ثم قال تعالى: وَلَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ [سورة آل عمران:155] أي: عما كان منهم من الفرار.
إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ [سورة آل عمران:155] أي: يغفر الذنب، ويحلم عن خلقه، ويتجاوز عنهم".
قوله تعالى: إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ [سورة آل عمران:155] نص واضح يدل على أن ذنوب الإنسان - لا سيما ذنوب السرائر - أعظم سبب يودي به إلى الفشل، فيخذل في أشد الأوقات، وأعظم الأحوال التي يحتاج فيها إلى ألطاف الله ، فهو يخذل وينكسر، كما أن من كان له سريرة، وسيرة حسنة، وعمل صالح؛ فإن الله ينصره، ومن عرف الله في الرخاء عرفه الله في الشدة، فالإنسان يحرص دائماً أن يرتبط بالله ، وأن يتعرف إلى الله في الرخاء فيعرفه الله في الشدائد، وهذا كما يقال في عموم الأمة، ومجموعها؛ كذلك يقال في آحاد الناس، وأفرادهم، وما يقع لهم من الأمور المكروهة.
أبلغه أي بلِّغه أني لم أفر يوم عينين، ويوم عينين يعني يوم أحد، والمقصود بعينين هو الجبل الصغير الذي كان عليه الرماة، فهو يقال له: جبل الرماة، ويقال له: جبل عينين.
قوله: قال عاصم: يقول: يوم أحد هذه جملة اعتراضية وهي تفسير لقوله: "يوم عينين".
يقول عبد الرحمن: ولم أتخلف عن بدر يعني يقول: إنه لم يفر يوم عينين - يوم أحد -، ولم يتخلف يوم بدر؛ وأما عثمان فتخلف عن غزوة بدر؛ لأنه كان يمرِّض زوجته بنت رسول الله ﷺ.
قوله: ولم أترك سنة عمر يعني في أمر الخلافة، وليس المقصود أن عثمان انتقل إلى جانب الظلم والخروج على حدود الله - حاشاه من ذلك - فهو من الخلفاء الراشدين، وقال فيه النبي ﷺ: ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم[1] لكن كان لعمر سياسة صارمة لا يطيقها كثير ممن جاء بعده، فهو كان - مثلاً - يخرج إلى خارج المدينة يتبع جملاً من إبل الصدقة قد ندَّ فلم يكن يرسل أحداً، وإنما كان يذهب يطارد جملاً قد ند وهو خليفة، فمن يستطيع هذا؟
ومن مواقفه أنه أحدث على المنبر، فيذكر ذلك صراحة، ويقول: إني قد كذا، وينزل ويتوضأ، ثم يرجع، فمن يستطيع أن يكون مثله.
وفي عام الرمادة تظهر عليه سمرة، ويتغير لونه لتركه الأكل؛ لأن الناس قد جاعوا، حتى إن بعض من وصفوا عمر وجدت في أوصافهم له تباين، فبعضهم يقول: إنه أبيض طويل، وبعضهم يقول: إنه أسمر، فجمع بينهما بعض أهل العلم بأن الذين قالوا أسمر هم الذين رأوه عام الرمادة، وقد مال لونه إلى السواد؛ لشدة ما نزل به من الجوع، فمن يستطيع أن يفعل مثل عمر؟ ومن يستطيع أن يلبس ثوباً فيه أكثر من عشر رقاع مثل عمر؟
كان إذا قسم يعطي لابنه عبد الله أقل من بقية أبناء المهاجرين بحجة أنه هاجر مع أبيه فحصلت له الهجرة على سبيل التبع، فعثمان اعتذر عن هذا، وقال: هذا شيء لا أطيقه، وهل يجب على الإنسان أن يفعل هذا؟ لا يجب عليه، ولذلك حتى معاوية في أول خلافته حاول أن يسير بالناس بسيرة عمر نحواً من عامين، ثم بعد ذلك قال: "عجزت".
- أخرجه الترمذي في كتاب المناقب - باب في مناقب عثمان بن عفان (3701) (ج 5 / ص 626) والحاكم (4553) (ج 3 / ص 110) وحسنه الألباني في صحيح الترمذي برقم (3701).