الأربعاء 02 / ذو القعدة / 1446 - 30 / أبريل 2025
ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّنۢ بَعْدِ ٱلْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَىٰ طَآئِفَةً مِّنكُمْ ۖ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِٱللَّهِ غَيْرَ ٱلْحَقِّ ظَنَّ ٱلْجَٰهِلِيَّةِ ۖ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ ٱلْأَمْرِ مِن شَىْءٍ ۗ قُلْ إِنَّ ٱلْأَمْرَ كُلَّهُۥ لِلَّهِ ۗ يُخْفُونَ فِىٓ أَنفُسِهِم مَّا لَا يُبْدُونَ لَكَ ۖ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ ٱلْأَمْرِ شَىْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَٰهُنَا ۗ قُل لَّوْ كُنتُمْ فِى بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ ٱلَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ ٱلْقَتْلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمْ ۖ وَلِيَبْتَلِىَ ٱللَّهُ مَا فِى صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِى قُلُوبِكُمْ ۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

قال المفسر - رحمه الله تعالى - في تفسير قوله تعالى: ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنكُمْ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ۝ إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ [سورة آل عمران:154-155].
"يقول تعالى ممتناً على عباده فيما أنزل عليهم من السكينة، والأمَنة وهو النعاس الذي غشيهم، وهم مستلئموا السلاح في حال همهم، وغمهم، والنعاس في مثل تلك الحال دليل على الأمان، كما قال تعالى في سورة الأنفال في قصة بدر: إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ الآية [سورة الأنفال:11]".

فقوله - تبارك وتعالى - هنا: ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا [سورة آل عمران:154-155] الأمنة هنا مفسرة بالآية وهي النعاس، ولذلك قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله - هنا: هي النعاس, وهكذا قال ابن جرير وطوائف من المفسرين، وبعضهم فسر الأمنة هنا بمعنى الأمن، وهذان المعنيان لا منافاة بينهما؛ لأن النعاس إنما ينزل إذا وجدت أسباب الخوف مع الأمن إذا وجد في النفوس، يعني إذا شعرت النفوس بالأمن فإنه يحصل النعاس، وإذا وجد الخوف المزعج من غير شعور بالأمن في النفوس فإن ذلك الخوف يقلقها فيطير عنها النوم فلا تجد للنوم محلاً، فالمقصود أن منهم من فسر الأمنة بالأمن، ومنهم من فرق بين الأمن والأمنة فقال: الأمنة هي الأمن مع وجود أسباب الخوف، أما الأمن مع غير وجود أسباب الخوف مثل أمن الناس الآن فهذا يقال له أمن، وسواء قيل هذا أو قيل هو النعاس فكل ذلك يرجع إلى شيء واحد؛ لأن النعاس لا ينزل مع وجود أسباب الخوف إلا بوجود الأمن.
وقوله تعالى: أَمَنَةً نُّعَاسًا [سورة آل عمران:154] نعاساً هنا تفسير لهذه الأمنة، والله أعلم.
وقول المصنف: وهم مستلئموا السلاح يعني قد لبسوه.
"وروى البخاري عن أنس عن أبي طلحة - ا - قال: كنت فيمن تغشاه النعاس يوم أحد حتى سقط سيفي من يدي مراراً، يسقط وآخذه، ويسقط وآخذه [رواه في المغازي معلقاً وفي كتاب التفسير مسنداً].
وقد رواه الترمذي والنسائي والحاكم عن أنس عن أبي طلحة قال: رفعت رأسي يوم أحد وجعلت أنظر؛ وما منهم يومئذ أحد إلا يميد تحت حَجَفَته من النعاس [لفظ الترمذي وقال: حسن صحيح].
ورواه النسائي أيضاً عن أنس قال: قال أبو طلحة: كنت فيمن ألقي عليه النعاس الحديث، قال: "والطائفة الأخرى المنافقون ليس لهم همٌّ إلا أنفسهم، أجبن قوم، وأرعنه، وأخذله للحق".

