قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ [آل عمران:13].
كما في الآية السابقة: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ [آل عمران:12]، بعضهم يقول: هذا الخطاب موجه لليهود باعتبار أن هذه الآيات في خطاب بني إسرائيل، لكن كما ذكرنا أن السياق في بضع وثمانين آية إنما هو في النصارى بالدرجة الأولى من هذه السورة سورة آل عمران، وأكثر ذكر اليهود كان في السورة التي قبلها في سورة البقرة، وذلك -والله تعالى أعلم- أن سورة البقرة من أوائل ما نزل في المدينة.
بعض أهل العلم يقول: هي السورة الثانية في النزول في المدينة، لكن ترتيب النزول لا يصح فيه حديث -والله تعالى أعلم-، الأحاديث التي ذُكر فيها ترتيب نزول سور القرآن، الروايات التي ورد فيها هذا لا يصح منها شيء لكن لا شك أن سورة البقرة من أوائل ما نزل في المدينة، وإن لم تنزل جميعًا؛ لأن بعضها كان آخر ما نزل من القرآن مُطلقًا، وهي الآيات الثلاث آية الربا وآية: وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [البقرة:281]، وآية الدَّين، آخر ما نزل من القرآن، لكن الكلام على صدر السورة وعامة آيات السورة فكان اليهود في المدينة، فلما هاجر إليها النبي ﷺ ونزلت عليه سورة البقرة ذكر خبرهم في سياق طويل؛ ليحتج عليهم وليُبين حالهم لنبيه ﷺ ولأهل الإيمان.
وهذه السورة سورة آل عمران إنما تأخر نزولها بعد ذلك بمدة حينما توافد العرب على النبي ﷺ من أنحاء الجزيرة وكان ممن قدِم على النبي ﷺ من الوفود وفد نجران، وكان عامة تلك الوفود كما هو معلوم بعد فتح مكة في السنة التاسعة للهجرة، وأيضًا في السنة العاشرة من الهجرة، فتأخر نزول هذه السورة لهذه المناسبة، والله أعلم، وهو قدوم هذا الوفد، وكما ذكرنا لكم بأن الروايات التي وردت في هذا لا تخلو من ضعف، يعني: في صدر هذه السورة نزل في وفد نصارى نجران، لكن سياق الآيات والروايات مجتمعة يدل على أن ذلك له أصل، والله تعالى أعلم.
والمفسرون يذكرون هذا من غير نكير، وممن ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يعني: أنها نازلة في وفد نصارى نجران.
فهنا يقول الله : قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا [آل عمران:13]، الذين قالوا إن الآية التي قبلها: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ [آل عمران:12]، أنها نازلة في اليهود قالوا: هذه أيضًا في اليهود، أن الله يقول لهم: هذه آية، وذلك ما وقع في غزوة بدر، وأنه سيحصل لكم ما وقع لهؤلاء وذلك أيضًا علامة على صحة ما جاء به النبي ﷺ، وعلى ظهور أمره، وأن العاقبة له، لكن هذا لا يختص باليهود، والسياق كما ذكرنا في النصارى، فهذا عام في كل المكذبين والكافرين على اختلاف مللهم ونِحلهم وطوائفهم فالله -تبارك وتعالى- يذكر لهم هذه العِبرة، وما فيها من الدلالة العظيمة حيث التقى الجمعان، أعني جمع أهل الإيمان مع رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، وجمع المشركين من أهل مكة في وقعة بدر، فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا، ثم ذكر حال كل فئة، وما لها من المقاصد والأهداف:
فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وهم أهل الإيمان؛ لإعلاء كلمته وإعزاز دينه.
