بعد ما ذكر الله -تبارك وتعالى- أن الكافرين لن تُغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئًا، حذّر بعد ذلك من الافتتان بمباهج الدنيا وما فيها من الزينة والمتاع الزائل، حذّر من التعلق بذلك على حساب العمل للآخرة والتقرب إلى الله -تبارك وتعالى- وطاعته فقال: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ [آل عمران:14].
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ، هنا بُني الفعل فعل التزيين "زُين" للمجهول حُذف فاعله، وذلك معلوم فالله -تبارك وتعالى- هو الذي زين ذلك بما جبل النفوس على محبة هذه المذكورات والميل إليها وشدة الرغبة فيها كما قال الله : وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا [الفجر:20]، وقال: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ [التغابن:15]، لشدة علوق القلب بذلك، ولذلك لما رأى النبي ﷺ الحسن أو الحسين والنبي ﷺ على المنبر وهذا يمشي ويقع فنزل وقطع خطبته -عليه الصلاة والسلام- ثم بعد ذلك ضمه وحمله، وقال: صدق الله: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن:15]، يعني: أن ذلك لا يخلو بحال من الأحوال من جهة تعلق القلب بهم، وجاء بها كما ترون في صيغة الحصر: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ [التغابن:15]، وكما ذكر في العداوة قال: إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ [التغابن:14]، "من" فهي للتبعيض؛ لأن بعضهم أي بعض الزوجات والأولاد يحثون على طاعة الله ، وقد يستقيم حال الوالد بسبب هؤلاء الزوجات والأولاد، ولكن بالنسبة للفتنة لا شك أن الأموال والأولاد فتنة، ولهذا كان بعض السلف جاء عن ابن مسعود في الاستعاذة من الفتن أن يقول: اللهم إني أعوذ بك من مُضلات الفتن، يعني: لا يقول: أعوذ بك من الفتن؛ لأن أولاده وأمواله فتنة، وإنما يقول: أعوذ بك من مُضلات الفتن، مع أنه من نظر في النصوص واستقرأ ذلك وجد أنه لا غضاضة أن يقال: اللهم إني أعوذ بك من الفتن.
فهنا: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ، وهنا "الناس" "ال" للجنس يعني جميع الناس: المؤمن والكافر، البر والفاجر، زُين لهم: رُكب في نفوسهم حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة، محبة الشهوات، محبة المُشتهيات، وهو ما يميل إليه الإنسان بطبعه ويهواه فتلك شهوته.
فهنا كما سيأتي إن شاء الله قال: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ، فصار ذلك مركوزًا في النفوس، ثم ذكر صنوفًا من هذه الشهوات وهي أعلاها وأعظمها وأشدها هذه المذكورات السبع في هذه الآية، إذا اعتبرنا الذهب والفضة شيئًا واحدًا يعني من القناطير.
فهنا ذكر من النساء والبنين وهم الذكور من الأولاد، والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة، والقِنطار اختلفت عبارات المفسرين وأهل اللغة في تفسيره؛ ولكن الأقرب أنه يُقال: للمال الكثير، لا يُقال: للقليل قنطار، وإنما يُقال: للكثير، وهنا صيغة الجمع "قناطير" ثم جاء ما يدل على الكثرة الكاثرة فقال: الْمُقَنْطَرَةِ، ومعنى المقنطرة يعني المُضاعفة، قناطير أموال كثيرة ومُضاعفة: مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ ومعنى الخيل المسومة فُسر بتفسيرات متعددة، قيل: "المسومة" يعني السائمة التي تسوم في المرعى، وقيل: المسومة يعني الخيل الجميلة التي عليها سيما الجمال، والجمال في الخيل ظاهر، وهو أظهر منه في الإبل مثلاً أو غيرها من الدواب؛ لأن الله ذكر ذلك على سبيل الخصوص فيها في هذا الموضع.
وبعضهم يقول الخيل المُعلمة عليها شيات وعلامات، إلى غير ذلك من الأقوال، وبعض المفسرين جمع بين هذه الأقوال قال: هي سائمة وجميلة وعليها علامات، كل ذلك واقع: وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ والمقصود بها: بهيمة الأنعام من الإبل والبقر والغنم، وَالْحَرْثِ وهو الزرع بأنواعه.
ثم قال الله : ذَلِكَ يعني المذكورات، مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، يعني: أنه شيء زائل، وأنه مُضمحل، فهو متاع، والمتاع يدل على القلة والزوال وأن ذلك مُضمحل لا محالة، كل هذا، النساء والبنين والقناطير المقنطرة كل هذا متاع الحياة الدنيا.
وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ، يعني: حُسن المرجع والمصير، وهنا قد يقول قائل أيضًا النار للكافرين، وقد ذكر الله حُسن المآب، يُقال هذا ذكره على سبيل الترغيب والتزييد فيما يتعلق به الناس في هذه الحياة الدنيا، فناسب أن يذكر حُسن المآب في الآخرة؛ ليجذبهم إليها، وإلا فلا شك أن الله عنده أيضًا سوء المآب للأشرار والكفار وأعداء الرسل فهذا لا إشكال فيه، وإنما هو سؤال قد يرد على بعض الأذهان فهذا جوابه.
يؤخذ من هذه الآية الكريمة من الهدايات: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ، يدل على أنها لا حقيقة لها، "زُين" هذا التزيين، وبالبناء للمجهول يدل على حقارة هذا، مع أن الذي زينه هو الله، لكن فرق بين أن يُقال: زين الله وبين أن يُقال: زُين للناس، فذلك أحقر من أن ينوه به بنسبته صراحة إلى الله .
