ما ذكر الله -تبارك وتعالى- ما زُين للناس من متاع الحياة الدنيا من تلك الشهوات التي ذكر رؤوسها السبع، وهي: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ [آل عمران:14] عقّب ذلك ببيان انحطاط مرتبتها، فقال: ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثم ذكر ما عنده من حُسن المرجع والمصير، فقال: وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ [آل عمران:14] وذلك فيه ما فيه من تغليب رحمته على عقوبته، فذكر حُسن المآب، ولم يذكر سوء المآب للكافرين، كما قال: إن رحمتي سبقت غضبي .
بعد ذلك ذكر من حُسن المآب ما أعد الله -تبارك وتعالى- لعباده المؤمنين المتقين، مما هو خير من ذلك المتاع الزائل، فقال: قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران:15] أي: قل لهم يا محمد: أَؤُنَبِّئُكُمْ أأُعلمكم وأُخبركم بخير من ذلك المتاع الزائل، الذي زُين للناس من تلك الشهوات التي ذكر رؤوسها، وهي سبع، كما سبق؛ مما يكون للذين اتقوا الذين جعلوا بينهم وبين عذاب الله وقاية، بفعل ما أمر، واجتناب ما نهى عنه وزجر.
جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ بساتين كثيفة الأشجار، تجري من تحت قصورها وأشجارها الأنهار السارحة، مع ما لهم فيها من الأزواج المُطهرة من كل دنس، سواء الأدناس الحسية أو الأدناس المعنوية، كما سيأتي.
وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وفوق ذلك كله أن الله -تبارك وتعالى- يكتب لهم رضوانه، فلا يسخط عليهم أبدًا، وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ نافذ البصر، مُطلع على السرائر والضمائر والظواهر، لا يخفى عليه منهم خافية، وسيُجازيهم على أعمالهم.
فنتعلم من قوله: قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ طريقة من طرائق الخطاب والتشويق باستخدام هذا الاستفهام: قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ فلم يقل: فخير من ذلكم جنات تجري من تحتها الأنهار، وإنما قال: قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ أأخبركم، فهذا يجعل السامع يتطلع إلى ما سيُقال، ويجد في نفسه ما لا مدفع له، فيقول: نعم، ما الذي يكون أفضل من هذه اللذات وهذه المذكورات السبع: النساء، والبنين، والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة، والخيل المسومة، والأنعام والحرث؟! فماذا بقي؟! فهذه التي يتنافس فيها الناس، ويتهافتون عليها، فما هو خير منها؟
ولما كان الخطاب موجهًا لجميع الناس، جاء هنا الضمير بصيغة الجمع قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ يا معشر الناس بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ فالمخاطب هو مجموع الناس بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ وهذه الصيغة ذَلِكُمْ للبعيد، والميم تدل على الجمع، وقد يُفهم منها معنى التعظيم قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ وهو ما سيذكره من هذه الألوان من النعيم الذي لا يُقادر قدره، فجاء بهذه الصيغة، واختصر الكلام في هذه المذكورات، فلما يُعِدْها، واكتفى بالإشارة إليها بقوله: ذَلِكُمْ ليزهد الناس فيها، ويرغبوا فيما يذكره الله -تبارك وتعالى- لهم.
ثم أمر النبي ﷺ بهذا قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ يدل على الاهتمام بشأن ما يُذكر بعده، وأيضًا همزة الاستفهام تدل على التقرير والعرض؛ وذلك كما سبق يتضمن التشويق، وشد الانتباه، ولفت الأنظار، وهذا يدل على أن ما سيُذكر بعده في غاية الأهمية، سيذكر المستقبل الحقيقي الذي ينبغي أن تتوجه النفوس والقلوب إليه، وتوجه إليه الاهتمامات.
ثم قال: قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ ولم يقل: قل أأُعلمكم وأُخبركم، فالنبأ يُقال لما له خطب وشأن، فكل خبر له خطب وشأن فهو نبأ، فالنبأ أخص من الخبر وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ[ص:21]، تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ [هود:49] أنباء يعني أخبار مهمة، فحينما يذكر الله أخبار الرسل والأمم يذكر ذلك بهذه الصيغة، فالعرب تقول: جاءنا نبأ الحرب، وجاءنا نبأ الأمير، ولا يقولون: جاءنا نبأ حمار الحجام؛ لأن حمار الحجام لا شأن له، لكن الشيء المهم الذي له مكانة وأهمية يُقال له: نبأ، فحينما يقال لك: هل بلغك النبأ؟ فتعرف أنه له شأن وخطب، لكن الخبر يُقال لما لا قيمة له، ولا شأن، فهنا قال: قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ يدل على أن ما سيُذكر له أهمية بالغة، فينبغي أن يُعتنى به.
