الأربعاء 02 / ذو القعدة / 1446 - 30 / أبريل 2025
إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَلَّوْا۟ مِنكُمْ يَوْمَ ٱلْتَقَى ٱلْجَمْعَانِ إِنَّمَا ٱسْتَزَلَّهُمُ ٱلشَّيْطَٰنُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا۟ ۖ وَلَقَدْ عَفَا ٱللَّهُ عَنْهُمْ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"ثم قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ [سورة آل عمران:155] أي: ببعض ذنوبهم السالفة، كما قال بعض السلف: "إن من ثواب الحسنةِ الحسنةَ بعدها، وإن من جزاء السيئةِ السيئةَ بعدها".
ثم قال تعالى: وَلَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ [سورة آل عمران:155] أي: عما كان منهم من الفرار.
إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ [سورة آل عمران:155] أي: يغفر الذنب، ويحلم عن خلقه، ويتجاوز عنهم".

قوله تعالى: إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ [سورة آل عمران:155] نص واضح يدل على أن ذنوب الإنسان - لا سيما ذنوب السرائر - أعظم سبب يودي به إلى الفشل، فيخذل في أشد الأوقات، وأعظم الأحوال التي يحتاج فيها إلى ألطاف الله ، فهو يخذل وينكسر، كما أن من كان له سريرة، وسيرة حسنة، وعمل صالح؛ فإن الله ينصره، ومن عرف الله في الرخاء عرفه الله في الشدة، فالإنسان يحرص دائماً أن يرتبط بالله ، وأن يتعرف إلى الله في الرخاء فيعرفه الله في الشدائد، وهذا كما يقال في عموم الأمة، ومجموعها؛ كذلك يقال في آحاد الناس، وأفرادهم، وما يقع لهم من الأمور المكروهة.
"روى الإمام أحمد عن شقيق قال: لقي عبد الرحمن بن عوف الوليد بن عقبة فقال له الوليد: ما لي أراك جفوت أمير المؤمنين عثمان؟ فقال له عبد الرحمن: أبلغه أني لم أفر يوم عينين".

أبلغه أي بلِّغه أني لم أفر يوم عينين، ويوم عينين يعني يوم أحد، والمقصود بعينين هو الجبل الصغير الذي كان عليه الرماة، فهو يقال له: جبل الرماة، ويقال له: جبل عينين.
"فقال له عبد الرحمن: أبلغه أني لم أفر يوم عينين - قال عاصم: يقول: يوم أحد -، ولم أتخلف عن بدر".

قوله: قال عاصم: يقول: يوم أحد هذه جملة اعتراضية وهي تفسير لقوله: "يوم عينين".
يقول عبد الرحمن: ولم أتخلف عن بدر يعني يقول: إنه لم يفر يوم عينين - يوم أحد -، ولم يتخلف يوم بدر؛ وأما عثمان فتخلف عن غزوة بدر؛ لأنه كان يمرِّض زوجته بنت رسول الله ﷺ.
 
"قال عاصم: يقول: يوم أحد، ولم أتخلف عن بدر، ولم أترك سنة عمر".

