الأربعاء 02 / ذو القعدة / 1446 - 30 / أبريل 2025
وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ ٱللَّهُ وَعْدَهُۥٓ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِۦ ۖ حَتَّىٰٓ إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَٰزَعْتُمْ فِى ٱلْأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّنۢ بَعْدِ مَآ أَرَىٰكُم مَّا تُحِبُّونَ ۚ مِنكُم مَّن يُرِيدُ ٱلدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ ٱلْءَاخِرَةَ ۚ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ ۖ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ ۗ وَٱللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"وقوله تعالى: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ [سورة آل عمران:152] أي: أول النهار، إِذْ تَحُسُّونَهُم [سورة آل عمران:152] أي: تقتلونهم بِإِذْنِهِ أي: بتسليطه إياكم عليهم حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ [سورة آل عمران:152]، وقال ابن جريج قال ابن عباس - ا -: "الفشل الجبن".  
    
في قوله تعالى: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم [سورة آل عمران:152] قوله: صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ أي أنه وعد أهل الإيمان بالنصر فحققه لهم.
وابن جرير هنا حمله على معنىً قريب من هذا وهو أن النبي ﷺ وعدهم بذلك خاصة في يوم أحد، حيث أمر الرماة أن يبقوا على الجبل وألا يبرحوه، وأخبرهم أنهم لن يزالوا غالبين ما بقوا في مكانهم.
وابن جرير يقول في قوله تعالى: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ [سورة آل عمران:152] أي أن النبي ﷺ وعدهم بأنهم غالبون ما بقوا في مكانهم، فحصلت الغلبة حتى فارقوا أماكنهم، فبعدها حصل الانكسار، والهزيمة.
وقوله - تبارك وتعالى -: إِذْ تَحُسُّونَهُم [سورة آل عمران:152] الحس هو الاستئصال، والقتل، وأصله ربما يكون من الحِس وهو الإدراك بالحاسة، تقول: حسَّه أي أذهب، وأبطل حواسَّه، وإنما تبطل حواسه إذا قتله، فالقتل الكثير أو القتل المستأصل هو الحس.
وقوله: تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ أي بتسليطه إياكم عليهم، وهذا الإذن بالتسليط اجتمع فيه الإذن الشرعي، والإذن القدري، فالله قد أمرهم بقتل الكفار، وحسِّهم، وكذلك أيضاً خلى بينهم وبين الكفار فوقع هذا القتل والحس بإذنه القدري؛ لأنه لا يكون شيء في الكون من تحريكة، ولا تسكينة؛ إلا بإذن الله ، فهو الذي شرَّع لهم الجهاد، فهذا إذن شرعي، وهو الذي مكنهم من رقاب عدوهم فهذا إذن قدري.
حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وقال ابن جريج: قال ابن عباس - ا -: "الفشل الجبن".

