معنى التربية، وقالوا: الربانيون يعني فقهاء علماء، وقالوا: الذين يرجع إليهم الناس في شئونهم كلها، وما ألم بهم في دينهم، ودنياهم، وما أشبه هذا، وإذا قيل بضم الراء وكسرها يكون منسوباً إلى الرِّبة أو الرُّبة، وهي الجماعة أو الألف.
فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ [سورة آل عمران:146] قال قتادة والربيع ابن أنس: وما ضعفوا بقتل نبيهم، وَمَا اسْتَكَانُواْ يقول: فما ارتدوا عن بصيرتهم، ولا عن دينهم أن قاتلوا على ما قاتل عليه نبي الله حتى لحقوا بالله.
وقال ابن عباس - ا -: وَمَا اسْتَكَانُواْ تخشعوا، وقال السدي وابن زيد: وما ذلوا لعدوهم، وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ [سورة آل عمران:146]".
يعني كأن الاستكانة تكون من قبيل الظاهر، أي ما يظهر عليهم من التخشع، وأما الضعف والوهن فيكون بالقعود عن عدوهم، ومناجزته، ويكون ذلك في القلوب، وما يكون في الخارج إنما هو نتيجة عنه، وعلى كل حال بعض أهل العلم يفرق بين هذه الألفاظ الثلاثة في قوله: فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ [سورة آل عمران:146] فينبغي مراجعة كتب التفسير في ذلك.