وَأُخْرَى كَافِرَةٌ، يعني: تقدير وهذا من ضروب البلاغة الذي يسمونه بالاحتباك، يعني: ذكر لكل طرف وصفًا يدل على الآخر الذي لم يُذكر: قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}، يعني: فئة مؤمنة تقاتل في سبيل الله، وَأُخْرَى كَافِرَةٌ، تقاتل في سبيل الشيطان، ففي الفئة الأولى ذكر الغاية تقاتل في سبيل الله وترك الوصف الذي هو الإيمان، في الفئة الثانية ذكر الوصف الذي هو الكفر وترك الغاية والتقدير، إذا ذُكر المحذوف من هذه الفئة والمحذوف من هذه الفئة من الأوصاف يكون هكذا: "قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة مؤمنة، هذا المحذوف، تقاتل في سبيل الله، طيب والفئة الأخرى قال: "وأخرى كافرة، ما المحذوف؟
تقاتل في سبيل الطاغوت الشيطان، فالعرب تحذف من الكلام ثقة بالسامع اختصارًا، وهذا كثير وهو أنواع لكن هذا النوع يُقال له: الاحتباك، حُذف من كل وصف يدل عليه الآخر.
فهنا قال: يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ، وقوله: قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ هذه الأولى، وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ، الأصل أن الضمير يرجع إلى أقرب مذكور، ومن هنا قال بعض أهل العلم: يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ أن المشركين كانوا يرون المسلمين مثليهم، والمقصود بمثليهم بعضهم يقول: يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ يعني على الضعف من عددهم الحقيقي عدد المسلمين، يعني: كان المسلمون مثلاً: ثلاثمائة وأربعة عشر، فالمشركون صاروا يرونهم على الضعفين.
وقال بعض أهل العلم: أنهم يرونهم مثليهم يعني مثلي أنفسهم، المشركون كانوا بين التسعمائة والألف فكانوا يرون المسلمين على الضعفين منهم من المشركين يعني قرابة الألفين، يرون المسلمين قريبًا من ألفين، هذا المعنى هذا قال به بعض أهل العلم.
وبعضهم يقول: يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ، يعني: أن المسلمين يرون المشركين مثليهم، مثليهم يحتمل أن يكون أنهم يرون المشركين على الضعف من عددهم إذا كانوا ألفًا يرونهم ألفين، وإذا كان الضمير يرجع إلى المؤمنين يرونهم مثليهم فالمؤمنون ثلاثمائة وأربعة عشر، فهم يرون المشركين بحدود ستمائة وقريب من خمسين، يعني ستمائة وثمانية وعشرين، هذا يحتمل، ممن قال بهذا يعني أن المقصود أن ذلك يرجع إلى المؤمنين أنهم كانوا يرون المشركين يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ يرون المشركين بهذا العدد هذا الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله-.
والقول الآخر أن المقصود بذلك أن الكفار كانوا يرون المسلمين على الضعف هذا قال به الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله- وطائفة من المفسرين، والآية تحتمل هذا وهذا، وفيها من المعاني ما ذكرت من الاحتمالات الأخرى من الأقوال الأخرى، هل معنى ذلك أنهم يرون العدد يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ مثلي أنفسهم أو مثلي المشركين؟ هذا يحتمل.
والحافظ ابن كثير -رحمه الله في ظاهر كلامه كأنه جمع بين هذا وهذا؛ أن كل فئة كانت ترى الأخرى كثيرة، وأن هذا لا يُعارض قول الله -تبارك وتعالى- في سورة الإنفال: وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً [الأنفال:44]، فيقولون: بأنه بمجرد المعاينة المؤمنون -يعني مثل كلام الحافظ ابن كثير -رحمه الله- كانوا يرون الكفار أكثر من عددهم الحقيقي يرونهم مثليهم، من قال: مثلي المؤمنين قالوا من أجل أن لا يكون ذلك شديد الوطأة، من أجل أن الله أعلم المؤمنين أنهم إذا كان منهم مائة صابرة يغلبوا مائتين، يعني: الواحد لاثنين، والألف يغلب ألفين، فصاروا بضعف عدد المسلمين في أعين المسلمين، يعني: ستمائة وثمانية وعشرين تقريبًا على الضعف، من أجل أن يتوكلوا على الله، يقوى توكلهم، والكفار يرون المسلمين على الضعف من أجل بث الرُعب في نفوسهم، فلما حصل المواجهة والمصافّة بين هؤلاء وهؤلاء هنا جاءت الآية وهي التقليل: وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ [الأنفال:44]، من أجل أن تجترئ كل فئة على الأخرى، هم يرون المسلمين قلة والعكس، جاء في هذا عن ابن مسعود حينما دار حديث بينه وبين رجل بجواره تراهم يبلغون المائة؟ قال: "قريب من السبعين" أو نحو ذلك.
