ينهى تعالى عباده المؤمنين عن مشابهة الكفار في اعتقادهم الفاسد الدال عليه قولهم عن إخوانهم الذين ماتوا في الأسفار، والحروب: لو كانوا تركوا ذلك لما أصابهم ما أصابهم، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ [سورة آل عمران:156]".
ابن كثير هنا - رحمه الله -، وكذلك سبقه كبير المفسرين ابن جرير على أن قوله تعالى: لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ في الكفار كما قال الله : يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ [سورة آل عمران:154]، وظنُّ أهل الجاهلية هو أنهم بالتوقي يتخلصون من أقدار الله ، فعلى هذا التفسير يذكر الله هنا ظن هؤلاء من أهل الجاهلية - الذين هم الكفار - أنهم قالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض، أو كانوا غزىً؛ لو كانوا عندنا ما ماتوا، وما قتلوا، بمعنى أنهم يمكن أن يدفعوا القدر بزعمهم، فهذا تفسير لظن الجاهلية، وهذا على قول الإمامين ابن جرير، وابن كثير.
بينما بعض أهل العلم مثل الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمة الله عليه - يقول: إن هذا في المنافقين فلا زالت الآيات تتحدث عن هؤلاء المنافقين، على أن قوله: لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ [سورة آل عمران:156] أي المنافقين الذين هم كفار في الباطن، إلا أنه ليس المتبادر في القرآن إذا ذكر الكفار أن يقصد بهم أهل النفاق، ومع ذلك فهو يرى أن هذا في المنافقين، ويقول: هذا دأبهم، وهي عادتهم الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا [سورة آل عمران:168] فهم تخلفوا عن رسول الله ﷺ، وقالوا مثل هذه المقولة، وهم يقولون ذلك لتثبيطهم كما قالوا في غزوة تبوك، وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ [سورة التوبة:81] فهذه عادة المنافقين الذين قال الله عنهم في الأحزاب: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا [سورة الأحزاب:18] كما قال الله : وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُن مَّعَهُمْ شَهِيدًا [سورة النساء:72].
فالحاصل أن هذه الآيات في المنافقين ومنها قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ [سورة آل عمران:156] والله أعلم.
وقوله تعالى: إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ أي إذا خرجوا في سفر للتجارة ضربوا في الأرض، وقوله: أَوْ كَانُواْ غُزًّى يعني إذا خرجوا للحرب، ولفظة "غزَّى" لا يلزم فيها أن تكون غزوة مع رسول الله ﷺ على أن الذي خرج فيه النبي ﷺ يكون غزوة، والذي لم يخرج فيه مع أصحابه يقال له: سرية، وبقية الحروب مثلاً يقال لها: معارك، فهذا اصطلاح لا بقصد القرآن.
وعلى كل حال إذا قلنا: إن هذه الآية في أهل النفاق يكون ذلك تابعاً للآيات الأولى التي يذكر فيها الله موقف المنافقين في يوم أحد، والله تعالى أعلم.
وقوله تعالى: لِيَجْعَلَ اللّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ أي: خلق هذا الاعتقاد في نفوسهم؛ ليزدادوا حسرة على موتهم، وقتلهم".
هنا الحافظ ابن كثير - رحمه الله - ذكر المعنى، لكن لو أردنا أن ندقق في العبارة فنربط هذا الكلام: لِيَجْعَلَ اللّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ بما قبله من الكلام نجد أنه يرجع إلى قالوا من قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ [سورة آل عمران:156] أي وقالوا هذه المقالة ليجعل الله ذلك القول حسرة في قلوبهم، وهذا هو الأقرب، وهو المتبادر والله أعلم، وهو لا يعارض كلام ابن كثير؛ لأن ابن كثير ذكر المعنى، ولم يقصد بذلك ربط اللفظ باللفظ، وما مشى عليه ابن كثير، وما ذكره من جهة المعنى؛ هو الأقرب، وهو اختيار أبو جعفر بن جرير - رحمه الله -.
وبعض أهل العلم يقول: إن قوله: لِيَجْعَلَ اللّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ يرجع إلى قوله: لاَ تَكُونُواْ فهو نهي عن مشابهتهم أي لا تكونوا مشابهين لهم، لينفردوا بذلك فيكون ذلك حسرة في قلوبهم وحدهم دونكم؛ لأن من قال هذا فإن ذلك يكون حسرة عليه، كما قال النبي ﷺ: فإن لو تفتح عمل الشيطان[1] ولا شك أن هذا المثال من المواضع التي يذم فيها "لو" خلافاً لبعض المواضع كقوله ﷺ: لو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي، ولجعلتها عمرة[2] فمثل هذا لا إشكال فيه إذا كان على أمر من الطاعات قد فات، أو كان ذلك لبيان أمر من الأمور يحتاج الناس إلى بيانه، فيقول الإنسان: لو كان كذا لفعلت كذا، لا على سبيل التحسر في الأمور التي لا جدوى من التحسر عليها، ولا فائدة، ولا يمكن استردادها، واستدراكها، فإذا كان لهذا المعنى فلا إشكال في "لو"، وبهذا تُجمع النصوص.
وعلى كل حال هنا يمكن أن يقال: إن قوله: لاَ تَكُونُواْ يرجع إلى هذا، بمعنى لا تكونوا مثلهم، أو لا تلتفتوا إليهم ليكون ترك الالتفات إليهم سبباً للحسرة في قلوبهم، لكن هذا القول بعيد، والأقرب - والله أعلم - أنه يرجع إلى قَالُواْ أي أن هذا قول ناتج عن اعتقاد لهم، ليكون ذلك القول والاعتقاد الفاسد حسرة في قلوبهم، فإن من فسد اعتقاده، وكان يظن أنه يمكن أن يدفع القدر؛ يتحسر على كل ما وقع له من الآلام، والمصائب، والمكاره، ودائماً هو في شغل شاغل فيما مضى مما يقع له، لو ما فعلت كان حصل كذا، وهكذا.
ثم قال تعالى رداً عليهم: وَاللّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ [سورة آل عمران:156] أي: بيديه الخلق، وإليه يرجع الأمر، ولا يحيى أحد، ولا يموت أحد؛ إلا بمشيئته، وقدره، ولا يزاد في عمر أحد، ولا ينقص منه؛ إلا بقضائه، وقدره.
وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [سورة آل عمران:156] أي: وعلمه، وبصره نافذ في جميع خلقه، لا يخفى عليه من أمورهم شيء".
- أخرجه مسلم في كتاب القدر- باب في الأمر بالقوة، وترك العجز، والاستعانة بالله، وتفويض المقادير لله (2664) (ج 4 / ص 2052).
- أخرجه أبو داود في كتاب المناسك - باب صفة حجة النبي ﷺ (1907) (ج 2 / ص 122) والنسائي في كتاب مناسك الحج - الكراهية في الثياب المصبغة للمحرم (2712) (ج 5 / ص 143) وصححه الألباني في صحيح أبي داود برقم (1905).