الثلاثاء 01 / ذو القعدة / 1446 - 29 / أبريل 2025
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ لَا تَكُونُوا۟ كَٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ وَقَالُوا۟ لِإِخْوَٰنِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا۟ فِى ٱلْأَرْضِ أَوْ كَانُوا۟ غُزًّى لَّوْ كَانُوا۟ عِندَنَا مَا مَاتُوا۟ وَمَا قُتِلُوا۟ لِيَجْعَلَ ٱللَّهُ ذَٰلِكَ حَسْرَةً فِى قُلُوبِهِمْ ۗ وَٱللَّهُ يُحْىِۦ وَيُمِيتُ ۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ اللّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ۝ وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ۝ وَلَئِن مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُونَ [سورة آل عمران:156-158].
ينهى تعالى عباده المؤمنين عن مشابهة الكفار في اعتقادهم الفاسد الدال عليه قولهم عن إخوانهم الذين ماتوا في الأسفار، والحروب: لو كانوا تركوا ذلك لما أصابهم ما أصابهم، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ [سورة آل عمران:156]".

ابن كثير هنا - رحمه الله -، وكذلك سبقه كبير المفسرين ابن جرير على أن قوله تعالى: لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ في الكفار كما قال الله : يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ [سورة آل عمران:154]، وظنُّ أهل الجاهلية هو أنهم بالتوقي يتخلصون من أقدار الله ، فعلى هذا التفسير يذكر الله هنا ظن هؤلاء من أهل الجاهلية - الذين هم الكفار - أنهم قالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض، أو كانوا غزىً؛ لو كانوا عندنا ما ماتوا، وما قتلوا، بمعنى أنهم يمكن أن يدفعوا القدر بزعمهم، فهذا تفسير لظن الجاهلية، وهذا على قول الإمامين ابن جرير، وابن كثير.
بينما بعض أهل العلم مثل الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمة الله عليه - يقول: إن هذا في المنافقين فلا زالت الآيات تتحدث عن هؤلاء المنافقين، على أن قوله: لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ [سورة آل عمران:156] أي المنافقين الذين هم كفار في الباطن، إلا أنه ليس المتبادر في القرآن إذا ذكر الكفار أن يقصد بهم أهل النفاق، ومع ذلك فهو يرى أن هذا في المنافقين، ويقول: هذا دأبهم، وهي عادتهم الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا [سورة آل عمران:168] فهم تخلفوا عن رسول الله ﷺ، وقالوا مثل هذه المقولة، وهم يقولون ذلك لتثبيطهم كما قالوا في غزوة تبوك، وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ [سورة التوبة:81] فهذه عادة المنافقين الذين قال الله عنهم في الأحزاب: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا [سورة الأحزاب:18] كما قال الله : وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُن مَّعَهُمْ شَهِيدًا [سورة النساء:72].
فالحاصل أن هذه الآيات في المنافقين ومنها قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ [سورة آل عمران:156] والله أعلم.
وقوله تعالى: إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ أي إذا خرجوا في سفر للتجارة ضربوا في الأرض، وقوله: أَوْ كَانُواْ غُزًّى يعني إذا خرجوا للحرب، ولفظة "غزَّى" لا يلزم فيها أن تكون غزوة مع رسول الله ﷺ على أن الذي خرج فيه النبي ﷺ يكون غزوة، والذي لم يخرج فيه مع أصحابه يقال له: سرية، وبقية الحروب مثلاً يقال لها: معارك، فهذا اصطلاح لا بقصد القرآن.
وعلى كل حال إذا قلنا: إن هذه الآية في أهل النفاق يكون ذلك تابعاً للآيات الأولى التي يذكر فيها الله موقف المنافقين في يوم أحد، والله تعالى أعلم.
"إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ أي: سافروا للتجارة ونحوها أَوْ كَانُواْ غُزًّى أي: كانوا في الغزو لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا أي: في البلد مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ أي: ما ماتوا من السفر، وما قتلوا في الغزو.
وقوله تعالى: لِيَجْعَلَ اللّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ أي: خلق هذا الاعتقاد في نفوسهم؛ ليزدادوا حسرة على موتهم، وقتلهم".