تصوروا من ألف ونحو ذلك إلى قريب من المائة، ليُغري كل فئة بالأخرى؛ لأن المسلمين كان عندهم شيء من الانقباض ويودون أن غير ذات الشوكة تكون لهم التي هي القافلة والعير، فيقولون: ما خرجنا لقتال، فإذا أراد الله أمرًا كان، فهيأ لهذا اللقاء الذي كرهه أهل الإيمان في البداية، وما خرجوا من أجله، وحصل هذا التقليل لهؤلاء وهؤلاء، والتكثير في البداية لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً [الأنفال:42]، فصار هذا الحسم التاريخي الذي يُذكر عبر الأجيال، وهم كارهون له في الابتداء، وصار ذلك الشرف لمن شهد بدرًا، يكفي أن يُقال: هو ممن شهد بدرًا يكفي، لكن لو أنهم فازوا بعير ورجعوا بالإبل وما عليها لكان ذلك مما لا شأن له ولا ذكر، لكن انظر إلى تدبير الله وتقديره: يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ، يعني: أنها ليست مجرد رؤية قلبية، أو معلومات لديهم، لا لا، يرونهم: ليس المقصود أنهم يرونهم يعني بتقديرهم وعقولهم وقلوبهم رؤية علمية، وإنما يرونهم رأي العين يشاهدونهم، وهذا لا شك أنه يدل على عظمة قدرة الله تختلف المعايير والمقاييس، وتختلف الصور التي تلتقطها العين الباصرة مما هو خارج عن نطاقها وقدراتها الحقيقية، يعني: تقع على صور تختلف عن الواقع من أجل أن يتحقق مراد الله -تبارك وتعالى.
يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ [آل عمران:13]، يقوي بنصره من يشاء من عباده المؤمنين إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ، هذا الحدث الكبير وما جرى فيه من التقليل أو التكثير عِبرة، فيه عِظة، وفيه عِبرة لأصحاب العقول الكاملة، لأصحاب البصائر النافذة، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ.
والعبرة تُقال أصل ذلك يرجع إلى معنى العبور، وهي الانتقال، ولهذا يُقال العَبرة لأنها تنتقل يقولون من العين إلى الخد، ويُقال عبّارة ومعبر؛ لأنه يُنتقل من هذه الضفة إلى الضفة المعبر، ونحو ذلك.
فهذه العبرة يحصل فيها انتقال من حال إلى حال، ينتقل من حال هذا، يُقال: العاقل من وعِظ بغيره، والشقي من وعِظ بنفسه، فالعبرة أنه ينتقل ينظر في حال هذا ثم يرجع إلى حاله، فيقول: لو كنت مكانه فيعتبر بهذا، فلا يفعل فعله، ولا يقع في هذا الذي أوقعه في الردى، وهذه النهاية البائسة، وما أشبه ذلك، لكن هذه العِبرة لأولي الأبصار، والأبصار المقصود هنا ليست بصر العين، وإنما بصر القلب.
قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ [آل عمران:13]، تقدم ذكر معنى هذه الآية الكريمة على سبيل الإجمال والإيجاز في المجلس السابق.
يؤخذ من هذه الآية من الهدايات والمعاني: قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا، يعني: أن ذلك فيه عبرة كما قال في آخر الآية: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ فضرب لهم المثل بهاتين الفئتين، وما جرى في ذلك حيث يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ، وكيف حصل هذا الانتصار الكبير الساحق من قِبل هذه الفئة القليلة على الفئة الكثيرة، فهذا يدل على حقيّة ما هم عليه، وعلى تأييد الله لهم.
