على كلام ابن كثير - رحمه الله - هنا: أي: صرفكم عنهم إذ تصعدون في الجبل هاربين من أعدائكم، يكون قوله: إِذْ تُصْعِدُونَ [سورة آل عمران:153] متعلق بما قبله من قوله: ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ [سورة آل عمران:152] أي ثم صرفكم عنهم إذ تصعدون ممعنين في الهرب.
هذا توجيه كلام الحافظ ابن كثير - رحمه الله - وهو بهذا يخالف اختيار ابن جرير - رحمه الله - لأن ابن جرير يرى أن ذلك يتعلق بقوله: وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ [سورة آل عمران:152] ويكون معنى الكلام عند ابن جرير: ولقد عفا الله عنكم إذ لم يستأصلكم، إذ تصعدون مولين، مدبرين، منهزمين أي: تُمعنون في الهرب لا تلوون على شيء.
وبعض أهل العلم يقول: إنه يتعلق بقوله: لِيَبْتَلِيَكُمْ [سورة آل عمران:152] يعني ثم صرفكم عنهم ليبتليكم إذ تصعدون، وهذا فيه بعد، فالآية إنما تحتمل المعنيين الأوليْن احتمالاً قريباً.
بعض أهل العلم يفرق بين الإصعاد والصعود، فالصعود: هو العلو، والارتفاع، والإصعاد المقصود به الإمعان في الهرب، أو الانطلاق، أو المشي أو نحو ذلك وليس الصعود، فالإصعاد هو الإمعان في السير في الأرض، والصعود هو الارتفاع، ففرق بين الإصعاد وبين الصعود عند كثير من أهل العلم، ولذلك يقال: التصعيد والمقصود بالتصعيد الذهاب إلى عرفة، والذهاب إلى عرفة ليس فيه ارتفاع، ولذلك يقال له: إصعاد، وتصعيد، ويُقال: فلان أصعد أي انطلق وسار، فهذا هو المعنى والله تعالى أعلم.
قوله: وَلاَ تَلْوُونَ يعني لا تعرِّجون، بمعنى أنه: لا يلتفت إلى أحد، فهو ممعن في الهرب، والانطلاق، لا يعرج على أحد.
قال السدي: لما شد المشركون على المسلمين بأحد فهزموهم دخل بعضهم المدينة، وانطلق بعضهم فوق الجبل إلى الصخرة فقاموا عليها، وجعل الرسول ﷺ يدعو الناس: إليَّ عباد الله، إليَّ عباد الله، فذكر الله صعودهم على الجبل، ثم ذكر دعاء النبي ﷺ إياهم فقال: إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ [سورة آل عمران:153] وكذا قال ابن عباس - ا - وقتادة، والربيع، وابن زيد.
وقد روى البخاري عن قيس ابن أبي حازم قال: رأيت يد طلحة شلاء وقى بها النبي ﷺ يعني يوم أحد[1].
وفي الصحيحين عن أبي عثمان النهدي قال: لم يبق مع رسول الله ﷺ في بعض تلك الأيام التي قاتل فيهن رسول الله ﷺ غير طلحة بن عبيد الله، وسعد، عن حديثهما[2].
وقال سعيد بن المسيب: سمعت سعد بن أبي وقاص يقول: "نَثَلَ لي رسول الله ﷺ كنانته يوم أحد، وقال: ارمِ فداك أبي وأمي، وأخرجه البخاري[3].
وثبت في الصحيحين عن سعد بن أبي وقاص أيضاً قال: "رأيت يوم أحد عن يمين النبي ﷺ وعن يساره رجلين عليهما ثياب بيض يقاتلان عنه أشد القتال، وما رأيتهما قبل ذلك اليوم، ولا بعده"[4] يعني جبريل وميكائيل عليهما السلام".
هذا أخذ منه بعض العلماء مثل الإمام النووي - رحمه الله -: أن الملائكة قاتلت يوم أحد، وسبق الكلام على هذا، ومثل هذا الحديث لا يدل بالضرورة على أن الملائكة قاتلت في يوم أحد؛ لأن هذا قد يكون قتالاً خاصاً، وذلك في الدفاع عن النبي ﷺ، ودفع المشركين عنه فحسب.
والذين يقولون: إنهم لم يقاتلوا في يوم أحد - وهم كثير من أهل العلم إن لم يكن أكثر أهل العلم - يقولون في هذا ونحوه: "لو قاتلت الملائكة يوم أحد ما انهزموا، إذ كيف ينهزمون والملائكة تقاتل معهم؟! فالله خلى بينهم وبين عدوهم".