هنا الحافظ ابن كثير - رحمه الله - ذكر المعنى، لكن لو أردنا أن ندقق في العبارة فنربط هذا الكلام: لِيَجْعَلَ اللّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ بما قبله من الكلام نجد أنه يرجع إلى قالوا من قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ [سورة آل عمران:156] أي وقالوا هذه المقالة ليجعل الله ذلك القول حسرة في قلوبهم، وهذا هو الأقرب، وهو المتبادر والله أعلم، وهو لا يعارض كلام ابن كثير؛ لأن ابن كثير ذكر المعنى، ولم يقصد بذلك ربط اللفظ باللفظ، وما مشى عليه ابن كثير، وما ذكره من جهة المعنى؛ هو الأقرب، وهو اختيار أبو جعفر بن جرير - رحمه الله -.
وبعض أهل العلم يقول: إن قوله: لِيَجْعَلَ اللّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ يرجع إلى قوله: لاَ تَكُونُواْ فهو نهي عن مشابهتهم أي لا تكونوا مشابهين لهم، لينفردوا بذلك فيكون ذلك حسرة في قلوبهم وحدهم دونكم؛ لأن من قال هذا فإن ذلك يكون حسرة عليه، كما قال النبي ﷺ: فإن لو تفتح عمل الشيطان[1] ولا شك أن هذا المثال من المواضع التي يذم فيها "لو" خلافاً لبعض المواضع كقوله ﷺ: لو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي، ولجعلتها عمرة[2] فمثل هذا لا إشكال فيه إذا كان على أمر من الطاعات قد فات، أو كان ذلك لبيان أمر من الأمور يحتاج الناس إلى بيانه، فيقول الإنسان: لو كان كذا لفعلت كذا، لا على سبيل التحسر في الأمور التي لا جدوى من التحسر عليها، ولا فائدة، ولا يمكن استردادها، واستدراكها، فإذا كان لهذا المعنى فلا إشكال في "لو"، وبهذا تُجمع النصوص.
وعلى كل حال هنا يمكن أن يقال: إن قوله: لاَ تَكُونُواْ يرجع إلى هذا، بمعنى لا تكونوا مثلهم، أو لا تلتفتوا إليهم ليكون ترك الالتفات إليهم سبباً للحسرة في قلوبهم، لكن هذا القول بعيد، والأقرب - والله أعلم - أنه يرجع إلى قَالُواْ أي أن هذا قول ناتج عن اعتقاد لهم، ليكون ذلك القول والاعتقاد الفاسد حسرة في قلوبهم، فإن من فسد اعتقاده، وكان يظن أنه يمكن أن يدفع القدر؛ يتحسر على كل ما وقع له من الآلام، والمصائب، والمكاره، ودائماً هو في شغل شاغل فيما مضى مما يقع له، لو ما فعلت كان حصل كذا، وهكذا.
"لِيَجْعَلَ اللّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ [سورة آل عمران:156] أي: خلق هذا الاعتقاد في قلوبهم ليزدادوا حسرة على موتهم، وقتلهم.
ثم قال تعالى رداً عليهم: وَاللّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ [سورة آل عمران:156] أي: بيديه الخلق، وإليه يرجع الأمر، ولا يحيى أحد، ولا يموت أحد؛ إلا بمشيئته، وقدره، ولا يزاد في عمر أحد، ولا ينقص منه؛ إلا بقضائه، وقدره.
وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [سورة آل عمران:156] أي: وعلمه، وبصره نافذ في جميع خلقه، لا يخفى عليه من أمورهم شيء".
  1. أخرجه مسلم في كتاب القدر- باب في الأمر بالقوة، وترك العجز، والاستعانة بالله، وتفويض المقادير لله (2664) (ج 4 / ص 2052).
  2. أخرجه أبو داود في كتاب المناسك - باب صفة حجة النبي ﷺ (1907) (ج 2 / ص 122) والنسائي في كتاب مناسك الحج - الكراهية في الثياب المصبغة للمحرم (2712) (ج 5 / ص 143) وصححه الألباني في صحيح أبي داود برقم (1905).

مرات الإستماع: 0

"لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا [آل عمران:156] أي: المنافقين".