قوله: حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ [سورة آل عمران:152] فشلتم هنا فعل الشرط فأين جوابه؟
يمكن أن يكون الجواب محذوفاً تقديره حتى إذا فشلتم امتُحنتم، لكن هذا لا يخلو من بعد، والله تعالى أعلم.
وبعضهم يقول: إن الجواب هو قوله: وَتَنَازَعْتُمْ.
فقوله: حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ الفشل معناه هنا الضعف، والقعود عن العدو، وقوله: وَتَنَازَعْتُمْ الواو هنا يقولون: إنها زائدة، وعلى هذا يصير الكلام هكذا: حتى إذا فشلتم تنازعتم، وهذا لا يخلو من بعد.
وادِّعاء أن الواو هذه زائدة - أي إعراباًً - هذا فيه نظر؛ فالأصل أو الظاهر المتبادر أنها عاطفة يقول تعالى: حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ [سورة آل عمران:152]، فهو ذكر ثلاثة أشياء - أفعال الشرط -، فالذي حصل لهم أنه كما قال تعالى: ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ [سورة آل عمران:152]، ولهذا قال بعض أهل العلم: الجواب هو صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ ومعنى صرفكم عنهم أي أن المسلمين انتصروا عليهم، ثم بعد ذلك صُرفوا عنهم، فصارت الكرة للكفار، وذلك أنه لما حصل للمسلمين الفشل، والضعف، والتنازع، والمعصية كان ذلك سبباً لقلب موازين المعركة، وهو أنه صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ [سورة آل عمران:152].
وبعضهم يقول: إن الجواب هو قوله: وَعَصَيْتُم [سورة آل عمران:152] يعني حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر عصيتم، وهذا أيضاً فيه بعد؛ لأنه لا يقال: إنه أراد أن يخبرهم أنهم عصوا بهذا، فهذا لا يحتاج إلى بيان؛ لأنه لا يخفى أن ما فعلوه معصية، فالآية ما سيقت لتقرير هذا المعنى، ومثل هذا القائل أيضاً يدعي أن الواو زائدة كما في قول من قال إن الجواب هو وَتَنَازَعْتُمْ [سورة آل عمران:152]، فالمقصود أن هذا فيه بعد.
وبعضهم يقول: إن "حتى" بمعنى إلى ولا جواب لها، فهي لا تحتاج إلى جواب، وعلى هذا يكون معنى الكلام هكذا: ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه إلى أن فشلتم، وتنازعتم، وعصيتم، والمعنى أنه وقع لكم الانتصار، والقتل للكفار؛ إلى أن وقع منكم ما وقع، ومثل هذا الجواب لا يبعد، والله تعالى أعلم.
كما أنه لا يبعد أن يكون المراد بالكلام: ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه إلى أن فشلتم، وتنازعتم، وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون؛ هنا تغيرت موازين المعركة، وحصل ما حصل حيث صرفكم الله عنهم، والعلم عند الله .
"وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم [سورة آل عمران:152] كما وقع للرماة مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ [سورة آل عمران:152] وهو الظفر منهم، مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا [سورة آل عمران:152] وهم الذين رغبوا في المغنم حين رأوا الهزيمة وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ [سورة آل عمران:152]، ثم أدالهم عليكم ليختبركم، ويمتحنكم، وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ [سورة آل عمران:152] أي: غفر لكم ذلك الصنيع، وذلك والله أعلم لكثرة عدد العدو، وعددهم، وقلة عدد المسلمين وعددهم".

على كل حال سواء كان هذا هو السبب في العفو، أو أن الله عفا عنهم لكرمه، ومحض فضله، وما لهم من السابقة والجهاد، وما حصل لهم من الجراح والآلام، فعلى كل حال الله غفور رحيم، ولهذا قال الله : إِذْ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَاللّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [سورة آل عمران:122] وإِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ [سورة آل عمران:155].
"وروى البخاري عن البراء قال: لقينا المشركين يومئذ، وأجلس النبي ﷺ جيشاً من الرماة، وأمَّر عليهم عبد الله بن جبير وقال: لا تبرحوا, إن رأيتمونا ظهرنا عليهم فلا تبرحوا، وإن رأيتموهم ظهروا علينا فلا تعينونا فلما لقيناهم هربوا حتى رأينا النساء يشتددن في الجبل، رفعن عن سوقهن وقد بدت خلاخلهن، فأخذوا يقولون: "الغنيمة الغنيمة"، فقال عبد الله بن جبير : "عهد إليَّ النبي ﷺ ألا تبرحوا"، فأبوا، فلما أبوا صُرِفَ وجوههم فأصيب سبعون قتيلاً، فأشرف أبو سفيان فقال: أفي القوم محمد؟ فقال: لا تجيبوه، فقال: أفي القوم ابن أبي قحافة؟ فقال: لا تجيبوه فقال: أفي القوم ابن الخطاب؟ فقال: إن هؤلاء قد قتلوا، فلو كانوا أحياء لأجابوا، فلم يملك عمر نفسه فقال: كذبت يا عدو الله، قد أبقى الله لك ما يحزنك، فقال أبو سفيان: اعْلُ هُبَلُ، فقال النبي ﷺ: أجيبوه قالوا: ما نقول؟ قال: قولوا الله أعلى وأجل فقال أبو سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم، فقال النبي ﷺ: أجيبوه قالوا: ما نقول؟ قال: قولوا الله مولانا، ولا مولى لكم قال أبو سفيان: "يوم بيوم بدر، والحرب سجال، وتجدون مَثُلَة لم آمر بها، ولم تسؤني[1]" تفرد به البخاري من هذا الوجه.
وروى محمد بن إسحاق عن عبد الله بن الزبير أن الزبير بن العوام - ا - قال: "والله لقد رأيتني أنظر إلى خدم هند وصاحباتها، مشمرات هوارب ما دون أخذهن كثير، ولا قليل".