في قوله: وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ [سورة آل عمران:154] هل هؤلاء هم أهل النفاق أو أنهم من ضعفاء الإيمان, كما قال الله : إِذْ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ [سورة آل عمران:122]؟ فقد يوجد مثل هذا الضعف بين المؤمنين، وكما في قوله تعالى في سورة الأحزاب: وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ [سورة الأحزاب:12] إذا قيل - على أحد الوجوه في التفسير -: إن قوله: وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ [سورة الأنفال:49] هو من باب عطف المغايرة بمعنى أنهم طائفة أخرى غير المنافقين، وهذا مع أن طوائف من أهل العلم يقولون: إن هذا من باب عطف الصفات والموصوف واحد، فالمنافقون: هم الذين في قلوبهم مرض وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ [سورة الأحزاب:12] كما قال الله : سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ۝ الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى ۝ وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى [سورة الأعلى:1-3] فإن الأوصاف تتابع، تارة مع ذكر حرف العطف، وتارة بحذفه، والآية في سورة الأحزاب وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ [سورة الأحزاب:12] تحتمل المعنيين، فيمكن أن يكونوا ضعفاء الإيمان، ويمكن أن يكون المراد بهم أهل النفاق.
والمقصود هنا أن مثل الحافظ ابن القيم - رحمه الله - يقول: لم يكن معهم في يوم أُحدٍ أَحدٌ من المنافين؛ وذلك أن عبد الله بن أبي رجع بثلث الجيش، وهؤلاء الذين رجع بهم فيهم أهل نفاق وهو رئيس المنافقين، ولكن الجيش في ذلك الحين كان يقسم على تقسيم بحيث يكون مبعضاً ربما بحسب القبائل، والبطون، والعشائر، فالخزرج لهم لواء، والأوس لهم لواء، والمهاجرون لهم لواء، وربما قسم إلى أكثر من هذا كما في يوم القادسية حيث كانت كل قبيلة تقف بمفردها، حتى إن قبيلة بجيلة تفرقت في الحروب التي وقعت لها، ثم لما أسلموا تفرقوا في الجهاد، وكادت القبيلة أن تضمحل؛ فعمد جرير البجلي إلى جمعهم، وكلم النبي ﷺ، ثم كلم أبا بكر بعد ما أخذ كتاباً من رسول الله ﷺ بجمع القبيلة، ثم بعد ذلك جمعوا له فكانوا من أحسن من قاتل في يوم القادسية، وفيه يقول الشاعر:
لولا جرير ذهبت بجيلة نعم الفتى وبئست القبيلة
وأعني من هذا أن الذين رجعوا مع عبد الله بن أبي قد لا يكونون جميعاً من المنافقين، فقد يكون بعضهم ممن يحسن الظن به، ولم يتكشف نفاقه بعد، وبعضهم ممن يتعصب له، كما قال الله : وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ [سورة التوبة:47] وبعضهم تبعه على سبيل أن هذا من كبار الخزرج، بل كاد أن يتوج ليكون ملكاً على الأوس والخزرج معاً، فرجوع عبد الله بن أبي لا يعني أنه لم يبق أََحدٌ من المنافقين في غزوة أحد؛ لأن الذين رجعوا هم الذين كانوا مع عبد الله بن أبي، وقد لا يكون هو القائد بالنسبة لهؤلاء الذين رجعوا معه؛ لأن من عادة النبي ﷺ أنه لا يولي مثل هؤلاء على قيادة سواء صغرت هذه القيادة أم كبرت، فهذا هو المعهود في السنة وهو الذي مشى عليه الخلفاء الراشدون ، وهو حكم الإسلام فيهم - أي المنافقين - أي أنه لا يكون لهم ولاية إطلاقاً، فالحاصل أنه قد يكون الذين رجعوا مع عبد الله بن أبي هم أهل النفاق بحيث تجمعوا من أشتات الجيش من الأوس، ومن الخزرج، ورجعوا معه دون أن يكون قائداً لهم، فالمقصود: أنه يحتمل هذا، ويحتمل هذا، فمثل ابن القيم يقول: ما كان معهم أحد من المنافقين أصلاً، فالمنافقون رجعوا، وبقي أهل الإيمان.
فإذاً مَن هؤلاء الذين يقولون مثل هذا الكلام عند هذا القائل كالحافظ ابن القيم - رحمه الله -؟ يقول: هم ضعفاء الإيمان، بينما كلام الحافظ ابن كثير هنا صريح في أنهم من المنافقين.
والمقصود أن الآية تحتمل هذا، وتحتمل هذا، فقد يصدر ذلك من بعض ضعفاء الإيمان، وقد يكون في المؤمن وصف من أوصاف الجاهلية كما هو معروف، فالنبي ﷺ قال لأبي ذر: إنك امرؤ فيك جاهلية[1] فقد يوجد عند بعض ضعفاء الإيمان مثل هذا الظن، إلا أن مجموع الأوصاف التي ذكرت في هذه الآيات تشعر بأن هؤلاء من المنافين كما سيأتي نحو قوله تعالى عنهم: يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا [سورة آل عمران:154].
"قال: والطائفة الأخرى المنافقون ليس لهم همٌّ إلا أنفسهم، أجبن قوم، وأرعنه، وأخذله للحق يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ [سورة آل عمران:154] أي: إنما هم كذبة، أهل شك وريب في الله ".