في كثير من الأحيان قد يكون الإنسان في بعض سِنْي عُمره أو في بعض أحواله أو في بعض تقلباته يُعجبه بعض الأشياء ويميل إليها، ويتحدث عنها في المجالس، ويبذل الأموال في سبيلها زُينت له، بينما نجد آخرين لا يلتفتون إليها، ولا يرفعون بذلك رأسًا ولا يرون لها شأنًا، ثم هذا الذي زُينت له قد تنقلب الحال بعد ذلك فيتلاشى ما كان يجده، هذا قد يكون في حُب بلد زارها يُعجب بها وتُزين له، ثم يزورها مرة أخرى، ويتعجب كيف كان ينجذب إليها، قد يهوى لونًا من الطعام، ثم بعد ذلك يتغير مزاجه، ويعجب كيف كان يستصيغه ويلتذ به، وقد يهوى امرأة ويبذل المُستطاع في طلبها، ويبذل الأموال في نكاحها، ثم بعد ذلك قد يبدو له شيء آخر فينصرف قلبه عنها بالكلية، فيتعجب كيف فُتن بها؟ وكيف زُينت له هذه المرأة؟ وقد يُضيع امرأته وأولاده من أجل هذه المرأة الجديدة ثم بعد ذلك المنظار يتغير، هو كان يراها بصورة معينة ثم بعد ذلك تحولت هذه الصورة وصار يراها بصورة أخرى، ليس بالسحر ولكن أحوال الإنسان قد تتغير، هذا موجود.
قد يُعجب الإنسان بكتاب، وقد يُعجب بشخص فليهج بذكره بعد سنين بعد مدة قد يتغير رأيه في ذلك من غير موجب، يقرأ في هذا الكتاب مرة أخرى فيتعجب ما الذي كان يُعجبه في هذا الكتاب ويشده، ويجذب نفسه إليه، هذا يحصل، قد يُحب الإنسان مكانًا يذهب إليه حتى إن بعضهم أوصى أن يُدفن فيه، وهو ليس بمقبرة من شدة محبته لذلك المكان، وإذا رأيت ذلك المكان القاحل الذي لا يوجد فيه شيء من معالم الجمال تعجب كيف كان هذا يتعلق بهذا المكان حتى أنه كان يوصي أن يُدفن في ذلك الموضع، مكان قفر لا نبات فيه، ولا مظهر من مظاهر الحياة، ويُعجب به ويذهب دائمًا ويجلس فيه وعُرف هذا المكان أنه لفلان، هو لا يملكه عُرف لكثرة مُلازمته له، هو أوصى أن يُدفن فيه، ليس ببلد هو موضع، ما الذي جعل هذا الإنسان..؟!
وأحيانًا الإنسان قد ينجذب إلى بعض الأموال يُفتن بلون من المال: الإبل، الخيل، الغنم، النخيل، لون من الزرع، حتى قال الألوسي -رحمه الله- عند الكلام على قوله: مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ [الحشر:5]، هذا في قطع بعض النخيل في الحصار، حصار اليهود في وقعة النضير، غاظهم قطع بعض النخيل، مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ يعني نخلة، على خلاف في التفصيل، هل هو لون خاص من النخيل أو يشمل جميع أنواع النخيل، بصرف النظر، مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ [الحشر:5]، يعني: اليهود؛ لأنهم يتغيظون وهم ينظرون من فوق الحصون أن هذا النخل الذي تعبوا في غرسه وسقيه أنه يُحرق، قُطع أو حُرق نخلتان تقريبًا ما أُحرق شيء كثير، فجاء هذا الرد حينما قالوا: يا محمد تدعي الصلاح والإصلاح فما بال حرق النخيل؟ شنعوا عليه ﷺ في هذا، فجاء الرد القرآني، الشاهد أن الألوسي -وهو عالم عراقي- كان يقول: بأن بعض أصحاب النخيل في العراق يقول: "السعفة عندي كأصبع من أصابع يدي، وتحقق الحسرة على الذهاب إن كانت المقطوعة النخلة الكريمة أظهر" تصور الآن طرف العسيب يعني أحيانًا العسيب يكون يضيق الطريق الممر يحتاج الناس توسيع الممر فيُقطع بعض العسيب هنا وهناك في النخيل إذا طال، هؤلاء الذين يُفتنون بالنخيل هذا يقول: "ود أن بنانه قُطعت ولا يُقطع طرف العسيب"، هذا قد لا يتصوره الإنسان الذي لا يرى النخيل شيئًا، ويرى أنها تُضيق عليهم في البيوت وفي أماكنهم ونحو ذلك، ولكن هذا المفتون فيها لربما لا يوفر موضع شبر يمكن أن يضع فيه فسيلة إلا وضع، مفتون، ويبذل فيها الأموال الكثيرة، في بعض الأوقات غلا النخيل في المدينة في زمن عثمان ارتفعت النخيل الفسيل بمبلغ وقدره، الإبل أنفس أموال العرب بعض الناس يُفتن بها.
وبعضهم يُفتن بالغنم أو بعض أنواع الغنم، والآن ما شاء الله اهتمامات الناس أصبحت لا تخفى بأنواع هذه الأنعام والمُبالغة في أثمانها، وبذل الأموال الطائلة فيها، شيء لا يُصدقه العاقل، ما الذي جعل هؤلاء بهذه المثابة؟ "زُين" وإلا فلا حقيقة لذلك، كل هذا يضمحل ويتلاشى، وإذا أردت أن تعرف حقيقة هذا انظر إلى ما مضى أين الخيل؟ وأين الأنعام؟ وأين الزروع التي كانت عبر القرون؟ كل ذلك ذهب واضمحل، والموجود سيذهب ويضمحل إنما هو متاع يتمتع به من شاء الله، متاع قليل ثم بعد ذلك ينتقل صاحبه إلى ملحودة جوانبها غُبرُ، وعند ذلك لا خيل ولا جمال.