يعني لما شمرن يصعدن الجبل عند الهزيمة في أول المعركة رأى ذلك منهن.
والخدم أو الخدمة هو الساق، ويطلق أيضاً على الخلخال، وهما متلازمان؛ لأن موضع الخلخال في الساق، وقوله: "فشمرن" أي أنه رأى ذلك منهن وهن ممعنات في الهرب.
"ومالت الرماة إلى العسكر حين كشفنا القوم عنه يريدون النهب، وخلوا ظهورنا للخيل، فأتتنا من أدبارنا، وصرخ صارخ: ألا إن محمداً قد قتل، فانكفأنا وانكفأ علينا القوم بعد أن أصبنا أصحاب اللواء، حتى ما يدنوا منه أحد من القوم.
 قال محمد بن إسحاق: فلم يزل لواء المشركين صريعاً حتى أخذته عمرة بنت علقمة الحارثية، فدفعته لقريش فلاثوا به.
وقوله تعالى: ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ [سورة آل عمران:152] قال ابن إسحاق: حدثني القاسم بن عبد الرحمن بن رافع أحد بني عدي بن النجار قال: انتهى أنس بن النضر عمّ أنس بن مالك إلى عمر بن الخطاب، وطلحة بن عبيد الله في رجال من المهاجرين والأنصار قد ألقوا ما بأيديهم، فقال: ما يخليكم؟ فقالوا: قتل رسول الله ﷺ قال: "فما تصنعون بالحياة بعده، قوموا فموتوا على ما مات عليه"، ثم استقبل القوم فقاتل حتى قتل .
وروى البخاري عن أنس بن مالك  أن عمَّه - يعني أنس بن النضر غاب عن بدر فقال: "غبت عن أول قتال النبي ، لئن أشهدني الله مع رسول الله ﷺ ليرين الله ما أجد، فلقي يوم أحد، فهُزِم الناس فقال: "اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء - يعني المسلمين -، وأبرأ إليك مما جاء به المشركون"، فتقدم بسيفه فلقي سعد بن معاذ فقال: "أين يا سعد؟ إني أجد ريح الجنة دون أحد"، فمضى فقتل فما عرف حتى عرفته أخته ببنانه، أو بشامة، وبه بضع وثمانون طعنة، وضربة، ورمية بسهم هذا لفظ البخاري[2] وأخرجه مسلم من حديث ثابت عن أنس بنحوه[3]".
 
  1. أخرجه البخاري في كتاب المغازي - باب غزوة أحد (3817) (ج 4 / ص 1486).
  2. صحيح البخاري في كتاب المغازي - باب غزوة أحد (3822) (ج 4 / ص 1487).
  3. صحيح مسلم في كتاب الإمارة- باب ثبوت الجنة للشهيد (1903) (ج 3 / ص 1512). 

مرات الإستماع: 0

"وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ [آل عمران:152] كان رسول الله ﷺ قد وعد المسلمين عن الله بالنصر، فنصرهم الله أولًا، وانهزم المشركون، وقتل منهم اثنان، وعشرون رجلًا، وكان رسول الله ﷺ قد أمر الرماة أن يثبتوا في مكانهم، ولا يبرحوا، فلما رأوا المشركين قد انهزموا، طمعوا في الغنيمة، وأتبعوهم، وخالفوا ما أمروا به من الثبوت في مكانهم، فانقلبت الهزيمة على المسلمين".

وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ فسر ابن جرير - رحمه الله - الوعد هنا بقول النبي ﷺ للرماة: لا تبرحوا مكانكم إن رأيتمونا قد هزمناهم، فإنا لن نزال غالبين ما ثبتم مكانكم[1] وهذا أخرجه البخاري، من حديث البراء، بمعناه.

أما ما ذكره المؤلف: من أن النبي ﷺ: "وعد المسلمين عن الله بالنصر" يعني بالنصر مطلقًا هكذا، "فنصرهم الله أولًا" هذا جاء عن السدي[2] بهذا السياق: وانهزم المشركون، وقُتل منهم اثنان، وعشرون رجلًا، ومثل هذه الرواية عن السدي حينما يروي شيئًا مما وقع سبب النزول، أو ما وقع في المعركة، أو نحو ذلك، فهذا يكون من قبيل المرسل، يعني على بعض التفسيرات المرسل، كما قال: 

ومرسل قولة غير من صحب قال إمام الأعجمين، والعرب[3].

لكن بعضهم يسمي هذا: المعضل.

فالسياق يدل على، وعد وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ والحس - كما سبق - هو القتل الذريع بِإِذْنِهِ يعني: الإذن الكوني، والإذن الشرعي، كما سبق، فلا يقع شيء إلا بإذن الله الكوني، بعد تقديره، والإذن الشرعي: باعتبار أنه أذن بقتل هؤلاء الكفار المحاربين، فالآية صريحة في أن الله وعدهم بذلك.

"إِذْ تَحُسُّونَهُمْ [آل عمران:152] أي: تقتلونهم قتلًا ذريعًا، يعني في أول الأمر".

تَحُسُّونَهُمْ أصله من الحس، والحس: هو الإدراك بالحاسة، وبعضهم يربط المعنى فيقول: حسه يعني أذهب إدراكه، وإحساسه بالقتل، بمعنى أنه عمد بالقتل، لكن المقصود به هنا: القتل الذريع، حتى قال بعضهم: القتل الذي يكون معه صوت، تقتلونهم قتلًا ذريعًا، يعني في أول الأمر.

"وَتَنازَعْتُمْ [آل عمران:152] وقع النزاع بين الرماة، فثبت بعضهم كما أمروا، ولم يثبت بعضهم".

هم كانوا قريب من السبعين، وتنازعوا بعد ما رأوا النصر، وقُتل سبعون من المشركين، فتنازع الرماة مع أميرهم: أن المشركين قد انهزموا، فلنجمع الغنيمة، وننزل إلى أرض المعركة، فهذا النزاع وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ [آل عمران:152] فهذا أوقع هذه الهزيمة التي تذكر عبر التاريخ، ومعهم رسول الله ﷺ ووقع عليهم ما وقع من القتل، وقتل سبعون من المسلمون، وجرح كثير، وأصيب النبي ﷺ إصابات متعددة؛ في رأسه، ورباعيته، وغير ذلك، بسبب بعض الجيش، الذين وقع بينهم شيء من النزاع، والمخالفة، وما وجد من حب الدنيا في بعض النفوس، كل ذلك أوقعهم في هذا، فكيف بحال هذه الأمة التي نشاهد من التفرق، والنزاع الشديد، وهم في أسوء الأحوال، وأسوء الظروف، في القتل الذريع الذي يقع عليهم، بجميع أنواع القتل، والتشريد، والاستضعاف، ويجتمع عليهم شذاذ الأمم، وأنواع الكفرة، والمنافقين، ومع ذلك هم في حالٍ من السكرة، والتراشق، والنزاع، وتبادل التهم، وتنافر القلوب، والاختلاف بجميع صوره، وأشكاله، وأنواعه، مع حب الدنيا، وما إلى ذلك، مما نشاهد، أمة يقتلها العدو قتلًا ذريعًا، ويحيط بها، ويطوقها من كل ناحية، وهي في سكرة، واختلاف، وتراشق شديد، والذين يقاتلون - أيضًا - بينهم من الاختلاف ما الله به عليم، وهذا الاختلاف قد لا يكون له تفسير إلا الدنيا، يختلفون على ماذا؟ ويا ليتها دنيا فيها شيء، دنيا ليس فيها إلا الركام، والهدم، والحطام، وأرض محروقة - كما يقال - ومع ذلك ترى الاختلافات، والتفرق، والجموع المتفرقة، هنا، وهناك على أي حال، وعلى أي أساس؟ وما مبرر ذلك؟ لا يوجد له أي مبرر؛ لذلك لا يمكن فيما نعلم من سنن الله في هذا الكون، والخلق، وما نعلم من سننه الشرعية، أن يتحقق نصر!