قوله: يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ [سورة آل عمران:154] يعني ما يظنه أهل الجاهلية ويعتقدونه من أنهم بالتوقي، والحذر، وعدم الخروج إلى مظان الموت - مواطن القتال أو نحو ذلك -؛ يدفعون عن أنفسهم الموت، فإذا حصل لهم مكروه جعلوا يتأسفون على هذا المصاب، ويقولون: لو لم نخرج في هذا الوجه، وفي هذا السفر، وفي هذا الغزو؛ لما حصل لنا كذا وكذا، هذا ظن الجاهلية، فهؤلاء شابهوهم في هذا الظن، وهؤلاء الذين قتلوا - أعني السبعين في يوم أحد - ماتوا بآجالهم، أي لو لم يخرجوا، ولو لم تكن معركة أحد، ولو لم يأت المشركون أصلاً؛ لمات هؤلاء جميعاً؛ لأن الموت شيء قد كتبه الله بأجل لا يتقدم عنه، ولا يتأخر، فليس المرض، ولا القتل ولا غير ذلك يدني الأجل، ولا الحذر يؤخره، وهذه الآيات وأمثالها جاءت لتعالج أدواء النفوس، وما يقع من وساوس الشيطان، كما جاءت لتشجع أهل الإيمان للجهاد في سبيل الله ، وأن ذلك لا يقرب آجالهم، كما أن التخاذل، والتراجع، وترك ما أمرهم الله به؛ لا يدفع عنهم شيئاً مما قدره الله - تبارك وتعالى -، وكتبه.
"يقول الله تعالى: ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنكُمْ [سورة آل عمران:154] يعني أهل الإيمان، واليقين، والثبات، والتوكل الصادق، وهم الجازمون بأن الله سينصر رسوله، وينجز له مأموله، ولهذا قال: وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ [سورة آل عمران:154] يعني لا يغشاهم النعاس من القلق، والجزع، والخوف يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ [سورة آل عمران:154] كما قال في الآية الأخرى: بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا [سورة الفتح:12] إلى آخر الآية، وهكذا هؤلاء اعتقدوا أن المشركين لما ظهروا تلك الساعة أنها الفيصلة، وأن الإسلام قد باد، وأهله، وهذا شأن أهل الريب والشك إذا حصل أمر من الأمور الفظيعة تحصل لهم هذه الظنون الشنيعة.
ثم أخبر تعالى عنهم أنهم يقولون في تلك الحال: هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ [سورة آل عمران:154] قال الله تعالى: قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ [سورة آل عمران:154]".

في هذا التساؤل: هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ [سورة آل عمران:154] يحتمل أن يكون المراد: هل لنا من أمر الله من النصر، والظفر، والظهور على العدو نصيب؟ وأقرب من هذا - والله تعالى أعلم - أن يكون المعنى: هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ أي: أنا خرجنا مكرهين أصلاً، قد سلبت إرادتنا فلم يكن لنا سبيل إلا التصرف والتوقي من مواطن الموت، فوقع بنا ما وقع، فهم يقولون هذا على سبيل التذمر، والإرجاف في الناس، وهذا من أسوأ ما يكون أي أن يقع بالناس أمر مكروه أو مصيبة، فيبدأ الضعفاء، ويبدأ أهل الإرجاف يتكلمون، ويلومون، ويغمزون القيادة، ويطعنون فيها، ولو كان هذا القائد نبياً من الأنبياء، ولو كان أفضل الأنبياء، فهم يتكلمون في أوقات الشدائد، وأوقات ضعف القبضة، والهزيمة وما أشبه ذلك من الأوضاع يظهرون قرونهم، وكما قال الله : فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ [سورة الأحزاب:19]، وأما في وقت الخوف نفسه فإن هؤلاء في حال ربما لا يستطيعون معها الكلام كما قال الله : يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ [سورة محمد:20] ولك أن تتصور كيف ينظر المغشي عليه من الموت، إنه لا يحرك إلا عينيه فقط، فهؤلاء من شدة الخوف يخاف أحدهم أن يلتفت من هنا فيصاب من هنا، فهو لا يستطيع أن يلتفت، قد تصلب عنقه، فهو فقط ينظر بعينيه يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ [سورة محمد:20] فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ [سورة الأحزاب:19] والسلق هو البسط، والمعنى أنهم يطعنون فيكم، وفي دينكم، وفي كتابكم، وفي ربكم، ويسمعونكم ما تكرهون، وهذا شيء منذ عهد النبي ﷺ إلى يومنا هذا، إذا وقعت المصائب، والآلام، والقضايا الكبار؛ ظهر أهل النفاق، وبدءوا يرجفون، ويطعنون، ويشككون كما هو مشاهد الآن.
"قال الله تعالى: قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَِ [سورة آل عمران:154] ثم فسر ما أخفوه في أنفسهم بقوله: يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا [سورة آل عمران:154] أي: يسرون هذه المقالة عن رسول الله ﷺ".

يلاحظ الآن أن الكلام يفسر بعضه بعضاً فقوله: يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ [سورة آل عمران:154] الأحسن أن تفسر - والله أعلم - بما ذكرت من أنهم يقولون: إنا خرجنا مكرهين، ولهذا قال بعده: إنهم يقولون: لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا [سورة آل عمران:154] فهم لا يعنون بقولهم: لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ يعني من أمر الله من النصر، والظفر، وإنما المعنى أنهم يقولون: نحن سلبت إرادتنا فأخرجنا من غير إرادة فوقع لنا مثل هذا المصاب، وإلا كُنَّا توقينا الموت، وأسبابه، وبقينا في المدينة.
"روى ابن إسحاق عن عبد الله بن الزبير - ا - قال: قال الزبير: لقد رأيتني مع رسول الله ﷺ حين اشتد الخوف علينا؛ أرسل الله علينا النوم، فما منَّا من رجل إلا ذقنه في صدره، قال: فوالله أني لأسمع قول معتب بن قشير ما أسمعه إلا كالحلم يقول: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا، فحفظتها منه".