هذه حقيقة لهذا المتاع يُدركها المؤمن ببصيرته النافذة، ومن على قلبه غشاوة فإنه لا يزال يتبع ذلك حتى ينقضي العمر، وهو في شُغل شاغل ولهو، ثم بعد ذلك إذا وافى ربه، ورأى الأمور على حقيقتها وصار بصره حديدًا عند ذلك أدرك أنه كان عابثًا وأنه كان مُضيعًا ضيع العمر بما لا يستحق الاشتغال به والإقبال عليه.
فهذه الآية تدل على تزهيد في هذه المُتع، وذكر أعلى أنواع المُتع، بهذا الأسلوب، ثم أيضًا بختم الآية بقوله: ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [آل عمران:14]، والإشارة هنا كما سيأتي إلى البعيد يدل على بُعد مرتبتها ووصف ذلك بالمتاع إضافة ذلك إلى الدنيا، ما قال متاع: مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [آل عمران:14] قيل: من الدنو فهي لا تستحق كل هذا الجُهد، ولا التهافت عليها، ولا التنافس فيها، ولا الحزن على ما فات، فالكل يشقى إلا من شاء الله -تبارك وتعالى-، الذي لا يجد دائمًا يُفكر كيف يجد المال؟ وكيف يجمع الثروة؟ وكيف يُحصل هذه الشهوات؟ والذي يجد هو في شقاء في الجمع والحياطة والحفظ والتثمير وبين ذلك الحزن على ما فات منها، وتصرم من ديون ضائعة وخسائر واقعة، وقلق يساوره عن المستقبل، نزل سعر العقار، نزل قيمة الأسهم، ونحو ذلك مما يُفكر فيه دائمًا قائمًا وقاعدًا فهو في شُغل شاغل وألم، ولذلك تجد كثيرًا من الأمراض أمراض العصر السُكر الضغط وما أشبه ذلك تكثر عند الناس، لاسيما أصحاب الأعمال والثروات؛ بل يذكر بعض أصحاب المصحات النفسية أن أكثر المراجعين لهم هم من ذوي الثراء؛ لأنه في معاناة وشقاء ولربما أُصيب بشيء من العِلل المستعصية والجلطات ونحو ذلك بسبب خسارة وقعت، وقد سمعت من بعضهم هذا.
وبعضهم مَن الله عليه ورجع إلى ربه -تبارك وتعالى- بعد أن بلغه خسائر فادحة بأموال طائلة فجأة وهو في سفر في تجارة مع وفد من العاملين معه ومدراء الشركات المجموعة التي تنتسب إليه، ونحو ذلك ويأتيه الخبر ثم يقع في مكانه في ذلك البلد البعيد في المشرق، ويُكتب له حياة من جديد، ويكون ذلك سببًا لحياة جديدة، هذا قليل من يرجع إلى الله ، وإلا فقد يبقى الإنسان يتحسر، وأنتم تشاهدون وترون من الوقائع والنماذج في هذا العالم الشيء العجيب، الحرص الشديد من يجد ومن لا يجد، فهذا كله خلف وهم لو عرف الإنسان الأمور على حقيقتها فهو يجري خلف وهم، فإذا كان بهذه المثابة فهو لا يستحق.
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ [آل عمران:14].
فقوله -تبارك وتعالى-: زُيِّنَ لِلنَّاسِ، تحدثنا عن هذا التزيين، وأن الذي زينه هو الله -تبارك وتعالى-، وما يدل عليه الحذف، حذف الفاعل والبناء للمفعول: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ، وأن الناس هنا للعموم؛ لعموم الناس: للمؤمنين والكفار، كل ذلك مضى الكلام عليه، ولكن بقي قوله -تبارك وتعالى-: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ فجعل المُزين هو حبها حب الشهوات، ولم يقل: زُين للناس الشهوات، ولا شك أن تزيين الحُب لهذه الشهوات أشد وأعظم وأكثر خطرًا؛ لأن الحب عمل قلبي يتعلق بالإنسان نفسه فزُين له حبها، وذلك بخلاف ما لو كان المُزين ما هو مُنفصل عنه، كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- قد يُزين للإنسان بناء وقد يُزين له حرث، وقد يُزين له مركب، ولكن قد يتفطن لبعض مساوئه وما يزهده فيه فيرغب عنه، لكن إذا كان المُزين هو الحب نفسه فهذا الحب يجول معه حيث جال، ويتنقل معه حيث حل وانتقل، فصار ذلك ممزوجًا بكيانه.
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ وهنا سمى ذلك بالشهوات؛ لما جُبلت عليه النفوس من الميل إليها، والشهوات هي مطلوبات النفوس ومحبوباتها وما تُصغي النفس إليه وتميل إليه من مطالبها الذاتية من المطعوم والمنكوح والمركوب والمساكن، وما إلى ذلك، هذه كلها سماها الله شهوات: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ.
ثم ذكر أنواعًا من هذه الشهوات هي أعلاها، وهي الأعظم، وهي الأعلق بالنفوس، وأكثر مطالب الناس تدور عليها، وذكرها مرتبة الأشد من تلك الشهوات ثم بعد ذلك ما يليه إلى آخرها، تلك السبع التي ساقها مرتبة بحسب قوتها، من جهة تعلق مطالب الناس وشهواتهم، فذكر النساء أولاً، فهذا تفسير للشهوات: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ إلى آخر ما ذكر.
