"يقول تعالى ممتناً على عباده فيما أنزل عليهم من السكينة، والأمَنة وهو النعاس الذي غشيهم، وهم مستلئموا السلاح في حال همهم، وغمهم، والنعاس في مثل تلك الحال دليل على الأمان، كما قال تعالى في سورة الأنفال في قصة بدر: إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ الآية [سورة الأنفال:11]".
فقوله - تبارك وتعالى - هنا: ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا [سورة آل عمران:154-155] الأمنة هنا مفسرة بالآية وهي النعاس، ولذلك قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله - هنا: هي النعاس, وهكذا قال ابن جرير وطوائف من المفسرين، وبعضهم فسر الأمنة هنا بمعنى الأمن، وهذان المعنيان لا منافاة بينهما؛ لأن النعاس إنما ينزل إذا وجدت أسباب الخوف مع الأمن إذا وجد في النفوس، يعني إذا شعرت النفوس بالأمن فإنه يحصل النعاس، وإذا وجد الخوف المزعج من غير شعور بالأمن في النفوس فإن ذلك الخوف يقلقها فيطير عنها النوم فلا تجد للنوم محلاً، فالمقصود أن منهم من فسر الأمنة بالأمن، ومنهم من فرق بين الأمن والأمنة فقال: الأمنة هي الأمن مع وجود أسباب الخوف، أما الأمن مع غير وجود أسباب الخوف مثل أمن الناس الآن فهذا يقال له أمن، وسواء قيل هذا أو قيل هو النعاس فكل ذلك يرجع إلى شيء واحد؛ لأن النعاس لا ينزل مع وجود أسباب الخوف إلا بوجود الأمن.
وقوله تعالى: أَمَنَةً نُّعَاسًا [سورة آل عمران:154] نعاساً هنا تفسير لهذه الأمنة، والله أعلم.
وقول المصنف: وهم مستلئموا السلاح يعني قد لبسوه.
وقد رواه الترمذي والنسائي والحاكم عن أنس عن أبي طلحة قال: رفعت رأسي يوم أحد وجعلت أنظر؛ وما منهم يومئذ أحد إلا يميد تحت حَجَفَته من النعاس [لفظ الترمذي وقال: حسن صحيح].
ورواه النسائي أيضاً عن أنس قال: قال أبو طلحة: كنت فيمن ألقي عليه النعاس الحديث، قال: "والطائفة الأخرى المنافقون ليس لهم همٌّ إلا أنفسهم، أجبن قوم، وأرعنه، وأخذله للحق".
في قوله: وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ [سورة آل عمران:154] هل هؤلاء هم أهل النفاق أو أنهم من ضعفاء الإيمان, كما قال الله : إِذْ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ [سورة آل عمران:122]؟ فقد يوجد مثل هذا الضعف بين المؤمنين، وكما في قوله تعالى في سورة الأحزاب: وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ [سورة الأحزاب:12] إذا قيل - على أحد الوجوه في التفسير -: إن قوله: وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ [سورة الأنفال:49] هو من باب عطف المغايرة بمعنى أنهم طائفة أخرى غير المنافقين، وهذا مع أن طوائف من أهل العلم يقولون: إن هذا من باب عطف الصفات والموصوف واحد، فالمنافقون: هم الذين في قلوبهم مرض وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ [سورة الأحزاب:12] كما قال الله : سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى [سورة الأعلى:1-3] فإن الأوصاف تتابع، تارة مع ذكر حرف العطف، وتارة بحذفه، والآية في سورة الأحزاب وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ [سورة الأحزاب:12] تحتمل المعنيين، فيمكن أن يكونوا ضعفاء الإيمان، ويمكن أن يكون المراد بهم أهل النفاق.