ويدل أيضًا على ما يكون للكفار من الهزيمة والغلبة والبوار، فالله يضرب لهم الأمثال؛ ليتعظوا ويعتبروا، والعاقل كما قيل من وعِظ بغيره، فيكون ذلك عِظة لهم، وعبرة بأمر قد وقع وكان وعرفوه وذاع وسار به الرُكبان، فليس ذلك بخاف على أحد.
قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ وهذا جواب قسم محذوف مُقدر حُذف منه فعل القسم، وحرف القسم، والمُقسَم به، وفعل القسم، كل ذلك قد حُذف، وهذا من قبيل القسم المُضمر، فالقسم على نوعين:
القسم الظاهر: هو الذي يُذكر معه فعل القسم وأداته والمُقسم به، وقد يُحذف بعض ذلك يعني قد يُحذف فعل القسم، ويبقى حرف القسم، ويكون من قبيل الظاهر، وحينما يُحذف ذلك جميعًا فهذا من قبيل القسم المُضمر، يعني: كأنه يقول: أُقسم والله، أُقسم بالله، فهذا محذوف من القسم.
قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فهذا أيضًا، وما فيه ما في ضمنه قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا، "كان لكم" فقدم ما يتعلق بهم مما حقه التأخير، وإذا قُدم ما حقه التأخير "لكم"، ما قال قد كان آية لكم في فئتين، لا، قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ، فهذا من أجل الاهتمام بالمقُدم، والمقصود تنبيه الأذهان وإيقاظ العقول بهذا المثل المضروب لهم بهاتين الفئتين، فذلك هو المطلوب، فقدم ما يتصل بهم، هذا قد مضى نظائر له، وقلنا: إنه يدل على الاعتناء والاهتمام بالمُقدم.
قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ والآية هي العلامة التي تدل على تأييد الله وصدق ما جاء به الرسول ﷺ، وكذلك ما ينتظر هؤلاء الكفار من الهزيمة والغلبة، وتنكير الآية في هذا الموضع يدل على التعظيم، "آية عظيمة" قد كان لكم آية علامة ظاهرة لا خفاء فيها.
آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ، قدم الفئة الأولى باعتبار أنها الأشرف، وأنها المقصودة، وأن الدعاء إلى الإيمان إنما يكون بالسير في ركابها والكون معها، فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ويؤخذ من ذلك أيضًا أن الغاية والقصد من القتال المعتبر شرعًا هو ما كان في سبيل الله، وهذا ينتظم أصلين كبيرين لطالما مضى وتكرر التنبيه عليهما:
الأول: وهو الإخلاص للمعبود .
والثاني: موافقة الشرع، فإنه لا يكون جهادًا في سبيل الله إلا ما تحقق فيه هذان الوصفان، أن يكون خالصًا لله ، وصحة القصد في هذا أن تكون كلمة الله هي العليا: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله، هذا هو الضابط الذي صرّح به النبي ﷺ، وما عداه فذلك جهد ضائع وعمل باطل كالذي يُقاتل حمية أو عصبية، ولما سُأل النبي ﷺ عن هؤلاء بيّن أن القتال المُعتبر شرعًا هو ما كان لإعلاء كلمة الله: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله، ومن ثَم فالذي يُقاتل رياءً، والذي يُقاتل سمعة، والذي يُقاتل لدنيا، كل هؤلاء قتالهم ليس جهادًا شرعيًا ولا عبرة به.
فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فلابد من القصد الصحيح.
