الخميس 10 / ذو القعدة / 1446 - 08 / مايو 2025
لَقَدْ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُوا۟ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا۟ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَٰلٍ مُّبِينٍ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"وقوله تعالى: لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ [سورة آل عمران:164] أي: من جنسهم، ليتمكنوا من مخاطبته، وسؤاله، ومجالسته، والانتفاع به".

قوله تعالى: مِّنْ أَنفُسِهِمْ المعنى الأعم هنا يمكن أن يكون من جنسهم أي ليس من جنس آخر كالملائكة، فمن رحمة الله أن جعله مشاكلاً لهم يستطيعون الأخذ عنه، والاقتداء به، فلو كان ملكاً من الملائكة فإنهم لا يستطيعون رؤيته على هيئته الحقيقية فضلاً عن الأخذ منه، ثم أيضاً كل ما يفعله ذلك الملك يقال فيه: هذا ملك ليس فيه شهوات، وليس فيه كذا، فهو ليس محل الاقتداء بالنسبة إليهم.
ويحتمل معنىً أخص من هذا وهو أن يكون من أهل لسانهم يعني من العرب وهذا الذي اختاره ابن جرير، ويمكن أن يستشهد له بقوله - تبارك وتعالى - في الآية الأخرى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ [سورة الجمعة:2] فهذا الرسول في الأميين أمي مثلهم، وذلك ليكون مشاكلاً لأحوالهم يفهمون عنه، ولذلك يقولون: إذا أردت قتل الفيلسوف فضعه بين العوام؛ لأن الفيلسوف يتكلم بكلام لا يفهمه الناس، فهو يتكلم بأشياء يتفلسف فيها، فإذا وضعته بين العامة يموت؛ لأنه لا يجد من يسايره، حتى إن الناس يقولون عنه: إنه مجنون، فالأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - يعلمون الناس، ويبلغونهم شرع الله بطريقة تلائم الفطرة فيفهمونها، فهذه الأشياء التي جاء بها الأنبياء يتدين بها، ويعمل بها الأعرابي في الصحراء، وأهل الحضر في كل زمان، ومكان، فهي كما يقول الشاطبي - رحمه الله -: "شريعة أمية"، فالحاصل أن الآية تحتمل هذا المعنى: رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ أي: من أهل لسانهم، أي من الأميين.
"كما قال تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا [سورة الروم:21] أي: من جنسكم، وقال تعالى: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ الآية [سورة الكهف:110]، وقال تعالى: وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ [سورة الفرقان:20] وقال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى [سورة يوسف:109]، وقال تعالى: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ [سورة الأنعام:130] فهذا أبلغ في الامتنان أن يكون الرسول إليهم منهم بحيث يمكنهم مخاطبته ومراجعته في فهم الكلام عنه، ولهذا قال تعالى: يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ [سورة آل عمران:164]".

على كل حال في مثل هذا إذا احتملت الآية معنيين، وكان لكل معنىً ما يشهد له من القرآن، ولا يوجد مانع يمنع من حمل الآية على هذه المعاني؛ فإنها تحمل عليها جميعاً، فالله يمتن على المؤمنين أن بعث فيهم رسولاً من أنفسهم، وهذا يشمل جميع أهل الإيمان العرب، والعجم؛ أن جاءهم رسول من البشر يستطيعون الأخذ منه، والاقتداء به، وما أشبه ذلك، ويكون هذا الامتنان على العرب بصورة أخص حيث إنه موافق لهم للغتهم، وبلسانهم؛ فتكون المنة عليهم بهذا البعث أعظم، وبناء على ذلك لا نحتاج أن نرجح فنقول: رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ أي: بلسانهم، أو أنه من البشر، فالمنة حاصلة على المؤمنين جميعاً بهذا ولكنها أعلق بالعرب، ولذلك كلما كان الناس أخص برسول الله ﷺ من ناحية القرب باللسان، أو بالقبيلة؛ كلما كانت المنة عليهم بذلك أكثر، فالمنة على قريش أكثر من المنة على غيرها، والمنة على العرب أكثر من العجم.
"ولهذا قال تعالى: يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ يعني القرآن وَيُزَكِّيهِمْ أي: يأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر، لتزكوَ نفوسهم، وتطهر من الدنس والخبث الذي كانوا متلبسين به في حال شركهم، وجاهليتهم".