والمدد من الملائكة الذين بلغوا ثلاثة آلاف، وكذلك الخمسة الآلاف؛ ذكرنا أن الأقرب أنهم إنما كانوا يوم بدر، وأن المتيقن أنه نزل منهم ألف، وأما الثلاثة والخمسة الآلاف فسبق الخلاف فيه بناء على قوله: وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم [سورة آل عمران:125] هل المقصود به المدد الذي يأتي من كرز الذي وعد المشركين فلم يأت هذا المدد؟ وبالتالي لم ينزل مدد السماء زيادة على الألف.
وقد ثبت في الصحيحين عن سهل بن سعد أنه سئل عن جرح رسول الله ﷺ فقال: جرح وجه رسول الله ﷺ، وكسرت رباعيته، وهشمت البيضة على رأسه، فكانت فاطمة بنت رسول الله ﷺ تغسل الدم، وكان عليٌّ يسكب عليها بالمجن، فلما رأت فاطمة أن الماء لا يزيد الدم إلا كثرة أخذت قطعة حصير فأحرقته حتى إذا صار رماداً ألصقته بالجرح؛ فاستمسك الدم.
وقوله تعالى: فَأَثَابَكُمْ غُمَّاً بِغَمٍّ [سورة آل عمران:153] أي: فجازاكم غماً على غم، كما تقول العرب: نزلت ببني فلان، ونزلت على بني فلان، وقال ابن جرير: وكذا قوله: وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ [سورة طه:71] أي: على جذوع النخل.
قال ابن عباس: "الغم الأول بسبب الهزيمة، وحين قيل: قتل محمد ﷺ، والثاني: حين علاهم المشركون فوق الجبل، وقال النبي ﷺ: اللهم ليس لهم أن يعلونا[6]".
وعن عبد الرحمن بن عوف قال: "الغم الأول بسبب الهزيمة، والثاني: حين قيل: قتل محمد ﷺ كان ذلك عندهم أعظم من الهزيمة" [رواهما ابن مردويه].
وقال مجاهد وقتادة: "الغم الأول: سماعهم قتل محمد، والثاني ما أصابهم من القتل والجراح، وعن قتادة والربيع بن أنس عكسه، وعن السدي: "الأول: ما فاتهم من الظفر والغنيمة، والثاني: إشراف العدو عليهم"".
فَأَثَابَكُمْ غُمَّاً [سورة آل عمران:153] تقول: غمه بمعنى غطاه، وذلك والله أعلم أن الحزن الشديد يقال له ذلك لأنه يغطي عقل الإنسان، أي يغم عليه بحيث إن الإنسان يصير إلى حال لا يكاد ينتفع به معها من شدة ما نزل به من الحزن، والمصيبة.
وقوله هنا: فَأَثَابَكُمْ يمكن أن يفسر بجازاكم كما مشى عليه كثير من المفسرين، ولا يلزم من ذلك ما يتبادر من لفظ الإثابة هنا من أنه الجزاء الحسن، وإنما يمكن أن يفسر بمطلق الجزاء، وهذا مشى عليه كثير من المفسرين، فإذا فسر بهذا فلا إشكال.
وفي قوله: فَأَثَابَكُمْ غُمَّاً بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ [سورة آل عمران:153] من أهل العلم من قال: إن هذا الغم الذي فاتهم هو النصر الذي رأوه في أول الأمر، وما فاتهم من الغنيمة، والذي أصابهم هو الهزيمة والقتل، إذاً فالغم الذي أثابهم الله به بعض أهل العلم يقول: صرفكم عنهم بسبب ما تسببتم من غم رسول الله ﷺ أن أنزل بكم غماً جزاء وفاقاً، أي أنه صرفكم عنهم، وحصل لكم ما حصل من الهزيمة بسبب ما تسببتم لرسول الله ﷺ، وهذا فيه بعد، وضعفه جمع من أهل العلم منهم الحافظ ابن القيم.
والأقوال التي ذكرها هنا إذا تأملتها تجد أنه يقول: "قال ابن عباس: الغم الأول: بسبب الهزيمة وحين قيل قتل محمد، والثاني: حين علاهم المشركون فوق الجبل".
وذكر عن عبد الرحمن بن عوف: "الغم الأول بسبب الهزيمة، والثاني حينما قيل: قتل محمد ﷺ" وهذا أحسن من الذي قبله، وهذا الذي اختاره ابن جرير، وابن القيم، وبعض المعاصرين يقول: إن هذا بمثابة المعالجة لما وقع لهم من الحزن، وذلك أنه أصابهم غم شديد بسبب ما فاتهم من النصر، وتحوُّل موازين المعركة ،وبسبب ما وقع لهم من القتل والجراح، فأشيع أن محمداً ﷺ قد قتل، فأصابهم غم أعظم من الغم الأول، وأذهلهم ذلك، فأحياناً تقع للإنسان مصيبة ينشغل بها، فتأتيه مصيبة أكبر فتنسيه المصيبة الأولى، وهذا شيء مشاهد، فالإنسان قد يعاني من ألم، أو صداع؛ فيقع شيء عظيم آخر فينسى ما كان فيه.