والأمر الثاني: وهو الموافقة للشرع، يعني: الله هو الذي شرع القتال وهذا القتال المشروع له ضوابط حددها الشارع، فمن كان قتاله على غير هذا الوجه، وفي غير هذا السبيل؛ فقتاله ليس في سبيل الله، يعني: قد تكون نيته صحيحة، ولكنه يخبط خبط عشواء؛ فيُفسد أكثر مما يُصلح، فلا يُراعي حدود الشرع في ذلك كله، فلابد من ضبط هذا القتال بالضوابط الشرعية: فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وهذه الفئة المتحققة بهذا الوصف هي التي تستحق النصر، ضرب الله بها المثل وحصل ما حصل: يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ فهي التي تستحق المدد والعون من الله والنصر، فإذا تخلف هذا الوصف تخلف عنها النصر بحسب ما يكون من تخلفه، تخلف هذا الوصف.
كذلك أيضًا ما يُطلب -وهو داخل في العمل المشروع- مع ذلك من إعداد العدة والقوة: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال:60]، وما يلتئم مع ذلك ويتبعه من كون هؤلاء على حال من التوكل على الله، والثقة به، والاستقامة على شرعه، التقوى فإن ذلك من أعظم أسباب النصر، فإن هذه الأمة لا تنتصر بعدد ولا عدة، فتقوى الله -تبارك وتعالى- عُدة عظيمة في القتال، إلى غير ذلك مما وجه الله إليه وأمر به.
كذلك أيضًا حينما ذكر الفئة الأخرى قال: وَأُخْرَى كَافِرَةٌ، الأولى "فئة" التقدير مؤمنة، تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قال: وَأُخْرَى كَافِرَةٌ، يعني: تقاتل في سبيل الطاغوت، فحذف هذا الوصف، وذكر مقابله في الفئة الأولى، وَأُخْرَى كَافِرَةٌ فإذا قيل كافرة اسُتغني عن ما بعده فمعلوم أن الكافرة تُقاتل في سبيل الطاغوت، أما المؤمنة فإنها تُقاتل في سبيل الله، وَأُخْرَى كَافِرَةٌ وهذا يدل على افتراق الأحوال والأعمال والأهداف بين الفئتين، وأعظم ما يكون من البراءة من المشركين هو القتال كما ذكر ذلك أهل العلم، ويلي ذلك الهجرة في سبيل الله تعالى، هذه أبرز صور الولاء والبراء.
فهنا هذه تقاتل في سبيل الله مؤمنة، وهذه تقاتل في سبيل الطاغوت كافرة، وإذا كانت الأهداف مختلفة والأعمال متباينة والأحوال أيضًا في غاية الافتراق والاختلاف فلا يمكن أن يحصل الالتئام والاجتماع مع هؤلاء بحال من الأحوال، هؤلاء يختلفون في اهتماماتهم، وفي أهدافهم، وفي مقاصدهم، وفي أحوالهم، وفي أعمالهم؛ يختلفون عن أهل الإيمان، فمن أراد أن يجمع بين المؤمن والكافر، ولا يُفرق بين المؤمن والكافر؛ فهذا مُخالف لسنة الله في هذا الخلق ومُخالف لشرعه، لا يمكن.
ويؤخذ من هذه الآية: تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أضاف العمل إليها فهذا يدل على اعتقاد أهل السنة والجماعة فيما يتعلق بالقدر والأعمال بخلاف أهل الجبر الذين يقولون: بأن الإنسان مُجبر على فعله، الله يقول: تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ، فالإنسان له إرادة ومشيئة وعمل اختياري، لكنه لا يخرج عن إرادة الله ومشيئته: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الإنسان:30]، فأثبت لهم مشيئة لكنها داخلة تحت مشيئته فلا يقع في كونه إلا ما يُريد.
يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ هذا توكيد بحيث لا يتوهم أنهم يرونهم مثليهم بحسب دراسات وتقديرات ونحو ذلك، وكم يشغلون من المساحة التي يقفون عليها إذن هم يبلغون العدد الفلاني، كم يأكلون من الإبل مثلاً في اليوم، كم ينحرون، ثم يُقدر العدد فيرونهم بهذا العدد بحسب اعتبارات معينة، لا، يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ إذًا هي رؤية بصرية، وهذا يدل على كمال قدرة الله ، ويدل على حكمته البالغة، وعلى أن نظام هذا الكون والسُنن الجارية فيه قد تتغير وتتحول من أجل أن يمضي ويجري مراده بنصر أولياءه، وكبت أعداءه.