وتسمية ذلك بالشهوات يدل على انحطاطها هي شهوات، والاشتغال بها عن الله اشتغال بالشهوات، والعاقل لا يمكن أن تطغى عليه شهوة فتشغله وتصرفه عن ما خُلق من أجله، فذلك نظر قاصر وضعف في عقل الإنسان، وفي -أيضًا- رباطة جأشه وقوة إرادته، وما إلى ذلك، ينساق مثل: البهيمة، حينما يسترسل مع النفس ومطالبها، فالنفس فيها العنصر الذي يرتبط بالأعلى وهو الروح، وفيها العنصر الذي يجذبه إلى الأسفل وهو طينته، هذه الطينة هي التي تتمتع والروح يكون تبعًا لها بهذا الالتذاذ، الأكل والشرب والنكاح والمساكن والمراكب الفارهة، وما إلى ذلك هذا كله مما تتمتع به الأجساد، والروح تكون تبعًا لها في هذا المتاع.
أما متاع الروح الحقيقي فهو بالارتباط بالله، ومناجاته، والاتصال به والقرب؛ فهذا هو اللذة التي قال عنها السلف: "لو علم بها الملوك وأبناء الملوك لجالدونا عليها بالسيوف" وهي التي قال قائلهم كابن المُنكدر -رحمه الله-: "كابدت الصلاة عشرين سنة واستمتعت بها عشرين سنة" يلتذ، وقال النبي ﷺ قبل ذلك: وجُعلت قرة عيني في الصلاة، قُرة العين من القر وهو البرد، وذلك حينما يكون ثلج الصدر، وذلك يكون بالسعادة الكاملة؛ ولهذا يقولون: دموع الفرح باردة، ودموع الحزن ساخنة، وإذا اشتدت آلام الإنسان وأحزانه وجد حر ذلك في عينه، فهذا أمر مشاهد معلوم، فالنبي ﷺ يقول: وجُعلت قُرة عيني في الصلاة، وكان يقول: يا بلال أقم الصلاة أرحنا بها، لكن قال: حُبب إليّ من دنياكم النساء والطيب، ما قال قُرة عيني، فجعل قُرة العين بالصلاة، وكما في الحديث بأن الصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، الصبر فيه حرارة وحبس للنفس، فالضياء فيه حرارة، هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا [يونس:5]، القمر ليس فيه حرارة مجرد نور، والشمس فيها حرارة وإحراق فسماها ضياء، فكذلك أيضًا الصبر ضياء لما فيه من الشدة، والحرارة، والصلاة نور ليس فيها حرارة قُرة عين، فهنا حُبب إليّ من دنياكم النساء والطيب.
وهنا: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ، فجعل التزيين لها لكن زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا [البقرة:212]، زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ [النمل:4]، فهذا التزيين واقع في هذا وهذا، في الشهوات وفي الأعمال وفي هذه الدنيا وحطامها ومطالبها كل ذلك مُزين في نفوس الناس، ولذلك يجرون خلفها، الغني والفقير، والكبير والصغير، والرجل والمرأة، حتى صارت غاية عند الكثيرين وهدفًا يسعون خلفه ولو كان ذلك على حساب الإيمان والعمل للآخرة.
فهنا ذكر أول هذه الشهوات حينما فسرها فهذا يدل على انحطاط مرتبة هذه المذكورات التي هي الأعلى من مطالب الدنيا من النساء؛ لأن النساء أعظم اللذات، ولو نظر الناس في سعيهم وكدهم وعملهم وتزينهم وتجملهم وذهابهم ومجيئهم وجمع الأموال لوجد أنه يدور في الغالب معظم الناس من أجل لو سألته هذا العمل وهذه الدراسة، أين الأهداف الكبرى؟ قال: الهدف الأسمى أنه يتزوج، يستطيع أنه يجمع المهر، ويكون دارًا، ونحو ذلك، ويؤثثها، ويتزوج، هذا هدف، لا بأس أن يكون هذا من الأهداف، وهو من مطالب، وسُنن المرسلين لكن لا يكون الهدف الأعلى والأسمى والنهائي والأعظم، إنما هو هدف من الأهداف القريبة، وهناك أهداف متوسطة، وهناك أهداف بعيدة، فهذا قريب يُتبلغ به إلى الله والدار الآخرة، لاسيما إذا وجدت معه النية، النية في النكاح إذا أراد الإنسان أن يتزوج إعفاف الغير، تكثير العفاف في المجتمع، اتباع سنن المرسلين، الاقتداء بهم، الاستجابة لقول النبي ﷺ: يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، تزوجوا الودود الولود، أيضًا مُكاثرة الأمم، إنجاب الأولاد الصالحين الذين يعبدون الله ، وهكذا تكوين أسرة ولِبنة في مجتمع من أهل الصلاح والخير، ونحو ذلك من المقاصد الطيبة الصالحة التي يقصدها الإنسان في النكاح، فحُب النساء أمر جِبلي، جُبل الرجال على محبة النساءن، ميل طبيعي فطري، ولا يستطيع أحد أن يُنكره، لا أهل الصلاح ولا غير أهل الصلاح، هذه جِبلة لكن هذه الجِبلة وظفها الشرع ووجهها التوجيه الصحيح، فشرع النكاح وحث عليه تكثيرًا للعفاف، وتلبية أيضًا لهذه الفِطرة، وإبقاء للنسل؛ لئلا ينقطع نسل الناس، اقرأ قبل يوم إحصاءات في دول شرقية وغربية مع أن هذه الإحصاءات كانت في عام: 2006م يعني قديمة نوعًا ما، المواليد عندهم في الدول الأوروبية وأمريكا ونحو ذلك في بعض الدول الغربية وصل عدد المواليد في مثل: فرنسا في ذلك الوقت المواليد غير الشرعيين أكثر من 50%، عزوف عن النكاح، أُسر صاروا من الكبار في السن وصلوا إلى سن الشيخوخة جيل جديد من الشباب يكاد يضمحل؛ لأن هؤلاء يؤثرون أصلاً عدم الإنجاب من غير نكاح.