ثم أيضًا التنكير في قوله: بِخَيْرٍ يدل على التعظيم، وهو بهذه المثابة من قبيل المُبهم بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ فتتطلع النفوس إلى ما هو هذا الخير؟ وخير هنا أفعل التفضيل، يعني أخير، مع أنه لا مجال للمقارنة بين نعيم الآخرة وما في الدنيا من اللذات، وقد لا يكون مرادًا بها معنى أفعل التفضيل، وإنما الخيرية مطلق الاتصاف، وكأن هذا أقرب -والله تعالى أعلم-؛ لأنه كما قال:
أما ترى أن السيف ينقص قدره |
إذا قيل: إن السيف أمضى من العصا. |
وهذا له نظائر كثيرة في القرآن ذكرتها في بعض المناسبات آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ [النمل:59] ما فيه وجه هنا للتفضيل، أفعل التفضيل تكون بين اثنين اشتركا في صفة، وزاد أحدهما على الآخر أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ [الصافات:62] الجنة أو شجرة الزقوم؟! لا مجال للمقارنة والمفاضلة بينهما، أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً [الفرقان:24] فهذا يُراد به مُطلق الاتصاف، والله تعالى أعلم، وليس معنى أفعل التفضيل.
ثم أيضًا ذكر بعد ذلك تفاصيل هذا النعيم المذكور الذي شوقهم إليه، ورغبهم فيه لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ، ففي قوله: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ [آل عمران:14] للغائب، ثم قال: قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ هذا للمُخاطب، وهذا يسمونه الالتفات، فهنا جاء إلى أمر مهم في غاية الأهمية فغير الخطاب ونوّعه، وجه إليهم الخطاب مباشرة، قل أؤنبئكم أيها الناس الذين زُين لهم حب الشهوات فهذا خير منها.
وفي قوله -تبارك وتعالى-: لِلَّذِينَ اتَّقَوْا حُذف المعمول هنا وهو المُتعلق، اتقوا ماذا؟ اتقوا كل ما يجب أن يُتقى؛ لأن الأصل في حذف المُقدر أنه يُحمل على العموم المناسب له، فلم يقل: اتقوا الكبائر، أو اتقوا الشرك، وإنما قال: لِلَّذِينَ اتَّقَوْا فاتقوا الشرك، والكبائر، واتقوا الذنوب، والمعاصي.
ثم أيضًا قوله -تبارك وتعالى-: عِنْدَ رَبِّهِمْ يؤخذ منه أن ذلك في غاية الفخامة والعِظم، بحيث لا يُقادر قدره لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ فلما يكون هذا الجزاء عنده، فلا تسأل عن هذا الجزاء في جزالته وكثرته وفخامته، فذلك النعيم في غاية اللذة والإكرام، أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فهو عِنْدَ رَبِّهِمْ وليس عند أحد من أهل الدنيا، حتى تذهب الأذهان هنا وهناك، أنه فواكه وربما أشياء مما يتعاطاه الناس، ويأكلونه في هذه الدنيا، لا، هذا عند الله، والنبي ﷺ أخبر عن شجرة واحدة من شجر الجنة، يسير الراكب الجواد المُضمر السريع، يعني فيه هذه الأوصاف الثلاثة مائة عام لا يقطعها، وقد تحدثت عن هذا المعنى بشيء من التفصيل في مقاييس أهل الدنيا يعني سرعة الجواد المُضمر السريع كما يقع في الساعة واليوم والشهر والسنة، فتوقفت بعض آلات الحساب التي استعملتها، لكن النبي ﷺ ذكر لهم شيئًا يُدركونه، فالراكب الذي يركب على الجواد السريع المُضمر، والمُضمر الذي ذهب زهمه، وبقي مُكتنز القوة، فهو مُضمر ومُعد للسباق، فهو أسرع ما يكون، وهذا سرعته تتجاوز المائة كيلو في الساعة، فقدرته بأقل التقديرات فتوقفت بعض الآلات الحاسبة، فلم تستطع أن تأتي بالأرقام مائة سنة، وهي أكثر من مائة عام، ولا يقطعها، وهذه شجرة واحدة، ولا يتصور هذا في الدنيا هذه التي عليها الناس ومعايشهم وأموالهم ويتهافتون عليها، ويُضيع من يُضيع آخرته من أجل بعض ما في جناح البعوضة، أو أقل من جناح البعوضة، فهذه الدنيا لا تساوي ولا حبة من الحمص بجوار هذه الشجرة، فكيف بالجنة وما فيها من الأشجار؟! وقد صح في الحديث: ما في الجنة شجرة إلا وساقها من ذهب، وأخبر النبي ﷺ أن في الجنة خيمة من لؤلؤة مجوفة، عرضها ستون ميلاً، في كل زاوية منها أهل، ما يرون الآخرين، يطوف عليهم المؤمن، فعرضها ستون ميلاً فيكف بطولها؟!