وهنا قال: رَأْيَ الْعَيْنِ، والقاعدة أن التأكيد بالمصدر ينفي احتمال المجاز، وهذه قاعدة يوافق عليها أهل الكلام من المعتزلة والأشاعرة وغيرهم التوكيد بالمصدر ينفي احتمال المجاز، وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164]، أكده بالمصدر إذن هو تكليم حقيقي، فهنا يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ، فهذا توكيد بالمصدر، يدل على أنها رؤية حقيقية وليست قلبية مثلاً بالعلم، ونحو ذلك.
قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ [آل عمران:13]، وتقدم الكلام عن صدر هذه الآية، بقي الكلام على قوله في هذا التذييل: وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ، وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ يقوي بنصره، فهؤلاء بذلوا السبب، وصححوا العمل والقصد، كما قال الله -تبارك وتعالى- عن الفئة الأولى: فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فهم يقاتلون ولم ينتظروا النصر بسبب سماوي أو أرضي لا يد لهم فيه، بل كان منهم التسبب في ذلك امتثالاً لأمر الله : قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ [التوبة:14]، فهم ممتثلون لأمر الله، قائمون بما ينبغي.
كذلك أيضًا مقاصدهم ونياتهم وأعمالهم صحيحة على الوجه المشروع، ليست القضية هي وجود القتال فإن هذا يقع بين الأقوام، وكان في كل زمان حتى أهل الجاهلية كانت حروبهم لا تنقضي، وإنما هو العمل المشروع الذي يُحبه الله ويرضاه، وأمر به عباده فهم يقاتلون في سبيل الله، قتالاً يقصدون به إعزاز الدين، وينضبطون مع تعاليم الشرع وأحكامه، فالقتال ليس بمقصود لذاته، وإنما هو وسيلة يُلجأ إليها إذا تعذرت الأسباب والوسائل التي هي دونه من قبول الحق، والدعوة إلى الإسلام، وما إلى ذلك، فهنا: وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ، فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى [الأنفال:17]، "أخذ النبي ﷺ بيده الشريفة بكفه قبضة من التراب، وقذف في وجوههم، وقال: شاهت الوجوه، فما بقي أحد إلا وقد دخل عينه من هذا التراب" وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى [الأنفال:17]، فهذا السبب ماذا عسى أن يتحقق من وراءه بقبضة من تراب أمام جيش؛ ولكن إذا كانت الأمة مُمتثلة لأمر الله -عز وجل- سخر لهم من الأسباب ما لا يخطر على بال: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ [الأنفال:17]، فأضاف ذلك إليه -تبارك وتعالى-، ولكن هم مأمورون بالسبب، وإلا فلو شاء الله -تبارك وتعالى- لانتصر منهم.
وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ فالنصر ليس بقوتكم، ولا عدتكم، ولا بعددكم، ولا بشجاعتكم، ولا بمعارفكم وخبراتكم في القتال، وإنما النصر من الله، ومن أعظم العِبر الآيتان أعني: آية آل عمران وآية الأنفال: وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ [آل عمران:126]، يعني: نزول الملائكة: وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ [آل عمران:126]، وفي سورة الأنفال: وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى [الأنفال:10]، بأقوى صيغ الحصر، يعني: أن نزول الملائكة نزول ألف في غزوة بدر، ألف ملك في مقابل هؤلاء الكفار الذين كان عددهم ما بين التسعمائة إلى الألف، ألف ملك، ومع ذلك نفى أن يكون النصر منهم، إنما نزولهم فقط بُشرى: وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ [الأنفال:10]، في سورة الأنفال، وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ [آل عمران:126]، في سورة آل عمران: وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [آل عمران:126]، أقوى صيغ الحصر في هاتين القضيتين.
وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى [آل عمران:126]، في نزول الملائكة، وفي النصر: وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [آل عمران:126]، النفي والاستثناء، أقوى صيغ الحصر عند الأصوليين واللغويين: وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [آل عمران:126]، إذًا إذا كان هؤلاء الملائكة نزولهم مجرد بُشرى لا يتحقق النصر على أيديهم بقوتهم، ولهذا لما خرج المسلمون في يوم حُنين، وهم كثير، الذين خرجوا مع النبي ﷺ من المدينة عشرة آلاف، وخرج معه من أهل مكة بعد فتحها إلى حُنين ألفان فكان مجموع ذلك يبلغ اثني عشر ألفًا، فقال قائلهم: لن نُغلب اليوم من قِلة، فقال الله : وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا [التوبة:25]، نفى تمامًا، وهنا شيئًا نكرة في سياق النفي: فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ [التوبة:25]، هذا المُنهزم تضيق به الأرض، كما قال الشاعر:
حتى ظن هاربهم إذا لم *** يرَ شيئًا ظنه رجلا.
من شدة الخوف، يُخيل إليه كل شيء أنه يُطارده، فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ [التوبة:25]، إذًا هذه الكثرة لم تفعل شيئًا، في يوم بدر القِلة قلبت ميزان المعركة لما جاء التأييد من الله -تبارك وتعالى-، في يوم حُنين: ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا [التوبة:26]، فجاء المدد بعد ذلك، الذين ثبتوا مع رسول الله ﷺ قريب من عشرة، وكان النبي ﷺ على بغلته البيضاء دُلدُل التي لا تُحسن الفر والكر، بغلة، ويقول: أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب، في غاية الشجاعة والثبات، يهتف بهذا أمامهم والسهام كأنها مطر تُزعزعه الريح من كثرتها، وكانوا رُماة -أعني هوازن- لا يكاد يُخطأ لهم سهم، ويقف ﷺ أمامهم ويقول: أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب، حتى أمر العباس أن يُنادي: يا أصحاب السمُرة الذين بايعوا بيعة الرضوان تحت الشجرة فعطفوا عليه عطفة البقر على ولدها، ثم اطلع النبي ﷺ وتطاول على بغلته، وقال: الآن حمي الوطيس، فتحول الميزان ميزان المعركة لما صار التوكل على الله، وتلاشى النظر إلى الذات والكثرة، فهنا نزل النصر.
إذًا الأمة يجب أن ترتبط بربها ومليكها وأن تعمل بطاعته، وأن تُصحح المقاصد والنيات والأعمال؛ فهنا يأتي التأييد: وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ ولاحظ التعبير بالفعل المضارع يؤيد الذي يدل على الاستمرار، فهذا التأييد يكون حينًا بعد حين، في كل زمان، فذلك لا يختص بعصر النبي ﷺ بل في كل حين: يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ وأضاف النصر إليه -تبارك وتعالى-؛ لأنه الذي يملكه وحده: وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [آل عمران:126]، وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ، من الذين يشاء؟ هم من ذكرهم الله -تبارك وتعالى- في مواضع من كتابه، أولئك الذين ينصرون الله: إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7]، فهذا جِماع ما يحصل به النصر أن ننصر الله، وتفاصيل هذه الجملة يدخل تحتها ما لا يخفى من المطالب الشرعية.