المقصود أن هذا مثل فرنسا، في أمريكا أكثر من 40% من غير نكاح، خارج نطاق الزواج، فهذا الميل مع الإحصاءات الأخرى التي يذكرونها كما يقع من حالات الاغتصاب غير الزنا بالتراضي غير الذي لا يُبلغ عنه أصلاً قد يكون هو الأكثر إحصاءات الأطفال وغير الأطفال، كم من امرأة تعرضت للاغتصاب؟ 13% من النساء اُغتصبت، حالات الأطفال أرقام كبيرة، ويكون الاغتصاب من الأب من أحد أفراد الأسرة في نِسب كبيرة جدًا عندهم، بيئة هشة، مُجتمع مفكك محطم، ولذلك كأنهم أولاد ضبة، لا يوجد بينهم تواصل وتعاون وتكاتف، وإنما كل يجري في سبيله خلف شهواته خلف الدنيا وحطامها، هذا خطأ، الشارع وجه الشهوات، هذه رُكزت في النفوس فتوجه التوجيه الصحيح بالنكاح النظيف، والله جعل ذلك آية من آياته: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [الروم:21]، في سياق آيات ذكرها الله تدل على عظمته وقدرته ووحدانيته .
فهنا ابتدأ بالنساء؛ لأن الفتنة بهن أعظم وأشد من النساء، وكما قال النبي ﷺ: ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء، "أضر" بهذه الصيغة: ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء، وهذه صيغة تدل على العموم لا يوجد أضر على الرجال من النساء، يعني: هي أضر من المال، أضر من سائر الفتن الأخرى "النساء"، ولذلك حذر النبي ﷺ: إياكم والدخول على النساء، يعني: غير المحارم، وحذّر أيضًا النساء من الخضوع بالقول والتبرج: وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى [الأحزاب:33]، وأمرهن بالقرار في البيوت.
ومن هنا نعلم كذب الدعاوى التي قد نسمعها أن إطلاق النساء والرجال على أي حال مختلطين في أماكن العمل والدراسة ونحو ذلك، تلبس النساء ما شاءت، أن ذلك يكون تنفيسًا للكبت الذي يجعل الإنسان يتطلع دائمًا إلى تحقيق مآربه ومطالبه وتفريغ غرائزه، هذا كلام غير صحيح، الله عليم حكيم، وأمر بالعفاف، وأمر بفصل الرجال عن النساء حتى في أماكن العبادة: خير صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها، والنساء على العكس من هذا، خير صفوف النساء الأخير إذا كن يُصلين خلف الرجال، أما إذا كن في مُصلى مستقل فأفضلها أولها بالنسبة للنساء؛ لأن الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا كما ذكر هذا النووي، وغيره من الشُراح.
فالمقصود هنا أن هذا الذي يقول: إن إطلاق الشباب والفتيات في المجتمع جنبًا إلى جنب في مقاعد الدراسة والعمل وما إلى ذلك، أن ذلك هو السبيل إلى التنفيس عن هذه الغرائز المكبوتة، هذا كلام غير صحيح، فها هم في الغرب والشرق إحصاءات هائلة حتى في المدارس الابتدائية الفجور، وأصبحوا يعلمون الطالبات في الابتدائي على عقاقير منع الحمل، وإحصاءات في عدد الحمل لدى الطالبات في المراحل التعليمية الثلاث الابتدائي والمتوسط والثانوي.
وأما جرائم الاغتصاب وما إلى ذلك هجوم على الطالبات ومن قِبل الطلاب في ليلة ظلماء، هذا يحدث ويتكرر، يجتمع هؤلاء الطلاب في ليلة ويهجمون على غرف الطالبات، ويفعل كل ما يحلو له، لم يحصل عندهم هذا التنفيس الذي يدعيه دعاة الرذيلة عندنا، لم يحصل بل بالعكس صُعار، ودعونا من هذا كله الرجل مع امرأته في البيت يعيش معها عشرات السنين ومع ذلك هو لا يزال يُعاشرها لم يكن ذلك الإلف والمعاشرة في بيت واحد وتحت سقف واحد سبيلاً وسببًا للزُهد في نكاحها، بل هو يُعاشرها مرة بعد مرة وهي معه يراها، فكيف يُقال: إن الإلف والمُشاهدة أن ذلك يكسر النفس، هذا لا يكسرها بل يزيدها ضِرامًا، وهذه الغرائز والشهوات تتجدد فإذا قضى الإنسان وطره فإنه بعد ذلك لا تزال تعاوده هذه الغرائز كالطعام والشراب، إذا أكل الإنسان وشبع لا يلبث بعد وقت ليس بالبعيد حتى يعود إليه تطلب ذلك، والشعور بالحاجة إلى الطعام والشراب، هذه أشد وأعظم، ولذلك ينسى الإنسان الطعام والشراب حال توقد الغرائز، ويؤثر قضاء الوطر على الطعام والشراب، وهذا أمر معلوم لا يخفى.
إذًا كيف يُقال في مثل تلك المقالات الفاسدة التي يُضلل بها الناس، فالبداية كانت بالنساء: مِنَ النِّسَاءِ فجاء بهذا أولاً، أن الشهوة تتعلق بهن بصورة أقوى وأمكن مع شدة الفتنة، ثم جاء بعد ذلك بالأولاد وبنوع منهم وهم البنون.