والمقصود هنا أن مثل الحافظ ابن القيم - رحمه الله - يقول: لم يكن معهم في يوم أُحدٍ أَحدٌ من المنافين؛ وذلك أن عبد الله بن أبي رجع بثلث الجيش، وهؤلاء الذين رجع بهم فيهم أهل نفاق وهو رئيس المنافقين، ولكن الجيش في ذلك الحين كان يقسم على تقسيم بحيث يكون مبعضاً ربما بحسب القبائل، والبطون، والعشائر، فالخزرج لهم لواء، والأوس لهم لواء، والمهاجرون لهم لواء، وربما قسم إلى أكثر من هذا كما في يوم القادسية حيث كانت كل قبيلة تقف بمفردها، حتى إن قبيلة بجيلة تفرقت في الحروب التي وقعت لها، ثم لما أسلموا تفرقوا في الجهاد، وكادت القبيلة أن تضمحل؛ فعمد جرير البجلي إلى جمعهم، وكلم النبي ﷺ، ثم كلم أبا بكر بعد ما أخذ كتاباً من رسول الله ﷺ بجمع القبيلة، ثم بعد ذلك جمعوا له فكانوا من أحسن من قاتل في يوم القادسية، وفيه يقول الشاعر:
لولا جرير ذهبت بجيلة | نعم الفتى وبئست القبيلة |
فإذاً مَن هؤلاء الذين يقولون مثل هذا الكلام عند هذا القائل كالحافظ ابن القيم - رحمه الله -؟ يقول: هم ضعفاء الإيمان، بينما كلام الحافظ ابن كثير هنا صريح في أنهم من المنافقين.
والمقصود أن الآية تحتمل هذا، وتحتمل هذا، فقد يصدر ذلك من بعض ضعفاء الإيمان، وقد يكون في المؤمن وصف من أوصاف الجاهلية كما هو معروف، فالنبي ﷺ قال لأبي ذر: إنك امرؤ فيك جاهلية[1] فقد يوجد عند بعض ضعفاء الإيمان مثل هذا الظن، إلا أن مجموع الأوصاف التي ذكرت في هذه الآيات تشعر بأن هؤلاء من المنافين كما سيأتي نحو قوله تعالى عنهم: يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا [سورة آل عمران:154].
قوله: يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ [سورة آل عمران:154] يعني ما يظنه أهل الجاهلية ويعتقدونه من أنهم بالتوقي، والحذر، وعدم الخروج إلى مظان الموت - مواطن القتال أو نحو ذلك -؛ يدفعون عن أنفسهم الموت، فإذا حصل لهم مكروه جعلوا يتأسفون على هذا المصاب، ويقولون: لو لم نخرج في هذا الوجه، وفي هذا السفر، وفي هذا الغزو؛ لما حصل لنا كذا وكذا، هذا ظن الجاهلية، فهؤلاء شابهوهم في هذا الظن، وهؤلاء الذين قتلوا - أعني السبعين في يوم أحد - ماتوا بآجالهم، أي لو لم يخرجوا، ولو لم تكن معركة أحد، ولو لم يأت المشركون أصلاً؛ لمات هؤلاء جميعاً؛ لأن الموت شيء قد كتبه الله بأجل لا يتقدم عنه، ولا يتأخر، فليس المرض، ولا القتل ولا غير ذلك يدني الأجل، ولا الحذر يؤخره، وهذه الآيات وأمثالها جاءت لتعالج أدواء النفوس، وما يقع من وساوس الشيطان، كما جاءت لتشجع أهل الإيمان للجهاد في سبيل الله ، وأن ذلك لا يقرب آجالهم، كما أن التخاذل، والتراجع، وترك ما أمرهم الله به؛ لا يدفع عنهم شيئاً مما قدره الله - تبارك وتعالى -، وكتبه.
ثم أخبر تعالى عنهم أنهم يقولون في تلك الحال: هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ [سورة آل عمران:154] قال الله تعالى: قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ [سورة آل عمران:154]".
في هذا التساؤل: هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ [سورة آل عمران:154] يحتمل أن يكون المراد: هل لنا من أمر الله من النصر، والظفر، والظهور على العدو نصيب؟ وأقرب من هذا - والله تعالى أعلم - أن يكون المعنى: هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ أي: أنا خرجنا مكرهين أصلاً، قد سلبت إرادتنا فلم يكن لنا سبيل إلا التصرف والتوقي من مواطن الموت، فوقع بنا ما وقع، فهم يقولون هذا على سبيل التذمر، والإرجاف في الناس، وهذا من أسوأ ما يكون أي أن يقع بالناس أمر مكروه أو مصيبة، فيبدأ الضعفاء، ويبدأ أهل الإرجاف يتكلمون، ويلومون، ويغمزون القيادة، ويطعنون فيها، ولو كان هذا القائد نبياً من الأنبياء، ولو كان أفضل الأنبياء، فهم يتكلمون في أوقات الشدائد، وأوقات ضعف القبضة، والهزيمة وما أشبه ذلك من الأوضاع يظهرون قرونهم، وكما قال الله : فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ [سورة الأحزاب:19]، وأما في وقت الخوف نفسه فإن هؤلاء في حال ربما لا يستطيعون معها الكلام كما قال الله : يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ [سورة محمد:20] ولك أن تتصور كيف ينظر المغشي عليه من الموت، إنه لا يحرك إلا عينيه فقط، فهؤلاء من شدة الخوف يخاف أحدهم أن يلتفت من هنا فيصاب من هنا، فهو لا يستطيع أن يلتفت، قد تصلب عنقه، فهو فقط ينظر بعينيه يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ [سورة محمد:20] فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ [سورة الأحزاب:19] والسلق هو البسط، والمعنى أنهم يطعنون فيكم، وفي دينكم، وفي كتابكم، وفي ربكم، ويسمعونكم ما تكرهون، وهذا شيء منذ عهد النبي ﷺ إلى يومنا هذا، إذا وقعت المصائب، والآلام، والقضايا الكبار؛ ظهر أهل النفاق، وبدءوا يرجفون، ويطعنون، ويشككون كما هو مشاهد الآن.