وعِنْدَ رَبِّهِمْ فهذا يدل على القرب من الله -تبارك وتعالى-، ويدل على كثرة الجزاء، وما أعد الله لهم من النعيم، إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ [الأعراف:206] هؤلاء المقربون من الملائكة -عليهم السلام-، فهذا كما قال الله : إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [القمر:54-55] وقد تحدثنا في بعض المناسبات عن مدخل الصدق، ومخرج الصدق، ومقعد الصدق، ولسان الصدق، فهذا مقعد صدق بما تحمل هذه الكلمة من المعاني، أبعد ما يكون عن الزور والباطل والزيف والبهرج الذي لا حقيقة له، مما يتشبع به كثير من الناس، وسرعان ما يتلاشى، فهذا مقعد صدق عِنْدَ رَبِّهِمْ فأضاف هذا الاسم الكريم (الرب) وإلى ضمير المتقين، والرب عرفنا أنه يدل على التربيب والتربية، فهو يدل على عناية بهؤلاء المتقين، ويدل على ألطاف نازلة عليهم؛ لأنه من عند الرب، ويدل على تشريف لهم، فأضافهم إليه -تبارك وتعالى-.
قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ يعني: من تلك الشهوات التي زُينت للناس، لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران:15].
فتنكير الجنات في قوله -تبارك وتعالى-: لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ للتعظيم، فهي جنات عظيمة، وقد ذكرنا في الليلة الماضية أن النبي ﷺ ذكر شجرة في الجنة، يسير الراكب الجواد السريع المُضمّر مائة عام لا يقطعها، فهذه شجرة واحدة في الجنة، فنعيم الجنة لا يمكن أن يُقاس بشيء مما في هذه الدنيا، فحينما يكون الإنسان في النعيم واللذة فإن الذي يُنغص عليه لذته هو تذكر الموت، ومفارقة هذا النعيم، فمهما عظُم نعيم الإنسان فإن تذكر الموت والفراق يُكدره؛ ولهذا كان بعض الشعراء يُحب أيام الهجر والفقد راجيًا أن يأتي الله بعدها بالوصال، ويكره أيام الوصال لما يعقبها من الفراق، وهذا في فراق الأحبة في الدنيا، حينما يجتمعون في مكان واحد، في مناسبة، كالعيد، ونحو ذلك، ثم يذهب كل واحد في ناحية، فهذه حال الدنيا، وقد يلتقون بعدها في الدنيا، لكن إذا مات فإنه لا لقاء بعده، فهو الرحيل الأخير، وإنما يكون اللقاء في الآخرة إن كانوا من أهل الجنة، ففي الجنة، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم ووالدينا وإخواننا المسلمين من أهلها، فالفراق وتذكره، وأعظمه الموت، هو الذي يُنغص على الناس اللذة والراحة.