معتب بن قشير محسوب على المنافقين على هذا، لكن مثل روايات ابن إسحاق هذه لا يبنى عليها حكم؛ لأنها مما يذكر في السير، والأخبار، وربما يتساهل، وإن كان إماماً في السير - رحمه الله - لكن مثل روايته عند المحدثين لا تكون من قبيل الصحيح، ففيه ضعف عند المحدثين، لأن السير يتساهل فيها، فإذا أردنا أن نبني حكماً، أو عقيدة أو نحو ذلك فمثل روايات ابن إسحاق لا يبنى عليها هذا، فالمقصود أنه لو ثبت هذا فمعتب بن قشير محسوب على المنافقين، فهذا يدل على أن المنافقين قد وجد بعضهم في غزوة أحد، ولم يرجع كلهم مع عبد الله بن أبي.
"وفي ذلك أنزل الله: يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا [سورة آل عمران:154] لقول معتب [رواه ابن أبي حاتم]".

إذا ثبت هذا بحيث كان له طريق آخر غير ابن إسحاق فمثل هذا يدل على أن المنافقين قد خرجوا فعلاً يوم أحد، وأن هذا من قول المنافقين، وكما ذكرت سابقاً تتبع الآيات يدل على أن هذه الأشياء إنما صدرت من المنافقين، وستأتي بعض الآيات التي تدل على هذا.
"قال الله تعالى: قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ [سورة آل عمران:154] أي: هذا قدر مقدر من الله ، وحكم حتم لازم، لا يحاد عنه، ولا مناص منه.
وقوله تعالى: وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ [سورة آل عمران:154] أي: يختبركم بما جرى عليكم ليميز الخبيث من الطيب، ويظهر أمر المؤمن، والمنافق؛ للناس في الأقوال، والأفعال.
وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [سورة آل عمران:154] أي بما يختلج في الصدور من السرائر، والضمائر".

قوله تعالى: وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ يعني يختبر ما فيها من الإيمان، والنفاق، فيتكشف الناس، وتظهر حقائق مكنونات نفوسهم بادية للعيان.
قوله: وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ: أي ينقيها، ويخلصها مما قد يشوبها من وساوس الشيطان، فيبقى أهل الإيمان في حال قد نقُّوا فيه، فيبقى إيمانهم الخالص، ويرتفع عنهم كل شائبة، وذلك بمثل هذه الشدائد التي يبتليهم الله بها، وهذا من فوائد هذه الوقعة، وما حصل فيها من الانكسار لأهل الإيمان، وابن القيم - رحمه الله - ذكر حكماً كثيرة جداً، ومنها هذه الأشياء التي ذكرها الله .
  1. أخرجه البخاري في كتاب الأدب - باب ما ينهى من السباب واللعن (5703) (ج 5 / ص 2248) ومسلم في كتاب الأيمان - باب إطعام المملوك مما يأكل وإلباسه مما يلبس ولا يكلفه ما يغلبه (1661) (ج 3 / ص 1282).

مرات الإستماع: 0

"أَمَنَةً نُعاساً قال ابن مسعود: "نعسنا يوم أحد، والنعاس في الحرب أمان"[1] [- وفي النسخة الخطية - أمنٌ من الله]".

قول ابن مسعود: "نعسنا يوم أحد، والنعاس" إلى آخره، ومثله ما ثبت عن أبي طلحة قال: " رفعتُ رأسي يوم أحد، فجعلت أنظر، وما منهم يومئذٍ أحد إلا يميد تحت حجفته من النعاس"[2] والحجفة: يعني الترس من الجلود، فذلك قوله: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا [آل عمران:154] وجاء في بعض ألفاظ حديث أبي طلحة: "كنتُ فيمن تغشاه النعاس يوم أحد، حتى سقط سيفي من يدي مرارًا، يسقط، وآخذه، ويسقط فآخذه"[3] فهو أيضًا أصابه النعاس، وقال هذا حتى لا يظن أحد: بأنه كان متيقظًا ما أصابه النعاس.

وفي قول ابن مسعود: "النعاس في الحرب أمان"[4] قيل: بمعنى الأمن، وقال ابن جرير[5] وابن كثير[6]: النعاس أَمَنَةً وهو في هذا الحال دليل الأمان؛ لأن الإنسان إذا كان آمن ينام، ويصيبه النعاس، وإذا كان في حالٍ من الخوف، كمن كان خائفًا من عدو يطارده، أو كان في مكان غير آمن، أو خائفًا من سبع، أو جالسًا في مكان في برية، يخاف على نفسه، أو يخاف على حريمه، فتجده ينتظر الصبح، ويتطاول عليه الليل، وهو أبعد ما يكون عن النوم، لكن إذا وقع عليه النعاس، وفي مكانٍ فيه خوف شديد، فهذا يدل على أمانٍ في نفسه، وطمأنينة، وسكينة.

ولهذا قالوا: النعاس في مقام الحرب، والخوف أمان، وبعض العلماء سُئل عن النعاس، والنوم في حال العلم، ومجالس العلم، ودروسه، فقال: كلامًا شديدًا، قال: ذلك حمارٌ في مسلاخ إنسان[7] يعني عكس هذا تمامًا.