قوله: ولم أترك سنة عمر يعني في أمر الخلافة، وليس المقصود أن عثمان انتقل إلى جانب الظلم والخروج على حدود الله - حاشاه من ذلك - فهو من الخلفاء الراشدين، وقال فيه النبي ﷺ: ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم[1] لكن كان لعمر سياسة صارمة لا يطيقها كثير ممن جاء بعده، فهو كان - مثلاً - يخرج إلى خارج المدينة يتبع جملاً من إبل الصدقة قد ندَّ فلم يكن يرسل أحداً، وإنما كان يذهب يطارد جملاً قد ند وهو خليفة، فمن يستطيع هذا؟
ومن مواقفه أنه أحدث على المنبر، فيذكر ذلك صراحة، ويقول: إني قد كذا، وينزل ويتوضأ، ثم يرجع، فمن يستطيع أن يكون مثله.
وفي عام الرمادة تظهر عليه سمرة، ويتغير لونه لتركه الأكل؛ لأن الناس قد جاعوا، حتى إن بعض من وصفوا عمر وجدت في أوصافهم له تباين، فبعضهم يقول: إنه أبيض طويل، وبعضهم يقول: إنه أسمر، فجمع بينهما بعض أهل العلم بأن الذين قالوا أسمر هم الذين رأوه عام الرمادة، وقد مال لونه إلى السواد؛ لشدة ما نزل به من الجوع، فمن يستطيع أن يفعل مثل عمر؟ ومن يستطيع أن يلبس ثوباً فيه أكثر من عشر رقاع مثل عمر؟
كان إذا قسم يعطي لابنه عبد الله أقل من بقية أبناء المهاجرين بحجة أنه هاجر مع أبيه فحصلت له الهجرة على سبيل التبع، فعثمان اعتذر عن هذا، وقال: هذا شيء لا أطيقه، وهل يجب على الإنسان أن يفعل هذا؟ لا يجب عليه، ولذلك حتى معاوية في أول خلافته حاول أن يسير بالناس بسيرة عمر نحواً من عامين، ثم بعد ذلك قال: "عجزت".
"قال: فانطلق فخبر بذلك عثمان، قال: فقال: "أما قوله: إني لم أفر يوم عينين فكيف يعيرني بذنب قد عفا الله عنه فقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ [سورة آل عمران:155]، وأما قوله: إني تخلفت يوم بدر فإني كنت أمرض رقية بنت رسول الله ﷺ حتى ماتت، وقد ضرب لي رسول الله ﷺ بسهم، ومن ضرب له رسول الله ﷺ بسهم فقد شهد، وأما قوله: إني تركت سنة عمر فإني لا أطيقها ولا هو، فأته فحدثه بذلك".
  1. أخرجه الترمذي في كتاب المناقب - باب في مناقب عثمان بن عفان (3701) (ج 5 / ص 626) والحاكم (4553) (ج 3 / ص 110) وحسنه الألباني في صحيح الترمذي برقم (3701).

مرات الإستماع: 0

"إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا [آل عمران:155]... الآية، فيمن فر يوم أحد - في النسخة الخطية: الآية نزلت فيمن فر يوم أحد - اسْتَزَلَّهُمُ أي: طلب منهم أن يزلوا، ويحتمل أن يكون معناه: أزلهم أي أوقعهم في الزلل". 

"اسْتَزَلَّهُمُ طلب منهم أن يزلوا" باعتبار أن الحروف الثلاثة الأولى تدل على الطلب، يقول: "ويحتمل أن يكون معناها: أزلهم" يعني تكون الحروف الثلاثة الأولى، ليست للاستدعاء، والطلب، وإنما للتوكيد، يعني طلب زللهم، والزلة: الخطأ، والذنب من غير قصد، ولكن أصل الزلل: استرسال الرِجل من غير قصد، هذا أصله في اللغة.    

"بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا [آل عمران:155] أي: كانت لهم ذنوب عاقبهم الله عليها، بأن مكن الشيطان من استزلالهم".

كما قال بعض السلف: أن من ثواب الحسنة: الحسنة بعدها، وإن من جزاء السيئة: السيئة بعدها، وهذه الآية تحمل معنًى كبيرًا، وهو أن: ذنوب الإنسان، وجرائره، ومعاصيه، قد تكون سببًا لخذلانه في الوقت الذي يحتاج فيه إلى تثبيت، ونصر، وعون من الله - تبارك، وتعالى - فيُخذل، وينهزم، ويندحر، ويضعُف، ويُتراجع. 

فهذه كما ترى حكمة الله، وعدله، الجزاء من جنس العمل، لم يثبت في جهاده الأول مع النفس، والشيطان، فكان له ما كان من مقارفات، وجنايات، فإذا جاء الجد انهزم، ورجع، وانتكس، سواء كان ذلك في ميدان المعركة، أو في غير المعركة الحربية، أو في غيرها من الميادين التي تكون فيها الشدة متوجهةً إليه، فيُخذل في وقتٍ أحوج ما يكون فيه إلى عون الله، وتأييده.

ولذلك تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، هذه أصل قاعدة كبيرة، ومعنىً عظيمًا، ينبغي أن يجعلها الإنسان دائمًا نصب عينيه، هؤلاء انهزموا، ولاحظ أنه جاء بثاني أقوى صيغة في الحصر: (إنما) إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا فوقع لهم هذا الانهزام بجناياتٍ سابقة، فينبغي على العبد أن يحصن نفسه دائمًا، وأن يكون حاله في الخلوة كحاله في الجلوة أمام الناس، ملازمًا للتقوى، ومراقبة الله والصيانة، وحفظ الجوارح، والقلب، وما إلى ذلك، وإلا فقد يُخذل.

"عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ [آل عمران:155] أي: غفر لهم ما وقعوا فيه من الفرار."