لَا أرى الْمَوْت يسْبق الْمَوْت شَيْء |
نغص الموت ذا الغنى والفقيرا. |
فإذا تذكر الإنسان أنه سيرحل، فإن ذلك يُكدر عليه ذلك النعيم، الذي يتقلب فيه، فحينما يكون الإنسان في بحبوحة من العيش، ويسكن أعظم وأوسع وأكبر القصور، ثم يتذكر أنه في أي لحظة قد يُستلب، ثم بعد ذلك يوضع في ملحودة جوانبها غُبر، عند ذلك يتكدر عليه هذا النعيم والراحة واللذة، ويُدرك جيدًا أنها ليست دائمة، وإنما هو شيء مؤقت لا يدري في أي لحظة يُقال له: ارتحل، وهو بين أهله مغتبطًا، وإذا به ينتقل من هذه الدار إلى دار أخرى، فهذا لا شك أنه يُكدر لذة الإنسان؛ ولهذا حينما يذكر الله الجنة ونعيمها في القرآن، يذكر الخلود فيها؛ لأن ذلك من أعظم النعيم، فالنعيم من أعظم ما يُنغصه ويُكدره -كما سبق- مُفارقته، والناس يذهبون ويُسافرون في مثل هذه الأوقات، وربما بقوا في أماكن جميلة فيها شيء من البهجة، لكن كأنه بين لحظة وأخرى وإذا به يتهيأ للانتقال والفراق، وهكذا الحياة دخل من هنا، وخرج من هنا، كأنه لم يبق فيها إلا لحظة، أما في الجنة فبقاء أبدي سرمدي، لا ملل معه، ولا سآمة، في الدنيا يمل ولو ذهب إلى أجمل الأماكن، يبقى مدة أسبوع أو أسبوعين أو ثلاثة أو شهر، ثم بعد ذلك يبدأ الملل يتسلل إلى نفسه، ثم تطيب نفسه من هذا المكان، ويقضي وطره منه، ثم بعد ذلك تتطلع نفسه إلى الانتقال، فهكذا الحياة، وأما الجنة فليس فيها هذا الملل والسآمة، فنعيمها مُتجدد، ولذاتها متجددة، وشبابهم وجمالهم كل ذلك يتجدد، وهكذا الطيبات التي تكون في الجنة، كما قال الله : كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا [البقرة:25] فقوله: قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ فيه قولان مشهوران للمفسرين، من أظهرهما: أن المقصود هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ أي: في الجنة، يعني: جاءنا قبل قليل، لكن هو يتشابه في صورته وهيئته وشكله، ولكن يختلف في حقيقته وطعمه، وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا [البقرة:25] فنعيم الجنة لا يُمل ولا يُسأم، وكذلك ما فيها من اللذات بأنواعها المختلفة، بخلاف الحياة الدنيا؛ ولهذا فذكر هنا الخلود خَالِدِينَ فِيهَا.
وأيضًا في قوله: لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ قدم ما حقه التأخير، فلم يقل: جنات للذين اتقوا عند ربهم، وإنما قال: لِلَّذِينَ اتَّقَوْا اهتمامًا بهم، ثم ذِكْر التقوى هنا يدل على الصفة التي كانت سببًا بعد لطف الله ورحمته بهم، فدخلوا الجنة وهي تقوى الله -تبارك وتعالى-، فذكر هذا الوصف مع الجزاء وهو الجنة، يدل على أن التقوى هي الطريق والسبيل إلى الجنة، نعم لن يدخل أحدًا عمله الجنة قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: لا، ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله بفضل ورحمة، لكن لا شك أن العمل والإيمان والتقوى هو السبب، وأن هذا لا بد منه، كما تدل عليه النصوص الكثيرة في الكتاب والسنة؛ ولهذا فذكر هذا الوصف لِلَّذِينَ اتَّقَوْا فمن رام الجنة فعليه بالتقوى، ويكون نعيم العبد ومرتبته في الجنة ومنزلته بحسب ما عنده من التقوى، وبحسب ما يتحقق له من هذا الوصف.
لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ فجاء بصيغة الجمع، فهي جنات كثيرة، والناس يتفاوتون فيها غاية التفاوت، ولهذا قال النبي ﷺ: إن أهل الجنة يتراءون أهل الغرف من فوقهم، كما يتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق، من المشرق أو المغرب، لتفاضل ما بينهم، والكوكب الغابر: هو الكوكب البعيد في الأفق، كيف يتراءه الناس لبُعده؟ فهؤلاء يتراءون أصحاب الغرف والدرجات العالية في الجنة، كما نتراءى نحن الكوكب العالي في الأفق، إذًا بين أهل الجنة مراتب، وهذه المراتب بناء على تفاوت الناس بالإيمان، والعمل الصالح، والتقوى، فهذا يدفع الإنسان للجد والاجتهاد والعمل، ويُسليه عما في هذه الحياة، وما يفوته منها، هذه ليست بشيء، تمضي على الجميع، على الفقير والغني، والصحيح والمريض، هي معبر، ولكن المستقر هناك، فينبغي أن يشتغل العبد بعمارتها، وتحصيل المراتب العالية فيها.
جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ فلما ذكر الله -تبارك وتعالى- الجنات، وهي المستقر والمنزل، ذكر ما يؤنس به، وهو الأزواج المطهرة، فوصفها هنا بالمطهرة، وأطلق في هذا الوصف، بمعنى أنه لم يقل مطهرة من الحيض والنفاس -أعزكم الله-، ولم يقل مطهرة من البُصاق والعرق، ونحو ذلك، ولم يقل مُطهرة من البول، ونحوه، ولم يقل مطهرة من الخناء والفواحش والريبة، ولم يقل مُطهرة الألسُن من الكذب والغيبة، وقول الزور والاستطالة على الزوج والأحماء، ولم يقل مُطهرة الأعين من النظر إلى الحرام، ولم يقل مطُهرة القلوب من الحسد والغيرة والحقد والغل، وما أشبه ذلك، وإنما أطلقه؛ ليشمل هذه المعاني جميعًا، فهن مُطهرات طهارة حسية، من كل دنس، وطهارة معنوية، وأهل العلم يذكرون ما يكون من الإنسان في أشرف أعضائه، وهو الرأس، يخرج الأذى منه من سبعة مواضع، وهو في أشرف عضو، دعك مما يكون وراء ذلك، ولا يخفى ما يشتمل عليه ما تتطلع إليه، وتهفو إليه نفوس أكثر الخلق، بما جُبلوا عليه من الغرائز والشهوات، وما في ثنايا ذلك من ألوان الأذى الذي تنفر منه الطباع، لو أن الناس تفكروا وتأملوا، ولكن الشهوة تغلب فتُنسيه ذلك جميعًا، أما في الجنة لا يوجد شيء من هذا، مُطهرة من كل دنس حسي، ومن كل الأرجاس والأوصاف المرذولة المعنوية والنفسية، أجساد نظيفة طاهرة، لا يوجد فيها أدنى أذى، وكذلك أيضًا ألسُن طاهرة، وأسماع طاهرة، وأبصار طاهرة، وجوارح طاهرة، وقلوب طاهرة، نظيفة سليمة، يجتمع لهن حُسن الظاهر، مع جمال الباطن، فهذا هو الكمال، وهذا لا يتأتى في الدنيا بحال من الأحوال؛ لأن الدنيا جُبلت على حال أخرى تمامًا، لكن إنما يُبرز من يُبرز من قلّ فيه ذلك الوصف المشين، يعني: يكون فيه من طهارة القلب، ويكون فيه من النزاهة، ومن طهارة اللسان، أما المُدنسات الحسية التي جُبل الإنسان عليها، فهذا لا سبيل إلى الخلاص منه.
إذًا السمو الحقيقي هناك وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ لا حيض ولا نفاس، ولا غير ذلك، ولا كذب ولا استطالة، ولا غِل، ولا سوء ظن، ولا أذى، ولا مشكلات.
وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ فهذا الرضوان هو أعظم هذا النعيم الذي يُعطاه أهل الجنة؛ وذلك أنه لا يكتمل النعيم بحال من الأحوال مهما عظُم إلا بالرضا، ولك أن تتصور أنك تذهب إلى مُنتجع جميل، أو تسكن في أحسن الفنادق، ونحو ذلك، ولكن هناك قلق وإشكال، الحجز ليس كما ينبغي، أو أن هذا المكان محجوز لغيرك، أو هناك خطأ في الحجز، أو التاريخ الذي وجد غير التاريخ الذي أعطوك، أو نحو هذا، فيتصلون بين ساعة وأخرى هذا المكان ليس لكم، يجب أن تغادروا هذا المكان، هناك من سيأتي، هذا المكان محجوز لغيركم، وأنت تقول: أنا عندي حجز، وهذه الأوراق والإثبات، فيبقى الإنسان في قلق، أمامه ألوان الأمور المُبهجة والنعيم، لكنه لا يتمتع بها؛ لماذا؟ لأنه قلق، ولو ذهب إلى مكان جميل، روضة غناء، لكنه يعلم أن هذا المكان محمي، وأنه لا يحق لأحد أن يذهب ويمكث فيه، فتسلل إليه ودخل، هل يكون مستريحًا مغتبطًا، أو يترقب؟ يكون في ترقب دائم، وفي قلق غير مستريح، لكن متى يستريح؟ إذا قال له صاحب ذلك الموضع: نم قرير العين، فأنت في سعة وبحبوحة وحِل وعافية، فيطمئن ويرجع، ويطلب الطعام والشراب، وكل ما يمكن أن يلتذ به، لكن قبل ذلك مستوفز، فهذا الرضوان من الله -تبارك وتعالى- هو الذي يبعث على الراحة والطمأنينة، ويحصل به هذا الاستمتاع الحقيقي بهذه اللذات، وقد ورد: إن الله -تبارك وتعالى- يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة؟ فيقولون: لبيك ربنا وسعديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدًا من خلقك؟ فيقول: أنا أعطيكم أفضل من ذلك، قالوا: يا رب، وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني، فلا أسخط عليكم بعده أبدًا .