يعني أن التزكية تحصل بالتطهير من الذنوب، والأرجاس، والشرك وما أشبه ذلك، كما تزكو بعمارة النفوس بتقوى الله تعالى، وتتخلص النفوس من الرواسب، ومن الانحرافات بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ولهذا قال ابن كثير: "يأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر"، فهذا هو سبب تزكية النفوس بأن يأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر، فيحصل أثر ذلك ونتيجته.
"وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ يعني القرآن، والسنة، وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ أي: من قبل هذا الرسول لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ أي: لفي غي، وجهل ظاهر، جلي، بيِّن لكل أحد".

مرات الإستماع: 0

"لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ [آل عمران:164] الآية، إخبارٌ بفضل الله على المؤمنين ببعث رسول الله ﷺ ".

لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ يعني أنعم، فالمنّة: هي النعمة الثقيلة، وأصل ذلك: اصطناع المعروف.

"قوله: مِنْ أَنْفُسِهِمْ [آل عمران:164] معناه: في الجنس، واللسان، فكونه من جنسهم يوجب الأُنس به، وقلة الاستيحاش منه، وكونه بلسانهم يوجب حُسن الفهم عنه، ولكونه منهم يعرفون حسبه، وصدقه، وأمانته ﷺ ويكون هو ﷺ أشفق عليهم، وأرحم بهم من الأجنبيين".

مِنْ أَنْفُسِهِمْ يقول: "معناه في الجنس" يعني من جنسهم، يعني من البشر، وأنه ليس من جنسٍ آخر، فيستوحشون منه، أو لا يطيقون الاقتداء به، أو مخالطته، أو نحو ذلك، وهذا الذي اختاره الحافظ ابن كثير - رحمه الله -[1].

كما قال الله تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا [الروم:21] فلو كانت الأزواج من غير جنسهم لما حصل السكن إليهم، وهكذا في قوله تعالى: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ [الكهف:110] فهو من جنسهم، وليس من جنسٍ آخر، وكما قال: وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ [الفرقان:20] وهكذا: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ [يوسف:109] فهم من جنس البشر، فهذه آيات تدل على أن ذلك بهذا الاعتبار مِنْ أَنْفُسِهِمْ أي من جنسهم، من البشر، وليس من جنسٍ آخر، قال: "معناه في الجنس، واللسان" الجنس يعني البشر، واللسان معناه أنه من العرب بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ وهذا الذي اختاره ابن جرير - رحمه الله - أنه بلسانهم[2].

يقول: "فكونه من جنسهم يوجب الأُنس به، وقلة الاستيحاش منه، وكونه بلسانهم يوجب حُسن الفهم عنه" فهو من العرب، يقول: "ولكونه منهم يعرفون حسبه، وصدقه، وأمانته" فهذا كقوله - تبارك، وتعالى -: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ [الجمعة:2] فهذا يشهد لهذا المعنى، وقد يكون ذلك مؤيدًا لما ذهب إليه ابن جُزي - رحمه الله - حيث جمع بين المعنيين، بين المعنى الأول: وهو في الجنس، وهذا اختيار ابن كثير، أو في اللسان، وهذا اختيار ابن جرير، فابن جُزي جمع بين المعنيين بهذه العبارة القصيرة، قال: "معناه في الجنس، واللسان" فالأول - وهو الجنس - يشهد له آيات من القرآن، كما سمعتم، والثاني: وهو اللسان، كقوله: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ فامتنّ عليهم بذلك.

فعلى القول بأنه باللسان، يرد عليه السؤال المعروف: وهو عموم بعثه ﷺ للجميع، فكيف خصّ هؤلاء فقال: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ؟ يقال: هذا على سبيل الامتنان، والأدلة الأخرى تدل على عموم بعثته، دل على ذلك الكتاب، والسنة لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام:19] وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ [سبأ:28] وقول النبي ﷺ: وكان النبي يُبعث إلى قومه خاصة، وبُعثت إلى الناس عامة[3] وقوله: والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي، ولا نصراني، ثم يموت، ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار[4] وكذلك في مكاتباته ﷺ إلى الملوك، فكل هذا يدل على عموم بعثته، والأدلة على هذا معروفة، ولا تخفى. 

  1.  تفسير ابن كثير ت سلامة (2/158).
  2.  تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (6/212).
  3.  أخرجه البخاري في كتاب التيمم برقم: (335) ومسلم في أول كتاب المساجد، ومواضع الصلاة برقم: (521).
  4.  أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد ﷺ إلى جميع الناس، ونسخ الملل بملته برقم: (153).