قوله تعالى: مِّنْ أَنفُسِهِمْ المعنى الأعم هنا يمكن أن يكون من جنسهم أي ليس من جنس آخر كالملائكة، فمن رحمة الله أن جعله مشاكلاً لهم يستطيعون الأخذ عنه، والاقتداء به، فلو كان ملكاً من الملائكة فإنهم لا يستطيعون رؤيته على هيئته الحقيقية فضلاً عن الأخذ منه، ثم أيضاً كل ما يفعله ذلك الملك يقال فيه: هذا ملك ليس فيه شهوات، وليس فيه كذا، فهو ليس محل الاقتداء بالنسبة إليهم.
ويحتمل معنىً أخص من هذا وهو أن يكون من أهل لسانهم يعني من العرب وهذا الذي اختاره ابن جرير، ويمكن أن يستشهد له بقوله - تبارك وتعالى - في الآية الأخرى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ [سورة الجمعة:2] فهذا الرسول في الأميين أمي مثلهم، وذلك ليكون مشاكلاً لأحوالهم يفهمون عنه، ولذلك يقولون: إذا أردت قتل الفيلسوف فضعه بين العوام؛ لأن الفيلسوف يتكلم بكلام لا يفهمه الناس، فهو يتكلم بأشياء يتفلسف فيها، فإذا وضعته بين العامة يموت؛ لأنه لا يجد من يسايره، حتى إن الناس يقولون عنه: إنه مجنون، فالأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - يعلمون الناس، ويبلغونهم شرع الله بطريقة تلائم الفطرة فيفهمونها، فهذه الأشياء التي جاء بها الأنبياء يتدين بها، ويعمل بها الأعرابي في الصحراء، وأهل الحضر في كل زمان، ومكان، فهي كما يقول الشاطبي - رحمه الله -: "شريعة أمية"، فالحاصل أن الآية تحتمل هذا المعنى: رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ أي: من أهل لسانهم، أي من الأميين.
على كل حال في مثل هذا إذا احتملت الآية معنيين، وكان لكل معنىً ما يشهد له من القرآن، ولا يوجد مانع يمنع من حمل الآية على هذه المعاني؛ فإنها تحمل عليها جميعاً، فالله يمتن على المؤمنين أن بعث فيهم رسولاً من أنفسهم، وهذا يشمل جميع أهل الإيمان العرب، والعجم؛ أن جاءهم رسول من البشر يستطيعون الأخذ منه، والاقتداء به، وما أشبه ذلك، ويكون هذا الامتنان على العرب بصورة أخص حيث إنه موافق لهم للغتهم، وبلسانهم؛ فتكون المنة عليهم بهذا البعث أعظم، وبناء على ذلك لا نحتاج أن نرجح فنقول: رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ أي: بلسانهم، أو أنه من البشر، فالمنة حاصلة على المؤمنين جميعاً بهذا ولكنها أعلق بالعرب، ولذلك كلما كان الناس أخص برسول الله ﷺ من ناحية القرب باللسان، أو بالقبيلة؛ كلما كانت المنة عليهم بذلك أكثر، فالمنة على قريش أكثر من المنة على غيرها، والمنة على العرب أكثر من العجم.
يعني أن التزكية تحصل بالتطهير من الذنوب، والأرجاس، والشرك وما أشبه ذلك، كما تزكو بعمارة النفوس بتقوى الله تعالى، وتتخلص النفوس من الرواسب، ومن الانحرافات بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ولهذا قال ابن كثير: "يأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر"، فهذا هو سبب تزكية النفوس بأن يأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر، فيحصل أثر ذلك ونتيجته.