في قوله تعالى: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم [سورة آل عمران:152] قوله: صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ أي أنه وعد أهل الإيمان بالنصر فحققه لهم.
وابن جرير هنا حمله على معنىً قريب من هذا وهو أن النبي ﷺ وعدهم بذلك خاصة في يوم أحد، حيث أمر الرماة أن يبقوا على الجبل وألا يبرحوه، وأخبرهم أنهم لن يزالوا غالبين ما بقوا في مكانهم.
وابن جرير يقول في قوله تعالى: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ [سورة آل عمران:152] أي أن النبي ﷺ وعدهم بأنهم غالبون ما بقوا في مكانهم، فحصلت الغلبة حتى فارقوا أماكنهم، فبعدها حصل الانكسار، والهزيمة.
وقوله - تبارك وتعالى -: إِذْ تَحُسُّونَهُم [سورة آل عمران:152] الحس هو الاستئصال، والقتل، وأصله ربما يكون من الحِس وهو الإدراك بالحاسة، تقول: حسَّه أي أذهب، وأبطل حواسَّه، وإنما تبطل حواسه إذا قتله، فالقتل الكثير أو القتل المستأصل هو الحس.
وقوله: تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ أي بتسليطه إياكم عليهم، وهذا الإذن بالتسليط اجتمع فيه الإذن الشرعي، والإذن القدري، فالله قد أمرهم بقتل الكفار، وحسِّهم، وكذلك أيضاً خلى بينهم وبين الكفار فوقع هذا القتل والحس بإذنه القدري؛ لأنه لا يكون شيء في الكون من تحريكة، ولا تسكينة؛ إلا بإذن الله ، فهو الذي شرَّع لهم الجهاد، فهذا إذن شرعي، وهو الذي مكنهم من رقاب عدوهم فهذا إذن قدري.
قوله: حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ [سورة آل عمران:152] فشلتم هنا فعل الشرط فأين جوابه؟
يمكن أن يكون الجواب محذوفاً تقديره حتى إذا فشلتم امتُحنتم، لكن هذا لا يخلو من بعد، والله تعالى أعلم.
وبعضهم يقول: إن الجواب هو قوله: وَتَنَازَعْتُمْ.
فقوله: حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ الفشل معناه هنا الضعف، والقعود عن العدو، وقوله: وَتَنَازَعْتُمْ الواو هنا يقولون: إنها زائدة، وعلى هذا يصير الكلام هكذا: حتى إذا فشلتم تنازعتم، وهذا لا يخلو من بعد.
وادِّعاء أن الواو هذه زائدة - أي إعراباًً - هذا فيه نظر؛ فالأصل أو الظاهر المتبادر أنها عاطفة يقول تعالى: حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ [سورة آل عمران:152]، فهو ذكر ثلاثة أشياء - أفعال الشرط -، فالذي حصل لهم أنه كما قال تعالى: ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ [سورة آل عمران:152]، ولهذا قال بعض أهل العلم: الجواب هو صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ ومعنى صرفكم عنهم أي أن المسلمين انتصروا عليهم، ثم بعد ذلك صُرفوا عنهم، فصارت الكرة للكفار، وذلك أنه لما حصل للمسلمين الفشل، والضعف، والتنازع، والمعصية كان ذلك سبباً لقلب موازين المعركة، وهو أنه صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ [سورة آل عمران:152].
وبعضهم يقول: إن الجواب هو قوله: وَعَصَيْتُم [سورة آل عمران:152] يعني حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر عصيتم، وهذا أيضاً فيه بعد؛ لأنه لا يقال: إنه أراد أن يخبرهم أنهم عصوا بهذا، فهذا لا يحتاج إلى بيان؛ لأنه لا يخفى أن ما فعلوه معصية، فالآية ما سيقت لتقرير هذا المعنى، ومثل هذا القائل أيضاً يدعي أن الواو زائدة كما في قول من قال إن الجواب هو وَتَنَازَعْتُمْ [سورة آل عمران:152]، فالمقصود أن هذا فيه بعد.