 

لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا [آل عمران:156] حمله ابن كثير - رحمه الله - على إنه نهي عن مشابهة الكافرين في اعتقادهم الفاسد[1] فنهى عن مشابهتهم لذلك، وهذا الذي اختاره ابن جرير[2] جاريًا على ظاهر اللفظ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا.

وحمله الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله - على المنافقين[3] كما قال ابن جزي هنا، وذلك باعتبار السياق، أنه في معركة أُحد، وأن هؤلاء هم الذين كانوا يرددون مثل هذه العبارات: الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا [آل عمران:168] كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا [آل عمران:156] فهذه العبارات التي يرددها مثل هؤلاء في أُحد، قالوه لهم، يُثبّطونهم، وهكذا في قوله: وَقَالُوا لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ [التوبة:81] هذا في غزوة تبوك، كانت في صيف، وحرٍّ شديد.

وهكذا كما قال الله : قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا [الأحزاب:18] هذه في واقعة الأحزاب، وعرفنا في مناسبات سابقة: أن القاعدة أن (قد) إذا دخلت على الفعل الماضي أنها للتحقيق، وإذا دخلت على المضارع فكثير من أهل اللغة يقولون: إنها قد تفيد التكثير أو التقليل، لكن إذا كانت في كلام الله : قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ فهي للتحقيق قطعًا.

وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ [النساء:72] هذا كله في المنافقين - والله أعلم - فالذين نظروا إلى السياق، قالوا: إنها في المنافقين، والذين نظروا إلى ظاهر اللفظ، قالوا: إنها نهيٌ عن مشابهة الكافرين، ولا شك أن المنافقين هم كفارٌ في الباطن لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ يعني: السفر للتجارة، ونحو ذلك أَوْ كَانُوا غُزًّى يعني: قُتلوا في المعركة لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا وهذا الذي يُسمى: باللف، والنشر المرتب، فالضرب في الأرض: السفر للتجارة مَاتُوا أَوْ كَانُوا غُزًّى قُتلوا، فجاء بهما مرتبين مَاتُوا قُتِلُوا وقبله ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى فالأول للأول، والثاني للثاني، هذا يسمونه: لف، ونشر، يعني: يُجمل قضيتين، ثم يأتي بأحكامهما، فإن كانا على الترتيب الأول؛ فهو لفٌ، ونشرٌ مرتب.

وقد يكون مشوشًا يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ۝ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [آل عمران:106 - 107] فذكر بالعكس، يعني: ذكر الثاني، ثم الأول.

"لِإِخْوَانِهِمْ هي أخوة القرابة؛ لأن المنافقين كانوا من الأوس، والخزرج، وكان أكثر المقتولين يوم أحد منهم، ولم يقتل من المهاجرين إلّا أربعة".

فالأخوة قد تقال: باعتبار النسب، وقد تقال: باعتبار الدين، وقد تقال: باعتبار ما يجمعهم كالبلد، ونحو ذلك، كالعمل الذي يعملونه يكون واحدًا، ونحو هذا، كما قال في قوله - تبارك، وتعالى - في الأحزاب: وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا [الأحزاب:18] فهؤلاء من المنافقين، يقولون لإخوانهم، وجاء في بعض الروايات: أن رجلاً قال لأخيه - يعني من النسب، دعاه إلى طعام، أو نحو ذلك، فقال له: ما محمد، وأصحابه إلا أكلة رأس[4] تعال، واطعم، دع هؤلاء.

ويحتمل أن يكون المقصود: وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ يعني: من قبيلتهم، ومن عشيرتهم، ويحتمل أن يكون وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ من المنافقين، ويحتمل أن يكون المعنى: قالوا للمؤمنين باعتبار الأخوة في البلد، كونهم جميعًا في المدينة، ومصالحهم، ومصيرهم قد يكون مشتركًا.

"إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أي: سافروا، وإنما قال: (إذا) التي للاستقبال مع (قالوا) لأنه على حكاية الحال الماضية".

والضرب في الأرض مضى الكلام عليه في بعض المناسبات لعله في المصباح المنير، يعني: المشي فيها؛ لأن الذي يمشي على راحلة، أو على قدمه، كأنه يضرب بقدمه، أو راحلته على الأرض، فيقال للسفر: الضرب في الأرض.