والمُقلق الآخر الفراق والموت والارتحال يجاء بالموت يوم القيامة، كأنه كبش أملح فيوقف بين الجنة والنار، فيقال: يا أهل الجنة هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون ويقولون: نعم، هذا الموت، قال: ويقال: يا أهل النار هل تعرفون هذا؟ قال فيشرئبون وينظرون ويقولون: نعم، هذا الموت، قال فيؤمر به فيذبح، قال: ثم يقال: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت، هذا البقاء الأبدي السرمدي، انتهى الموت، لا يوجد موت، فأهل الجنة في نعيم دائم مُتجدد، وأهل النار في عذاب متجدد، وهم يدعون الهلاك، لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ [الزخرف:77] فهنا لا يوجد موت، وهناك حياة بلا نهاية، إما راحة ولذة كاملة، أو تعاسة كاملة، تعاسة حقيقية طويلة، ليست لمدة أسابيع أو أشهر، الإنسان هنا قد يتعس أسابيع، أو سنوات معدودة، ثم ينتهي كل شيء، هناك التعاسة هي التعاسة التي ليس بعدها -نسأل الله العافية- سعادة، فالعاقل يشتغل ويجتهد ولا يغتر بما في هذه الدنيا من الحطام.
وأضاف الرضوان إليه ، إلى الاسم الظاهر وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ ولم يقل: ورضوان منه، وإنما قال: مِنَ اللَّهِ للتعظيم، وبيان منزلة هذا الرضوان، فهو رضوان مِن مَن؟ مِنَ اللَّهِ ليس من ملك، ولا من بشر، وإنما من الله الذي يملك الملك، ولاحظ هذه الصيغة رِضْوَانٌ تدل على المُبالغة، فلم يقل: ورضا من الله، ولا شك أن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، فحينما يقول: وَرِضْوَانٌ فهذا أبلغ في المعنى، فهو يدل على عِظم هذا الرضا؛ ولهذا قالوا: بأن اسم الرحمن أبلغ من الرحيم؛ لأسباب، منها: قالوا: زيادة المبنى -اللفظ- يدل على زيادة المعنى، وهكذا في نظائره.
ثم ختم هذه الآية بقوله: وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ فهذا يُنبه إلى أن الدعاوى المُجردة لا تجري على الله ، قد تكون نافقة مع الخلق، كون الإنسان يصف نفسه أنه تقي، وأنه أحسن من فلان، وأفضل من الآخرين، لكن عند الله لا، فالله بصير، و(بصير) صيغة مُبالغة، أي: نافذ البصر، بصره نافذ في العباد، فالمسألة ليست دعاوى، فالله مُطلع على الحقائق، وهذا يدعو إلى إصلاح الحال، وإخلاص العمل، وإصلاح السرائر، وإصلاح النيات والمقاصد، والإخلاص لله ؛ لأنه بصير بالعباد.
فأولئك الذين ينحرفون ويُسيئون ويُسرفون على أنفسهم هذا تهديد ووعيد لهم، بأن الله بصير بالعباد، لا يخفى عليه من أعمالهم شيء، وهذا البصر حينما أخبر الله به، فهو يقتضي المحاسبة، وهو أنه سيحاسبهم، ويعقب ذلك الجزاء وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ، مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا [الجاثية:15].
وفيه أيضًا وعد لأهل البر والتقوى، فالله بصير بهم، وعالم بأعمالهم وأحوالهم ونياتهم وسرائرهم، وسيُجازيهم على ذلك أعظم الجزاء، فهذا يكون مُطمئنًا لنفوس أهل الإيمان والتقوى، وحافزًا لهم على العمل الصالح، فهو لا يضيع عند الله ، ويكون أيضًا زاجرًا عن الإساءة والمعصية، فإن الله لا يخفى عليه خافية، فهو يعلم أحوال العباد ومراتبهم بالإيمان والتقوى والصلاح والبر والإحسان والإساءة، وما إلى ذلك.