وهكذا قد تقع بالناس فاجعة عامة ثم تقع أخرى أشد منها فينسون الأولى، وينشغلون بالثانية، وهذا شيء مشاهد، فالحاصل أنه تكشف الأمر أن النبي ﷺ لم يقتل فكان ذلك علاجاً للغم الحقيقي الذي أصابهم أي المصيبة الحقيقية.
وتجد في بعض الكتب مثل تفسير ابن عاشور ما يشير إلى هذا وإن لم يصرح به، لكنه قال: إنه دفع الأول بشيء يسير - وهو ليس يسيراً في الحقيقة لو قتل النبي ﷺ لكن لأنه تبين أنه لا حقيقة له اعتبر يسيراً والله أعلم -، فالمقصود أن إشاعة مقتل النبي - عليه الصلاة والسلام - كانت دفعاً للغم الحقيقي، والحزن الذي أصابهم بسبب الهزيمة، والقتل، والجراح.
ثم ذكر ابن كثير قولاً آخر فقال: "وقال مجاهد وقتادة: الغم الأول: سماعهم قتل محمد، والثاني ما أصابهم من القتل، والجراح" وهذا القول كأنه نظر إلى قوله تعالى: لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ [سورة آل عمران:153] ففاتهم النصر، وأصابتهم الهزيمة، فقال: الغم الأول هو ما أشيع من قتله - عليه الصلاة والسلام -، والثاني ما وقع لهم من القتل، والجراح.
وبعضهم عكسه؛ لأن الجراح وقعت لهم أولاً، ثم أشيع أن النبي ﷺ قد قتل، وهذا أكثر ملاءمة من الذي قبله، أعني القول بأن ذلك منعكس.
وذكر عن السدي أنه قال: الأول ما فاتهم من الظفر، والهزيمة، والغنيمة، والثاني: إشراف العدو عليهم، وهذا مثل القول الأول - قول ابن عباس - الغم الأول بسبب الهزيمة، وحين قتل محمد ﷺ، والحقيقة أن الهزيمة وما فاتهم متلازمان.
ثم إن دعوى الزيادة الأصل خلافها، وهذا طبعاً إذا تنزلنا بقول: إن "لا" زائدة، فلا يليق أن يعبر بالزيادة في القرآن؛ لأن القرآن ليس فيه شيء زائد، ولذلك نجد مثل الزركشي في كتاب البحر المحيط في أصول الفقه ذكر هذا في موضعين، وذكره في البرهان أيضاً في علوم القرآن، والعلماء عادة يعبرون عن مثل هذا بعبارات أخرى أكثر تلطفاً فيقولون: "لا" صلة، وهم على كل حال يقصدون أنها زائدة إعراباً لا زائدة في المعنى، وإنما يقولون: هذا يفيد التوكيد مثلاً أو نحو ذلك، وإلا فكما قال في المراقي:
تواتر السبع عليه أجمعوا | ولم يكن في الوحي حشو يقعُ |
والخلاصة أن الذي يظهر هو أن "لا" في قوله: لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ ليست زائدة، وإنما على وجهها في النفي، أي أنه فعل بهم ذلك لكي لا يحزنوا على ما فاتهم ولا ما أصابهم، بمعنى أن المصيبة الثانية أنستهم المصيبة الأولى، وخفف ذلك عنهم فنسوا جراحهم، ونسوا ما فاتهم، والله تعالى أعلم.
- أخرجه البخاري في كتاب المغازي - باب: إِذْ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَاللّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [سورة آل عمران:122] (3836) (ج 4 / ص 1490).
- أخرجه البخاري في كتاب فضائل الصحابة - باب ذكر مناقب طلحة بن عبيد الله (3517) (ج 3 / ص 1363) ومسلم في كتاب فضائل الصحابة - باب من فضائل طلحة والزبير ا (2414) (ج 4 / ص 1879).
- أخرجه البخاري في كتاب المغازي - باب إِذْ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَاللّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [سورة آل عمران:122] (3829) (ج 4 / 1489).
- أخرجه البخاري في كتاب المغازي - باب إِذْ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَاللّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [سورة آل عمران:122] (3828) (ج 4 / 1489) ومسلم في كتاب الفضائل - باب في قتال جبريل وميكائيل عن النبي ﷺ يوم أحد (2306) (ج 4 / ص 1802).
- أخرجه الحاكم (3263) (ج 2 / ص 357)
- أخرجه أحمد (2609) وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده حسن.