أما في مقام الحرب أَمَنَةً نُعاساً فهو يدل على الأمان، والطمأنينة، والسكون؛ لأن القلب إذا امتلأ بالخوف ذهب النوم عنه، فكون الإنسان ينام قرير العين هذا لأنه آمن، ومن لم يجرب الخوف - نسأل الله العافية - لا يعرف قدر هذه النعمة، وانظر إلى الذين يعانون، ويكابدون أسباب الخوف، والحروب، بل حتى في بعض البلاد التي ليس فيها حروب، رأيتُ في ساعات متأخرة جموعًا من الرجال يجوبون الأحياء، فسألت: هؤلاء من؟ فقالوا: هؤلاء أهل كل حي ينتدبون منهم كل ليلة مجموعة، يجوبون الحي للحراسة، طول الليل إلى الفجر، فالنعمة التي يعيشها الإنسان، هذه لا تقدر بثمن.

وكم سمعتُ من أناس يسألون: عن صلاة الجمعة في البيوت، حيث لا يستطيعون الوصول إلى الجامع، يقول: يصلون الجمعة هم، ومن معهم في البيت، وبعض هؤلاء كبار في قومهم، يعني شيخ قبيلة، ونحو هذا، في بعض البلاد التي يعمها الفوضى، والخوف، يسأل: هل يصح صلاة الجمعة في بيته هو، ومن معه؟ - نسأل الله العافية -.

"يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ [آل عمران:154] هم المؤمنون المخلصون، غشيهم النعاس تأمينًا".

يغشى: يعني يغطي، ويستر طائِفَةً مِنْكُمْ هذا معنى غشيان الشيء؛ تغطيته، وستره، يغشى: يعني يقع عليهم النعاس، كما وقع في يوم بدر إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ [الأنفال:11].

"غشيهم النعاس تأمينًا لهم وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ [آل عمران:154] هم المنافقون، كانوا خائفين من أن يرجع إليهم أبو سفيان، والمشركون".

وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ قال: "هم المنافقون" وذكر الحافظ بن القيم - رحمه الله - أنه لم يكن معهم منافق في هذه الحال، يعني أن: المنافقين رجعوا مع عبد الله بن أُبي، حينما رجع بثلث الجيش، لكن هذا ليس محل اتفاق بين أهل العلم، وعلى هذا: فالذين أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ هم أناس من المؤمنين ضعفاء الإيمان. 

ولكن يشكل على قول ابن القيم - رحمه الله - حديث أنس عن أبي طلحة، وفيه: "والطائفة الأخرى: المنافقون، ليس لهم هم إلا أنفسهم، أجبن قوم، وأرعبه، وأخذله للحق"[8].

فقول الله : يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ يعني طائفةٌ من أهل الإيمان وَطَائِفَةٌ قال: الطائفة الأخرى هم المنافقون، وهذا أبو طلحة، وتفسير صحابي، وشاهد المعركة، وكان يحكي ما جرى من النعاس لأصحاب النبي ﷺ ، وله أيضًا، قال: "والطائفة الأخرى: هم المنافقون" فدل على أن بعض المنافقين كانوا موجودين في واقعة أحد - والله أعلم - ولا شك أن قول الصحابي الذي شهد المعركة أولى من قول غيره؛ ، ولذلك فإن كلام حافظ بن القيم - رحمه الله - فيه إشكال، يعني كون عبد الله بن أُبي رجع بثلث الجيش لا يعني أنه لم يبق منافق، وربما يكون هؤلاء الذين رجع بهم هم من قومه، ومن عشيرته، ومن قبيلته الخزرج، أو بعض بطون الخزرج، ربما يكون كذلك، لكن يوجد من المنافقين من غيرهم، لكن الوقعة التي لم يكن فيها أحد من المنافقين هي بدر، وفي بيعة الرضوان كذلك لم يبايع أحد إلا مؤمنين، ويذكرون في السيّر أنه كان معهم رجل من المنافقين، وأنه تشاغل بإصلاح رحله، ولم يبايع النبي ﷺ وهذا من الحرمان، وهو صاحب الجمل الأحمر[9].

"غَيْرَ الْحَقِّ [آل عمران:154] معناه: يظنون أن الإسلام ليس بحق، وأن الله لا ينصرهم - وفي النسخة الخطية - وأن الله لا ينصره".

يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ [آل عمران:154] يعني: يظنون أن دين الله مضمحل، وأن أتباعه منهزمون، كقوله تعالى: ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْء [الفتح:12] فهذه ظنون السوء، أنهم حينما يرون الصولة للعدو يكونون في غاية السوء في بواطنهم، وظنونهم الكاذبة، فـيَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يظنون الله يخذل أولياءه، وأن الأعداء ينتصرون، ويستأصلون المؤمنين، كما قال الله - تبارك، وتعالى - في واقعة الأحزاب: وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا [الأحزاب:12] أين الوعود؟ وعود كاذبة، وأعقبهم ذلك التخاذل، والرجوع وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ [الأحزاب:13] حتى الاسم نسوه، ورجعوا إلى الاسم الجاهلي، بمثل هذه الأوقات تظهر رعونات النفس.

وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ يعني معرضة للسُرَّاق، وليس عليها حراسة، وحماية وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا ۝ وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ [الأحزاب:13 - 14] يعني: المدينة مِنْ أَقْطَارِهَا من نواحيها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا أعطوها، يعني سُئلوا الكفر - على القول الراجح في تفسير الآية - لبذلوها، قال: وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا [الأحزاب:14] على التفسير المشهور يعني لا يحتاجون إلى كثيرٍ من التفكير، والتمهل، والتريث، هم مع من غلب، ينتكسون مباشرةً؛، ولهذا جاء في روايات في السيرة - كما ذكرت، وإن كانت قد لا تثبت من جهة الإسناد: أنه في يوم أُحد كان هناك من يقول: "ارجعوا إلى دين آبائكم فإن محمدًا قد قُتل"[10] فحينما يُوجد مثل هذا الصوت من قِبَلِ بعض المنافقين، والضعفاء!

وهؤلاء وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وفي قراءةً أخرى: (لَأتُوْهَا)[11] وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا [الأحزاب:14] فهذا ظن السوء - نسأل الله العافية -.

وابن القيم - رحمه الله - تكلم عن سوء الظن بالله - تبارك، وتعالى - بكلامٍ كثير، ذكر صورًا كثيرًة له، منها: هذا، وهو من ظن أن الله يخذل نبيه، وأولياءه، وحزبه، فقد ظن بالله ظن السوء[12] ومن ظن أن الكفار يدالون على المؤمنين إدالة مطلقة، فقد ظن بالله ظن السوء، ومن ظن أن الكفار يستأصلون أهل الإيمان، ونحو ذلك، فقد ظن بالله ظن السوء، إلى آخر ذلك من الظنون الكاذبة.

بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْء [الفتح:12] يعني أن الكفار سيستأصلونهم، فهذا من ظن السوء، ولذلك في أوقات الهزائم، وأوقات الضعف، وهو حينما يجلب الأعداء تجد أصواتًا نشازًا ترتفع بدعوة الناس إلى التخلي عن دينهم، ومبادئهم، وإيمانهم، وقد يكتفي بالتراجع هو، وترك ما هو عليه من الإيمان، والعمل، ويتنكر لذلك كله، ويعتقد أن هذا لا بقاء له - يعني الحق، وأهل الحق، والله ناصرٌ دينه، ومُعز أوليائه، لكن يمتحن الناس، والتاريخ طويل شاهدٌ بهذا.

"وظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ [آل عمران:154] بدلٌ، وهو على حذف موصوف، تقديره: ظن المدة الجاهلية، أو الفرقة الجاهلية".

الجاهلية: هي الحالة التي تكون مضافةً إلى الجهل، فهي حالة نفسية، وشعورية، وواقعية، بعيدة عن الله - تبارك، وتعالى - والاهتداء بهداه، هذه الجاهلية، وكل حالةٍ بعيدة عن هدى الله؛ حالة نفسية، أو شعورية، أو واقعية، أو اعتقادية فهي جاهلية.

وكل مجتمعٍ لا يهتدي بهدى الله فهو جاهلي، وقد يكون في الرجل الواحد خصلة من خصال الجاهلية، كما قال النبي ﷺ لأبي ذر: إنك امرؤٌ فيك جاهلية[13] يعني خصلة من خصال الجاهلية، فقد يكون في المؤمن خصلة من خصال الجاهلية.

لكن لا يصح أن يقال لعصرٍ بعد بعث النبي ﷺ بأنه العصر الجاهلي، يعني يقال: العصر الجاهلي لما قبل مبعث النبي ﷺ فهذا لا إشكال فيه وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى [الأحزاب:33] ولكن بعد بعث النبي ﷺ لا يقال: العصر الجاهلي، أو هذا العصر الجاهلي، أو نحو ذلك؛ لأن ذلك فيه ما فيه من الإزراء لبعث النبي ﷺ والنور الذي أشرقت به الدنيا هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ [الفتح:28] الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي [المائدة:3] فكيف يختزل هذا، ويقال: عصرٌ جاهلي؟ أو جاهلية القرن العشرين، أو نحو هذا، فهذا لا يجوز، وإنما يقال ذلك في بلدٍ معين، مثلًا: الجاهلية الغربية، ونحو ذلك، من بلاد الكفار، فهم أهل جاهلية بلا شك، وهي منسوبةٌ إلى الجهل، ويكفي إزراءً عليها نسبتها إلى الجهل، حيث يعتقدون أنهم أصحاب علم، وتقدم، وتطور، وحضارة، والواقع أنهم منغمسون في الجهل؛، ولهذا فهم عرفوا شيئًا من الدنيا، وفاتهم منها كثير، ولكنهم لم يعرفوا أهم المهمات، وأعظم المطالب، وهو معرفة الله، والإيمان به، وتوحيده، فهذا أعظم الأمور، وقد جهلوه؛، ولذلك فإن ذكر هؤلاء على سبيل التمثل بهم للمثل العليا، ونحو ذلك، كما يذكر أحيانًا عن اليابان، ونحو هذا، في مظاهر: من دقتهم، وتطورهم، وأخلاقهم، وأمانتهم، في رسائل يتداولها الناس، لا أرى هذا صحيحًا أبدًا، فليسوا بأهلٍ لأن يذكروا بمثل هذه المقامات على أنهم قدوة، فهؤلاء جهلوا أهم المطالب، وأعظم المعارف، لم يعرفوا الله، الذي خُلقوا من أجل عبادته مَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] وهم ما عرفوا هذا، ولا اقتربوا من معرفته.

"هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ [آل عمران:154] قالها عبد الله بن أبي بن سلول، والمعنى: ليس لنا رأي، ولا يسمع قولنا أو: لسنا على شيء من الأمر الحق، فيكون قولهم على هذا كفرًا".

هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ يعني: لم يكونوا يملكون شيئًا من قرار الخروج إلى القتال، فإذا كان المقصود: ابن أبُي، فابن أُبي لم يحضر المعركة، رجع من الطريق كما هو معروف، فيكون قالها قبل ذلك - يعني حينما أراد أن يرجع - أنه أطاع هؤلاء الشباب المندفعين، الذين أرادوا الخروج، فكان ابن أُبي يرى البقاء في المدينة، وألا يخرج النبي ﷺ للمشركين، فخرج النبي ﷺ مع أن رأيه ﷺ كان البقاء في المدينة، لكن الذين كانوا يرون الخروج هم الذين لم يشهدوا بدرًا في الغالب، وكانوا يتحرّقون على لقاء العدو، وأرادوا الخروج، فلما رأوا أنهم قد حملوا النبي ﷺ على شيءٍ لم يرغب فيه، وكان قد لبس لأمته، فقالوا للنبي ﷺ كأننا أكرهناك على الخروج، فقال: إنه ليس لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل[14] أو ما ينبغي لنبي أن يضع أداته بعد أن لبسها حتى يحكم الله بينه، وبين عدوه[15] ولأمته المقصود بها: لباس القتال من السلاح بأنواعه؛ من الدرع، ونحو ذلك، مما يلبسه المقاتل.

وبعضهم يقول: هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ أي: من أمر الله - تبارك، وتعالى - وهو النصر، والظهور على العدو.

وبعضهم يقول: هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ يعني: ما بأيدينا شيء؛ لأننا خرجنا مكرهين أصلًا، وهذا يحتمل أن يكون في بعض الذين خرجوا، وهم طائفة منهم.

قال: وَطَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ [آل عمران:154] فطائفة يغشاها النعاس، وطائفة لم تكن كذلك؛، وهم أهل النفاق، وهم جالسون يتحرقون، ويتلاومون، وكان هذا القلق، والتشكي في وقت المصيبة، يعني يقولون: أخرجنا مكرهين لم نكن بإرادتنا.

فظاهر السياق أن هذا في قومٍ قد خرجوا، يعني من قال: بأن عبد الله بن أُبي، فعبد الله بن أُبي رجع لم يكن في المعركة، وهذا في الطائفة التي أهمتها أنفسها؛ لأن الكلام متصل هنا وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ إذًا كانوا معهم في المعركة، فهذا يحتمل على كل حال - والله أعلم -.

"يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ [آل عمران:154] يحتمل أن يريد الأقوال التي قالوها، أو الكفر".

المعنى الأخير الذي ذكره ابن جزي: "أو لسنا على شيءٍ من الأمر الحق" لكن هذا بعيد، وابن كثير - رحمه الله - فسره بما بعده: يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا يعني هذه المقالة التي أخفوها.

"لوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ قاله معتب بن قشير[16] ويحتمل من المعنى ما احتمل قول عبد الله بن أبي".

"لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قاله معتب بن قشير"، وهذا جاء بإسنادٍ حسن، من حديث الزبير [17].

قال: "ويحتمل من المعنى ما احتمل قول عبد الله بن أبي" يعني أنه لم يؤخذ برأينا، ولو أطاعنا ما خرج إلى أُحد.

وبعضهم يقول: يظنون أنهم يدفعون بذلك القدر لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا يعني: ظن أهل الجاهلية: لو أنه أطاعهم فما خرجوا ما حصل القتل، هذه (لو) التي قال النبي ﷺ تفتح عمل الشيطان[18].

يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا يدفعون بذلك قدر الله، وهذا لا يمكن قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ فالإنسان سيموت في اللحظة الذي قُدرت له، فلا الحرب يقرب الأجل، ولا السلم يبعده، ولا المرض يقرب الأجل، ولا الصحة المتناهية تؤخره، ولا ركوب الأخطار يقرب الأجل، ولا الحذر الشديد يباعده، وليس معنى ذلك أن الإنسان يفرط في الأسباب، عليه أن يحتاط، ويعمل الأسباب كما أُمر، فقد تكون سلامته مرتبة على هذه الأسباب بقدر الله تعالى، كما أنه يدعو ربه - تبارك، وتعالى - ويتعاطى أسباب السلامة، ولا يتصرف تصرفات من شأنها أن توقع الإنسان بقدر الله  جعلها الله أسبابًا للمكروه، ويقول: كل شيءٍ بقدر الله  فيتصرف تصرفات يكون فيها مفرطًا، فهذا لا يجوز، وإنما يفعل الأسباب، سواءً كان ذلك في مزاولاته، من جهة المخاطرة في سيره، ومشيه، وركوبه، ونحو ذلك، أو كان في غير هذا من الأمور التي يدفع بها الحر، والبرد، وكذلك مدافعة المرض، ونحو هذا، فهو يبذل الأسباب، لكن يتوكل على الله - تبارك، وتعالى، والأجل مقدر من الله

في هذه المقاطع التي يشاهدها الناس، ويتبادلونها أشياء عجيبة، يعني كيف يسلم إنسان أحيانًا بين سيارتين، يقع بينهما صدام، وبينهم إنسان، ويسلم، ويخرج من بين السيارتين، وهو يمشي على قدميه سالمًا، أو تأتي سيارة، وتصدم في مكان يكون قد تحرك خطوات، قبل أن تصل إليه، ومناظر، ومشاهد عجيبة في هذا، كلها تصور هذا المعنى، وأن قدر الله - تبارك، وتعالى - نافذ، فمن كُتبت له السلامة فلو كان في رأس الأسباب الموجبة للخطر، فإنه يسلم، وإن كان قد كُتب عليه غير ذلك فلو كان في غاية المأمن، فأنه يصيبه قدر الله .

"قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ [آل عمران:154] الآية: ردٌ عليهم، وإعلامٌ بأن أجل كل إنسان إنما هو واحد، وأن من لم يقتل يموت لأجله، ولا يؤخر، وأن من كتب عليه القتل لا ينجيه منه شيء وَلِيَبْتَلِيَ [آل عمران:154] يتعلق بفعل تقديره: فعل بكم ذلك ليبتلي".

الحافظ ابن القيم - رحمه الله - يقول: لِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ هو اختبار ما فيها من الإيمان، والنفاق، بما فعل بكم في يوم أُحد، من القتل، والهزيمة، والجراح، ونحو ذلك، فهذا ابتلاء من الله - تبارك، وتعالى - يحصل به التمحيص؛ لأنه لو أدالهم إدالة دائمة، ونصرهم نصرًا دائمًا، فإنه لا يتميز المنافق من المؤمن، وضعيف الإيمان، بل سيهرول إليهم كل أحد، لكن حينما يقع مثل هذه الشدائد، فإنه يثبت أهل الإيمان، ويتساقط من يتساقط، وهؤلاء الذين يتساقطون، ويرجعون على أدبارهم، وأعقابهم، كما قال الله : لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا [آل عمران:176] هم يضرون أنفسهم فقط، فلا يؤسف على هؤلاء؛ لأنه لو علم الله فيهم خيرًا لبقوا، وثبتوا، وثبتهم، وكما قال فيمن قعد عن غزوة العسرة، تبوك: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ [التوبة:47] فهذا حالهم، ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم - والله المستعان -. 

  1.  تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (1/527).
  2.  أخرجه الترمذي ت شاكر في أبواب تفسير القرآن، باب، ومن سورة آل عمران برقم: (3007)، وصححه الألباني، وانظر: تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (6/162).
  3.  أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ ... [آل عمران:154] برقم: (4068).
  4.  سبق تخريجه.
  5.  تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (6/163).
  6. تفسير ابن كثير ت سلامة (4/23).
  7.  البيان، والتبيين (1/154).
  8.  أخرجه الترمذي ت شاكر في أبواب تفسير القرآن، باب، ومن سورة آل عمران برقم: (3008)، وقال الألباني: "صحيح دون قوله: والطائفة الأخرى".
  9.  أخرجه الترمذي ت شاكر في أبواب المناقب، باب فيمن سب أصحاب النبي ﷺ برقم: (3863) عن جابر عن النبي ﷺ قال: ليدخلن الجنة من بايع تحت الشجرة إلا صاحب الجمل الأحمر وقال الترمذي: "هذا حديث غريب"، وضعفه الألباني.
  10.  التفسير الوسيط للواحدي (1/502)، وفتح القدير للشوكاني (1/445).
  11.  تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (19/46).
  12.  زاد المعاد (2/103 - 106)، وقد بسط القول في ذلك أيضاً في إغاثة اللهفان.
  13.  أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب المعاصي من أمر الجاهلية، ولا يكفر صاحبها بارتكابها إلا بالشرك برقم: (30)، ومسلم في الإيمان، والنذور، باب إطعام المملوك مما يأكل برقم: (1661).
  14.  أخرجه أحمد ط الرسالة (23/99 - 14787)، وقال محققو المسند: "صحيح لغيره".
  15.  أخرجه البيهقي في السنن الكبرى برقم: (13282).
  16.  تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (6/167).
  17.  المصدر السابق (6/168).
  18.  أخرجه مسلم في كتاب القدر، باب في الأمر بالقوة، وترك العجز، والاستعانة بالله، وتفويض المقادير لله برقم: (2664).