أتفاءل، وأعلم - كما أراكم الآن: أن الله سينصر دينه، أو أنه سيأتي من يعجب كيف يقع هذا على الأمة؟! من هذا الضعف، والاستكانة، وكيف استطاع اليهود أن يصلوا إلى ما وصلوا إليه، وكيف يأتي العدو من أماكن بعيدة، فيهلك الحرث، والنسل، لكن أعلم أن هذه الحالة التي نحن فيها هي أبعد ما تكون عن النصر؛ ولذلك لا أنتظر نصرًا، ولا أرجوه بحال من الأحوال، على هذه الحال الموجودة الآن، أبدًا - والله المستعان -.

لكن إذا دعونا ندعو الله أن يجمع قلوب المؤمنين على الحق، وأن ينصرهم، وأما على هذا التفرق لا يمكن أن يقع نصر أبدًا، وهذا نعرفه منذ البداية، وقبل أن تصير الأمور إلى هذه الحال الآن التي نشاهدها، فالحال في أوائلها أصلًا لم تكن على استقامة، وإنما على حالٍ من التشرذم، والعدوات، وكل من ربط عصابة على رأسه، صار ابن جلاء، وطلاع الثنايا، ومكتسباته. . . وإلى آخره، فهذا لا يحصل معه إلا الهزيمة، والخذلان، والقتل، والتنكيل، والبطش من قبل الأعداء، والإبادة، والتشريد، نسأل الله العافية، لن يحصل للأمة نصر، وتمكين إلا برجوعها إلى دينها، تتمسك به بحذافيره، وتكون أمة، واحدة، ملتئمة، ويقطع لسان كل من يثير البلبلة، والخلاف، والشقاق، وينشر ما يفضي إلى ذلك، وتقطع كل يد تفرق هذه الأمة، ويُؤخذ على يد كل سفيه، وتلتئم الأمة في حالٍ من الاجتماع، وترك التفرق، ففي هذه الحالة لا يقف أحد أمامهم، مهما أوتي من القوة، ولن يستطيع أحد أن يقف أمامهم، الأعداء سيموتون من الرعب قبل أن يموتوا من القتل، سيقتلهم الرعب وحده، لو اجتمعت الأمة.

وهذا الذي يحاذره الأعداء؛ ولذلك يحيون هذه الفرق المنحرفة، والطوائف الضالة، ويستنبتون هؤلاء الخوارج، وغير الخوارج، من هؤلاء المنحرفين، الذين لا يزيدون الأمة إلا ضعفًا، ووهنًا، وتراجعًا، فهم مصيبة، ورزية عليها من جملة مصائبها، بل هم من أعظم بلاياها، ومصائبها، ومن أعظم الغبن أن يفر بعض الناس من الرمضاء إلى النار، أن يفر من عدوٍ إلى عدوٍ آخر، يرى أنه ينصره - الله المستعان -.

انظر إلى أحوال المسلمين في الشام، والعراق، ونحو ذلك، قد يفر من الرافضة إلى الخوارج، يبقون بين نارين، نسأل الله العافية.