وهنا أيضًا: وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ، يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ ليست القضية أنه يؤيد بنصره قومًا للغتهم، أو لجنسهم، أو لقلتهم، أو لكثرتهم، مَنْ يَشَاءُ فهو بمشيئته لا بالقلة ولا بالكثرة، ثم عقّب بهذا التعقيب: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ ذكرنا العبرة، والمقصود بها الانتقال من حال الغير إلى النفس؛ لئلا يقع له ما حل بغيره، فالعاقل من وعِظ بغيره، وقلنا: إنها من معنى العبور، كأنه يعبر من حال ذاك إلى حاله هو إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً وجاء التأكيد بـ"إن" إِنَّ فِي ذَلِكَ، هذا اللقاء الذي حصل بين هاتين الفئتين واختلاف الأحوال والغايات: فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ [آل عمران:13]، فهذا التصوير وهذه الرؤية التي رأوها التكثير، ثم التقليل للإغراء كل ذلك فيه عِبرة وعِظة، كيف انتصرت هذه الفئة القليلة، على هذه الفئة الكثيرة المغرورة التي جاءت مُتبجحة، يريدون أن يضربوا بالدفوف والمعازف، وتضرب على رؤوسهم القيان، ويشربون الخمر عند بدر؛ ليتسامع العرب بهم، فيكون لهم من المهابة والرهبة ما يكون بسبب ذلك، خرجوا من ديارهم بطرًا ورئاء الناس، ويصدون عن سبيل الله، خرجوا يحملون أقبح الأوصاف: فئة كافرة، عربدة، فسق، مجون، الكفر، واللهو والمعازف، والغرور، والرياء، والسمعة كل هذا، أهل الإيمان: والإخبات، والثقة، والتوكل، والإيمان، والذكر لله -تبارك وتعالى-.
هؤلاء يضربون بالمعازف، وهؤلاء يذكرون الله: إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الأنفال:45]، أي: من أجل أن تُفلحوا، اذكروا الله كثيرًا، فذكر الله هو الذي يُستمد به المدد من السماء.
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لمن؟ لِأُوْلِي الأَبْصَارِ، الأبصار أصحاب البصائر النافذة، وهو بصر القلب، وهو البصر المُعتبر.
إن يأخذ الله من عيني نورهما |
ففي فؤادي وقلبي منهما نور |
عقلي ذكي وقلبي غير ذي دغل |
وفي فمي صارم كالسيف مشهور |
إذا رزق الله المروءة والتقى |
فإن عمى العينين ليس يضير |
العمى الحقيقي هو عمى القلب، حيث يُزين له الباطل، ويراه حقًا، ويرى الحق باطلاً فيرغب عنه: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ فدل على أن أهل البصائر هم الذين ينتفعون ويتعظون ويعتبرون، أما من عميت بصائرهم فهؤلاء يمرون على الآيات ولكنهم في غاية الغفلة، يمرون عليها وهم في حال من الإعراض التام فهؤلاء لا ينتفعون مهما شاهدوا من العِبر والعِظات.
والقاعدة التي نذكرها كثيرًا: أن الحكم المُعلق على وصف يزيد بزيادته وينقص بنقصانه، فهنا: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ، فدل ذلك على قدر ما يكون عند الإنسان من البصيرة يكون له من الاعتبار، ولهذا يتفاوت الناس، إذا زادت البصيرة عند الإنسان وأشرق القلب، وصار يرى الأشياء على حقائقها، يعتبر بكل شيء يُشاهده، كل ما يُشاهده من أحوال الناس الأفراد والمجتمعات، وتقلب الدنيا بأهلها، وغير ذلك يعتبر ويتعظ، ويقف عنده مليًّا؛ فينفعه ذلك.
وأما الغافل إنه يرى ما فيه مُعتبر ومع ذلك لا ينتفع ولا يعتبر: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً وهذا يدل على انطماس البصيرة، إذا رأيت الرجل لا يعتبر ولا ينتفع ولا يتعظ بما يُشاهده ويأتي عليه؛ فذلك لانطماس بصيرته.
وإذا كان الاعتبار والاتعاظ عابرًا قصير المدى ضعيف التأثير في النفس؛ فذلك يدل على ضعف البصيرة، أما أصحاب البصائر النافذة فإن ذلك يكون في غاية العُمق في دواخلهم وفي نفوسهم، يتعظون ويعتبرون وينتفعون، وهنا العبرة منُكرة: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً، يعني عبرة عظيمة، لكن لمن؟ لأولي الأبصار.