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ [آل عمران:14] وذكرنا أنه قدم النساء لأن تعلق الشهوة بهن أعظم، وفسرت الشهوات في قوله: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ بالنساء والبنين والقناطير، وأن ذلك يدل على انحطاط مرتبتها، وأنها لا تستحق أن يبذل الإنسان حياته وأنفاسه، ويُعلق آماله على هذه المطالب بعيدًا عن الله وطاعته وعبادته، وأن لا يكون ذلك هو الهدف الأسمى بالنسبة إليه، وبهذا يُعرف خطأ من تكالب على هذه اللذات، واشتغل بها عن آخرته، فإذا حان الأجل عرف عندها أنه كان يعبث، وأنه كان مُضيعًا مفرطًا، وأنه قد صرف أيام العمر بأمر لم يُخلق له.
وفي قوله: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ ذكر البنين بعد النساء؛ لأنهم متولدون عنهن، هذا من جهة، ومن جهة أخرى: لأن البنين مع النساء كل ذلك مقصود لذاته، وما ذُكر بعد ذلك فهو من قبيل الوسائل، فالقناطير المقنطرة لماذا يجمعها؟ ليتفرج عليها؟! بل من أجل أن يصرف ذلك في لذاته، وأن يتوصل به إلى مطالبه وشهواته وحاجاته، وما إلى ذلك، وكذلك أيضًا الخيل والأنعام والحرث كل هذا من باب الوسائل، فهي من الأموال التي يستغلها في مصالحه، ويتصرف فيها ليتوصل إلى مطالبه، فهذا شأنها، أما النساء والبنون فهو يبذل المال من أجل التوصل إلى ذلك؛ ولهذا حين يُسأل الإنسان: هل يُعادل أحدًا من البنين فضلاً عن كلهم بشيء من المال ولو كثُر؟ فإنه لا شك يُقدم البنين، ومن لا يُرزق بالبنين فإنه يبذل الأموال في سبيل التوصل إلى دواء، أو علاج، أو نحو ذلك، مما يمكن أن يُنجب معه إن كان ممن لا يُنجب.
وذكر بعد هذه المقاصد وهي النساء والبنين: القناطير المقنطرة، والقنطار -على الأرجح- هو المال الكثير، الذي لا يُحد بحد، هكذا تقول العرب، والمُقنطرة المُضاعفة، فهي أموال كثيرة جدًا، وهذا لا شك أنه أعظم في اشتغال القلب والفرح والالتذاذ، فإن الإنسان قد لا تعظم فرحته وبهجته ولذته، ويشعر أنه في بحبوحة إذا كان يملك مالاً قليلاً، ولكن الغِبطة والفرح بالمال الكثير، هو الذي يجعل الإنسان ينتشي ويعيش في شيء من سكرة الغِنى التي قد تُطغيه كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [العلق:6-7] فهذه طبيعته إلا من ارتاضت نفسه بالإيمان، وطاعة الله -تبارك وتعالى-، وإلا فلا شك أن المال يُطغي ويُلهي، كما قال الله تعالى: أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ [التكاثر:1] ومن أعظم التكاثر: التكاثر بهذه الأموال.
وحينما ذكر الله أن الحياة متاع زائل، وأنها عبث ولعب، قال: وَتَكَاثُرٌ [الحديد:20] تكاثر في ماذا؟ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ [الحديد:20] تفاخر وتكاثر، ولاحظ أنه ذكر هذين الأمرين: الأموال والأولاد، والأموال تشمل المذكورات في هذه الآية من القناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث، فذلك من جملة الأموال، فهذه التي يحصل التفاخر والتكاثر بين الناس فيها، وهي التي ألهتهم.
أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ [التكاثر:1] يتكاثر كل بحسبه، يتكاثرون بالأرصدة بصورة عجيبة، فوجد من يقترض وهو يملك المال الكثير، يعني: مثلاً يملك مائة مليون، ويقترض شيئًا يسيرًا، وليس بحاجة لاقتراضه؛ لماذا يقترض؟ لئلا ينقص الرقم، فيقترض لئلا ينخرم الرقم؛ لأنه بلغ إلى مائة مليون، أو عشرة ملايين، أو مليون، يقترض من الآخرين ألف ريال، أو ألفين، أو خمسة، أو عشرة، هذا حال كثير من أهل الثراء، فالواقع أن أكثرهم يُديرون أموالهم والتجارات عن طريق القروض، وليست أي قروض، وإنما القروض من البنوك بالربا، فتجد شركات واسعة كبيرة ضخمة ووكالات، فهو يملك ولديه أرصدة وعقارات، لكنه لا يصرف منها شيئًا، كل العمل على القروض، فتلك مخزونة، لا تُمس، ولكنه يقترض ليُدير هذه التجارة، أو الشركات، أو نحو ذلك، والله -تبارك وتعالى- يقول: وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا [الفجر:20] ويقول: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [العاديات:8] والخير المقصود به هنا المال قطعًا باتفاق المفسرين، وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [العاديات:8] يعني: أن الإنسان يُحب الخير الذي هو المال محبة شديدة، هكذا جُبل، وصار ذلك غريزة فيه، وهي حب التملك، حتى عند الصغير، يريد أن يتملك، يريد أن يكون هذا الشيء له، ويختص به دون غيره، ولو قيل له: العب به، هو لا يريد هذا، إنما يريد أن يكون مُلكًا له، ويفرح بما يُعطى، ولو لم يكن له شأن.