"وَعَصَيْتُمْ [آل عمران:152] أي: خالفتم ما أمرتم به من الثبوت، وجاءت المخاطبة في هذا لجميع المؤمنين، وإن كان المخالف بعضهم، وعظًا للجميع، وسترًا على من فعل ذلك، وجواب (إذا) محذوف، تقديره: انهزمتم".

في إضافة ذلك إلى الجميع وَعَصَيْتُمْ هذا باعتبار القاعدة المعروفة، وهي أن الفعل قد يصدر عن البعض، فيضاف إلى المجموع، بنوعٍ من الاعتبار وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّون [آل عمران:152] جواب (إذا) في قوله: حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ يقول: تقديره انهزمتم، أو حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ انهزمتم، أو حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ بان أمركم، أو حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ مُنعتم النصر، أو منعكم الله نصره، أو حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ أُمتحنتم.

يحتمل أن تكون (إذا) بمعنى (إذ) ولا جواب، كما يقول بعضهم (حَتَّى إِذْ فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ).

"مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا الذين حرصوا على الغنيمة معه لِيَبْتَلِيَكُمْ معناه: لينزل بكم ما نزل من القتل، والتمحيص".

أصل الابتلاء: الاختبار، ليختبركم، ويمتحنكم ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ ليمتحنكم، ويختبركم، كما يقول الحافظ ابن كثير - رحمه الله -[4] وما ذكره ابن جزي - رحمه الله - هو الذي وقع من الامتحان، يعني امتحنهم، واختبرهم بالقتل، وما وقع لهم من الجراح، ونحو ذلك ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ يعني كنتم غالبين، ومنتصرين ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ ليمتحنكم، فوقع عليكم ما وقع من قتلٍ، وجراح، وهزيمة.

"وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ [آل عمران:152] إعلامٌ بأن الذنب كان يستحق أكثر مما نزل بهم، لولا عفو الله عنهم، فمعناه: لقد أبقى عليكم، وقيل: هو عفو عن الذنب".

وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ طيب هذا الذي وقع من الجراح، والقتل كان عقوبة، فكيف قال: وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ؟ فهذا جواب لهذا السؤال المقدر، قال: "إعلامٌ بأن الذنب كان يستحق أكثر مما نزل بهم، لولا عفو الله" يعني كنتم تستحقون أكثر من هذا، فعفا الله عنكم، كما في قوله تعالى في سورة الحشر: وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا [الحشر:3] وقع عليهم الجلاء، والجلاء عذاب، والإخراج من الديار هو قرين القتل ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ [البقرة:85] يعني تقتلون إخوانكم وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ فجعل الإخراج قرينًا للقتل، فكيف قال الله : وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا فالجواب عن هذا: أنه لعذبهم بما هو أعظم من ذلك؛ كالقتل، والسبي، كما وقع لقريظة؛ لأن هذه الآية في بني النضير الذين أُجلوا، فسلموا، فأما قريظة - فكما تعلمون - قُتل كل من يستطيع حمل السلاح، وسبي النساء، والذرية، والأموال، فهنا قال: "معناه: لقد أبقى عليكم، وقيل: هو عفوٌ عن الذنب" يعني: أن الله لن يُؤاخذ المؤمنين عليه في الآخرة، وإنما ما وقع لهم في الدنيا كان تمحيصًا لهم، وهذا الذي ذهب إليه الحافظ ابن كثير - رحمه الله -[5] أن المقصود: عفا عن الذنب، وعلى القول الأول: أنهم كانوا يستحقون أكثر من هذا، فعفا الله عنهم - والله أعلم -.

  1.  هذا لفظ: تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (6/99) ولفظه في البخاري في كتاب الجهاد، والسير باب ما يكره من التنازع، والاختلاف في الحرب، وعقوبة من عصى إمامه برقم: (3039): إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم، هذا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا هزمنا القوم، وأوطأناهم، فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم.
  2.  تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (6/129).
  3.  نشر البنود على مراقي السعود (2/60).
  4.  تفسير ابن كثير ت سلامة (2/133).
  5.  المصدر السابق (2/146).