وبعضهم يقول: إن "حتى" بمعنى إلى ولا جواب لها، فهي لا تحتاج إلى جواب، وعلى هذا يكون معنى الكلام هكذا: ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه إلى أن فشلتم، وتنازعتم، وعصيتم، والمعنى أنه وقع لكم الانتصار، والقتل للكفار؛ إلى أن وقع منكم ما وقع، ومثل هذا الجواب لا يبعد، والله تعالى أعلم.
كما أنه لا يبعد أن يكون المراد بالكلام: ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه إلى أن فشلتم، وتنازعتم، وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون؛ هنا تغيرت موازين المعركة، وحصل ما حصل حيث صرفكم الله عنهم، والعلم عند الله .
على كل حال سواء كان هذا هو السبب في العفو، أو أن الله عفا عنهم لكرمه، ومحض فضله، وما لهم من السابقة والجهاد، وما حصل لهم من الجراح والآلام، فعلى كل حال الله غفور رحيم، ولهذا قال الله : إِذْ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَاللّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [سورة آل عمران:122] وإِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ [سورة آل عمران:155].
وروى محمد بن إسحاق عن عبد الله بن الزبير أن الزبير بن العوام - ا - قال: "والله لقد رأيتني أنظر إلى خدم هند وصاحباتها، مشمرات هوارب ما دون أخذهن كثير، ولا قليل".
يعني لما شمرن يصعدن الجبل عند الهزيمة في أول المعركة رأى ذلك منهن.
والخدم أو الخدمة هو الساق، ويطلق أيضاً على الخلخال، وهما متلازمان؛ لأن موضع الخلخال في الساق، وقوله: "فشمرن" أي أنه رأى ذلك منهن وهن ممعنات في الهرب.
قال محمد بن إسحاق: فلم يزل لواء المشركين صريعاً حتى أخذته عمرة بنت علقمة الحارثية، فدفعته لقريش فلاثوا به.
وقوله تعالى: ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ [سورة آل عمران:152] قال ابن إسحاق: حدثني القاسم بن عبد الرحمن بن رافع أحد بني عدي بن النجار قال: انتهى أنس بن النضر عمّ أنس بن مالك إلى عمر بن الخطاب، وطلحة بن عبيد الله في رجال من المهاجرين والأنصار قد ألقوا ما بأيديهم، فقال: ما يخليكم؟ فقالوا: قتل رسول الله ﷺ قال: "فما تصنعون بالحياة بعده، قوموا فموتوا على ما مات عليه"، ثم استقبل القوم فقاتل حتى قتل .
وروى البخاري عن أنس بن مالك أن عمَّه - يعني أنس بن النضر غاب عن بدر فقال: "غبت عن أول قتال النبي ، لئن أشهدني الله مع رسول الله ﷺ ليرين الله ما أجد، فلقي يوم أحد، فهُزِم الناس فقال: "اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء - يعني المسلمين -، وأبرأ إليك مما جاء به المشركون"، فتقدم بسيفه فلقي سعد بن معاذ فقال: "أين يا سعد؟ إني أجد ريح الجنة دون أحد"، فمضى فقتل فما عرف حتى عرفته أخته ببنانه، أو بشامة، وبه بضع وثمانون طعنة، وضربة، ورمية بسهم هذا لفظ البخاري[2] وأخرجه مسلم من حديث ثابت عن أنس بنحوه[3]".
- أخرجه البخاري في كتاب المغازي - باب غزوة أحد (3817) (ج 4 / ص 1486).
- صحيح البخاري في كتاب المغازي - باب غزوة أحد (3822) (ج 4 / ص 1487).
- صحيح مسلم في كتاب الإمارة- باب ثبوت الجنة للشهيد (1903) (ج 3 / ص 1512).