وهكذا الإنسان يستريح ويطمئن لأموال كثيرة لا يأكل عُشر معشارها، ولو قيل على سبيل الفرض لأحد هؤلاء المُلاّك الذين يملكون الثروات الهائلة، والعقارات الطائلة: كل ما ترى من هذا الفضاء وفي هذه الأحياء هو لك، لكن لا تمس من ذلك شيء لفرح، والواقع أنه قد لا يمس من ذلك شيئًا، حتى يموت، لكنه مُطمئن أنه يملك هذه العقارات، وأحدهم ما زال يحسب حتى رفع صوته فجأة بين جُلسائه، فرحًا مستبشرًا مغتبطًا، فلما سألوه، قال: بلغت الألفين، يعني: هذه المحال التجارية فقط، هذا الكلام قبل نحو خمسين سنة، أما الآن فالله أعلم، لكن الإنسان يموت ويترك ذلك جميعًا خلف ظهره، قد يتركه لوارث، لا يُنفق منه درهمًا واحدًا صدقة، أو يرفع يديه يدعو له أو يستغفر؛ وذاك هو الذي يُحاسب عليه، من أين اكتسبه؟ وفيما أنفقه؟
فالحاصل: أنه ذكر بعد القناطير المقنطرة من الذهب والفضة: الخيل المسومة، فقيل: الخيل المسومة: هي الراعية، فهي مسومة في المرعى، وقيل: هي الخيل الحِسان، وقيل: المُعلمة بشيات وعلامات، ونحو ذلك، وقيل غير ذلك، فهي معانٍ وأقوال يمكن أن يلتئم كثير منها تحت معنى الآية، والله تعالى أعلم.
فالمقصود: أنها خيل لها شأن، وخيل تستهوي أعين الناظرين، حينما تكون في مسارحها ومرعاها، ويضع أصحابها عليها من السِمات والعلامات التي تتميز بها، كما هو معروف عند أصحاب الخيل، وها هم الناس اليوم يتكالبون على اقتناء الخيل الحِسان، ويشترونها بالأموال الطائلة، ولا شك أن الخيل مقدمة على غيرها، وقد ذكرنا في بعض المناسبات أن المِهن والمزاولات والأعمال تؤثر في أصحابها؛ وقد ذكر النبي ﷺ: ألا إن القسوة وغلظ القلوب في الفدادين، عند أصول أذناب الإبل، فالإنسان الذي يُعاشر الإبل كثيرًا، ويأكل من لحومها كثيرًا، ونحو ذلك يورثه ذلك شدة وغِلظة وجفاء؛ ولهذا يقال: إن الوضوء شُرع -والله أعلم- من أكل لحوم الإبل؛ ليُخفف من أثر لحومها، وكذلك أصحاب الغنم قال النبي ﷺ: والسكينة في أهل الغنم .
وكذلك ورد بعض الآثار أن الذُل في أصحاب الحرث، وقد جاء عن بعض الصحابة لما رأى محراثًا قال: ما دخل هذا بيتًا إلا دخله الذُل، فأهل الحرث والزرع فيهم من الضعف والمذلة ما لا يوجد عند غيرهم، وأصحاب الخيل فيهم من القوة والفروسية والنجدة، وقوة البأس، ورباطة الجأش؛ ولذلك تجد بعض الذين عرفوا بالمهانة والضعف جِبلة وخِلقة يُقبلون الآن على الخيل، وركوب الخيل، وليسوا بأهل خيل، وليسوا بأهل فروسية، فهم أبعد الناس عن هذا، لكن ربما يكون ذلك من أجل تحصيل هذه المعاني، التي سمعوا، أو قرأوا عنها وهي: أن أصحاب الخيل أصحاب الفروسية فيهم من قوة القلب، والثبات، ورباطة الجأش، ما قد عُلم، فعلى كل حال فالخيل كانت هي قلاعهم وحصونهم، والنبي ﷺ قال: الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة، وورد فيها ما قد علمتم من النصوص، كقوله: الخيل لثلاثة: لرجل أجر، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر، فأما الذي له أجر: فرجل ربطها في سبيل الله، فأطال في مرج أو روضة، فما أصابت في طيلها ذلك من المرج أو الروضة كانت له حسنات، ولو أنها قطعت طيلها فاستنت شرفًا، أو شرفين كانت أرواثها وآثارها حسنات له، ولو أنها مرت بنهر، فشربت منه ولم يرد أن يسقيها كان ذلك حسنات له، ورجل ربطها فخرًا ورئاء، ونواء لأهل الإسلام فهي وزر على ذلك .
ثم بعد ذلك ذكر الأنعام، وقدمها على الحرث، فلا شك أن الأنعام أكثر من ناحية التجمل والجمال والتكثر، فالناس ربما يتكثرون بها، ويطلبون المائة من الإبل فأكثر، فهذه عند العرب هي أموالهم؛ ولهذا كانت الديات مُقدرة بالإبل، والنبي ﷺ يقول: خير لك من حُمر النَعم، وهي الإبل، فهذا وغيره يدل على أن هذه مما تتعلق به نفوس الناس، ويشتد تطلبهم له، فذكر الأنعام، ومن الأنعام البقر والغنم، ثم ذكر الحرث، وهو الزرع، فجعله في آخر هذه المراتب.
وذكر البنين بعد النساء فهو يتكثر بهم لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَدًا [مريم:77] وإذا كان البنين شهودًا في حضرته بين يديه، فذلك أعظم بالتعزز والفخر، وما إلى ذلك، وَبَنِينَ شُهُودًا [المدثر:13] وهنا ذكر البنين وهم الذكور، ولم يذكر الأولاد؛ ليشمل الإناث، فيمكن أن يكون ذلك باعتبار ما كان عليه العرب، فخاطبهم بما يعهدون، فكانوا يفتخرون ويعتزون ويتكثرون بالبنين، وكان الواحد منهم إذا بُشر بالأنثى كما قال الله : ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ [النحل:58-59] يعني: يُبقيها عنده ذليلة أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ [النحل:59] يدفنها وهي حية موءودة، فكانوا يريدون الأبناء، ويؤثرونهم على البنات، فخاطبهم بما يعهدون، وقد يكون ذلك باعتبار التعزز بهم، فإن التعزز والتكثر والتمنع يكون بالبنين وليس بالبنات، وليس هذا مقام مفاضلة، فقد تكون البنت أفضل وأخير لأبويها من الابن، كما هو معلوم، ولكن الأبناء يلون الولايات، ويكونون من أهل الحرب والقتال والنجدة، وما إلى ذلك، بخلاف البنات، والأبناء هم الذين يعتلون المنابر، ويلون من الأعمال ما لا يليه البنات.