"أَوْ كَانُوا غُزًّى جمع غاز، ووزنه (فُعّل) بضم الفاء، وتشديد العين".

الغزو معروف: هو الخروج إلى محاربة العدو، وأصل المادة تعني طلب شيء.

"لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا اعتقادٌ منهم فاسد؛ لأنهم ظنوا أن إخوانهم لو كانوا عندهم لم يموتوا، ولم يقتلوا، وهذا قول من لا يؤمن بالقدر، والأجل المحتوم، ويقرب منه مذهب المعتزلة في القول بالأجلين".

مذهب المعتزلة: أن المقتول لم يمت بأجله، يعني له أجل لو لم يتسبب هذا، ويعتدي عليه لبلغه، يعني - مثلًا - كان سيعيش سبعين سنة، فجاء هذا، وقتله، وعمره - مثلًا - عشرون سنة، فيقولون: هذا أجل غير الأجل الأصلي، أجله سبعون، فقطع عليه القاتل أجله، فصار له أجلان، هذا الأجل الذي صار إليه لما قُطع عليه أجله الذي كان، فالمقتول عند المعتزلة مقطوعٌ عليه أجله، وهذا غير صحيح، هو ميت بأجله.

"لِيَجْعَلَ [آل عمران:156] متعلقٌ بـ(قالوا)، أي: قالوا ذلك فكان حسرةً في قلوبهم".

وهذا اختيار ابن جرير - رحمه الله -[5] وابن كثير - رحمه الله - يقول: إن الله خلق هذا الاعتقاد الفاسد في نفوسهم، يزدادوا حسرة، على موتهم، وقتلهم[6] وكما قال النبي - عليه الصلاة، والسلام -: لو تفتح عمل الشيطان[7] فهذا القول الذي يقولونه يورث في النفس تآكلًا، وحسرةً، وحزنًا متجددًا؛ لأنه كأنه يعتقد أنه يندفع عنه ذلك لو فعل هذا، الذي لا يمكن أن يدفع به، ولا يمكن أن يستدرك، ولا يمكن أن يرجع الأمر إلى ما كان قبل ذلك، فهذا أمرٌ قضاه الله - تبارك، وتعالى - فلا يقول الإنسان: لو لو، انتهى، قدر الله، وما شاء فعل.

قال: "إشارة إلى قولهم، واعتقادهم الفاسد" ليجمع بين القولين، إشارة إلى القول، والاعتقاد الفاسد، وهذا جيد.

"أي: قالوا ذلك فكان حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ فاللام لام الصيرورة لبيان العاقبة".

يقول هنا: "متعلق بـ(قالوا)"، وهذا كما سبق هو ظاهر كلام ابن جرير[8] وكذلك - أيضًا - ابن كثير - رحمه الله -[9].

وبعضهم يقول: إنه متعلق بـقوله: وَلَا تَكُونُوا والمعنى: لا تكونوا مثلهم في اعتقاد ذلك؛ ليجعله الله حسرةً في قلوبهم فقط، وهذا فيه بُعد، وبعضهم يقول: المعنى: لا تلتفتوا إليهم ليجعل الله عدم التفاتكم إليهم حسرة، وهذا بعيد، لكن الظاهر أنه يرجع إلى الاعتقاد، والقول الذي قالوه لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا - والله أعلم -.

" ذَلِكَ [آل عمران:156] إشارة إلى قولهم، واعتقادهم الفاسد، الذي أوجب لهم الحسرة؛ لأن الذي يتيقن بالقدر، والأجل تذهب عنه الحسرة وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ [آل عمران:156] ردٌ على قولهم، واعتقادهم."
  1.  تفسير ابن كثير ت سلامة (2/147).
  2.  تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (6/175).
  3.  أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (1/214).
  4.  تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (19/50).
  5.  المصدر السابق (6/175).
  6.  تفسير ابن كثير ت سلامة (2/147).
  7.  أخرجه مسلم في كتاب القدر، باب في الأمر بالقوة، وترك العجز، والاستعانة بالله، وتفويض المقادير لله برقم: (2664).
  8.  تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (6/175).
  9.  تفسير ابن كثير ت سلامة (2/147).