يلاحظ الآن أن الكلام يفسر بعضه بعضاً فقوله: يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ [سورة آل عمران:154] الأحسن أن تفسر - والله أعلم - بما ذكرت من أنهم يقولون: إنا خرجنا مكرهين، ولهذا قال بعده: إنهم يقولون: لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا [سورة آل عمران:154] فهم لا يعنون بقولهم: لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ يعني من أمر الله من النصر، والظفر، وإنما المعنى أنهم يقولون: نحن سلبت إرادتنا فأخرجنا من غير إرادة فوقع لنا مثل هذا المصاب، وإلا كُنَّا توقينا الموت، وأسبابه، وبقينا في المدينة.
معتب بن قشير محسوب على المنافقين على هذا، لكن مثل روايات ابن إسحاق هذه لا يبنى عليها حكم؛ لأنها مما يذكر في السير، والأخبار، وربما يتساهل، وإن كان إماماً في السير - رحمه الله - لكن مثل روايته عند المحدثين لا تكون من قبيل الصحيح، ففيه ضعف عند المحدثين، لأن السير يتساهل فيها، فإذا أردنا أن نبني حكماً، أو عقيدة أو نحو ذلك فمثل روايات ابن إسحاق لا يبنى عليها هذا، فالمقصود أنه لو ثبت هذا فمعتب بن قشير محسوب على المنافقين، فهذا يدل على أن المنافقين قد وجد بعضهم في غزوة أحد، ولم يرجع كلهم مع عبد الله بن أبي.
إذا ثبت هذا بحيث كان له طريق آخر غير ابن إسحاق فمثل هذا يدل على أن المنافقين قد خرجوا فعلاً يوم أحد، وأن هذا من قول المنافقين، وكما ذكرت سابقاً تتبع الآيات يدل على أن هذه الأشياء إنما صدرت من المنافقين، وستأتي بعض الآيات التي تدل على هذا.
وقوله تعالى: وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ [سورة آل عمران:154] أي: يختبركم بما جرى عليكم ليميز الخبيث من الطيب، ويظهر أمر المؤمن، والمنافق؛ للناس في الأقوال، والأفعال.
وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [سورة آل عمران:154] أي بما يختلج في الصدور من السرائر، والضمائر".
قوله تعالى: وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ يعني يختبر ما فيها من الإيمان، والنفاق، فيتكشف الناس، وتظهر حقائق مكنونات نفوسهم بادية للعيان.
قوله: وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ: أي ينقيها، ويخلصها مما قد يشوبها من وساوس الشيطان، فيبقى أهل الإيمان في حال قد نقُّوا فيه، فيبقى إيمانهم الخالص، ويرتفع عنهم كل شائبة، وذلك بمثل هذه الشدائد التي يبتليهم الله بها، وهذا من فوائد هذه الوقعة، وما حصل فيها من الانكسار لأهل الإيمان، وابن القيم - رحمه الله - ذكر حكماً كثيرة جداً، ومنها هذه الأشياء التي ذكرها الله .
- أخرجه البخاري في كتاب الأدب - باب ما ينهى من السباب واللعن (5703) (ج 5 / ص 2248) ومسلم في كتاب الأيمان - باب إطعام المملوك مما يأكل وإلباسه مما يلبس ولا يكلفه ما يغلبه (1661) (ج 3 / ص 1282).