وقدم الذهب على الفضة في قوله: مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لأنه أنفس وأثمن من الفضة، والافتتان واشتغال القلب به أعظم.
فذكر هذه الأمور مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ وما عداها من الشهوات تبع لها، وإذا حكم على هذه جميعًا بأن ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فسماها متاع، والمتاع هو الشيء الذي يتمتع به قليلاً، ولو سألت هذا الإنسان الذي قضى عمرًا مديدًا في لذة وبحبوحة من العيش، كيف ترى ما مضى؟ لقال: كأنه أحلام، فهكذا الحياة.
ولذلك قال الله: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ [الروم:55] وفي الحديث: يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة، فيصبغ في النار صبغة، ثم يقال: يا ابن آدم هل رأيت خيرا قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا رب وهي غمسة واحدة في النار، هذا أنعم واحد، فماذا تتصور أن يكون هذا الأنعم منذ خلق الله الناس إلى أن يرث الأرض ومن عليها، أنعم إنسان ماذا يأكل؟ وعلى أي شيء يجلس؟ وماذا يملك؟ وماذا يركب؟ ومع هذا غمسة واحدة، ويحلف ما رأيت خيرًا قط، تتلاشى ذلك جميعًا، إذًا من كان نعيمهم دون ذلك، والله يقول: ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ [التكاثر:8] وقد ذكر النعيم ﷺ من النعيم: الماء البارد فقال: ألم نصح لك جسمك، ونرويك من الماء البارد؟، فيُسأل الإنسان عن هذا.
ولما خرج النبي ﷺ مع أبي بكر وعمر، واستضافهم رجل من الأنصار، أخرجهم الجوع، فأكلوا من البُسر، وشوى لهم شاة، فقال النبي ﷺ: والذي نفسي بيده، لتسألن عن هذا النعيم يوم القيامة، أخرجكم من بيوتكم الجوع، ثم لم ترجعوا حتى أصابكم هذا النعيم، أفضل الخلق النبي ﷺ، وأفضل أمته أبو بكر وعمر، أخرجهم الجوع، ويقول: لتسألن عن هذا النعيم يوم القيامة فماذا نقول نحن، ونحن نتقلب بأنواع اللذات مع قليل من الشكر؟
فالله ختم هذه الآية بقوله: ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فأشار إليها بالبعيد؛ لدنو مرتبتها وبُعدها، فالحياة الحقيقية هي الحياة الآخرة، فـذَلِكَ أي: المذكور، وذكر سبعة أشياء مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فالإنسان يبتهج به قليلاً، ثم ما يلبث أن يتلاشى، وإذا أردت أن تعرف حقيقة هذا فانظر إلى ما طعمته، والتذذت به، في ليلتك الفائتة، بل في يومك هذا، هل تجد منه شيئًا الآن؟ الجواب: لا، فهكذا كل اللذات تتلاشى وتذهب، مهما عظُمت.
ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فيكفي أنه أشار إليها بهذه الإشارة، وأضافها إلى الدنيا، وهي مشتقة من الدنو، فالحياة الدنيا غايتها الزوال والفناء، فإما أن تزول عنك، وإما أن تزول أنت عنها، فهي أحلام زائلة، مُتلاشية مُنقضية، فهذا يدعو الإنسان إلى الزُهد في هذه الحياة وحُطامها ومتاعها، وأن لا يتعلق قلبه بها، وحقيقة الزهد هي أن لا تدخل الدنيا قلبك، ولو كثُرت في يدك، ولكن بعض الناس ما عنده شيء من الدنيا، وليس بزاهد؛ لأن الدنيا، والتعلق بها، ومحبتها، تملأ قلبه، ولو كان الذي يملكه شيئًا يسيرًا، فهذا أبعد الناس عن الزهد، وقد يملك الإنسان المال الكثير، ولكنه لم يدخل قلبه، فهذا حقيقة الزهد.
وفي قوله: ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ تسلية للفقراء والمحرومين، أنه ما فاتهم شيء، الفوت الحقيقي والخسارة الحقيقية هي خسارة الآخرة، أما الدنيا فليست بشيء، ولا يؤسف على ما فات منها، فهذا فيه تعزية للإنسان فيما يفوت من هذه المذكورات جميعًا من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة... إلى آخره، ماتت فرسه، أو ماتت ناقته، التي تساوي الملايين، أو خسر في أمواله وتجارته، أو نحو ذلك، فكل هذا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فهذا تعزية وتسلية لمن فقد، أو لمن حُرم أصلاً فلم يجد من ذلك شيئًا، فلا يبتأس.
وفيه قوله: وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ هذا في ضمنه حض على العمل للآخرة، وعدم الاشتغال باللذات المُتقضية في هذه الحياة الدنيا، فالمرجع والمصير وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ أضافه إليه تعظيمًا وتفخيمًا لشأنه، فهذا يُرغب بالآخرة، والعمل لها.
فهذا كله -أيها الأحبة- وغيره يدعو الإنسان إلى الجد والاجتهاد، وطلب ما عند الله -تبارك وتعالى-، فإن ما عنده من الجنة والنعيم المُقيم لا يوصل إليه إلا بتوقي الشهوات، وعدم الانغماس في اللذات، وترك الحرام، فقد حُفت الجنة بالمكاره، وحُفت النار بالشهوات، فيحتاج العبد إلى حذر.