هذه الآيات عظيمة جداً تحمل معانيَ كبيرة، ولو أن الناس تأملوا فيها لم يكن حال المسلمين على ما نحن عليه الآن، ومشكلة هؤلاء الذين يكذبون على الله ليست مع شيء إلا مع القرآن، نعم مشكلتهم مع القرآن، فما عليهم إلا أن يخرجوا نسخة مختصرة يحذفون فيها كل هذه الآيات ليقولوا: الإسلام دينُ إذا لطمك على خدك الأيمن أدِر له خدك الأيسر.
هذه الآيات قدرها نحو ستين آية كلها تتحدث عن وقعة واحدة فقط، فيها ترغيب للمؤمنين بالجهاد، وحث لهم على نصرة دين الله ، وبعد ذلك يأتي من يكذب على الله ، ويقول: الإسلام ليس فيه هذا، ويلفقون زوراً من القول بهتاناً، وباطلاً يناقض صريح الإيمان؛ وذلك أنه في وقت الهزيمة تظهر قرون النفاق والمنافقين - لا كثَّرهم الله -.
ولا بد أن نعلم أن الجهاد شيء، والسفه الذي يحصل هنا وهناك شيء آخر، فالجهاد الحقيقي الذي هو قتال أعداء الله فهذا ماضٍ إلى يوم القيامة، لن يستطيع أحد أن يوقفه أو يبطله كائناً من كان، فالجهاد الحقيقي قائم وموجود في هذا الزمان، وفي كل زمان، أما الانحرافات، وما يحصل من الخروج عن الجهاد المشروع من بعض الذين ينتسبون إليه فهؤلاء لا يمثلون إلا أنفسهم، وجنايتهم على أنفسهم، وخطؤهم، وانحرافهم؛ مردود عليهم، لكن لا يلصق هذا بالإسلام، ولا يلصق بالجهاد في سبيل الله ، ويقال: هذا حال الجهاد، ليس هذا حال الجهاد وإنما هو نوع من الانحراف، والإفساد في الأرض، وهذا ينبغي أن يعرفه الناس.
وما نسمع أحياناً من بيانات وتصريحات من بعض المنتسبين للجهاد الذين يحرضون فيه على شيء يحسبونه جهاداً فهذا نوع من الإفساد في الأرض، وهو خروج عن مقتضى العقل، والنقل، وإشاعة الفوضى، والإفساد في الأرض، وهو مرفوض، لكن الجهاد الحقيقي - جهاد أعداء الله - فهذا ماضٍ إلى يوم القيامة، ولن يستطيع أحد أن يوقفه مهما اجتمع أهل الأرض؛ فعندنا أصل كبير في هذا وهو أن الجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة، ونحن مطمئنون لهذا كل الاطمئنان، فينبغي أن نفرق بين هذا وبين غيره، فالناس بحاجة إلى هذا التفريق، وإلى أن يعرفوا حقائق ما أنزل الله ؛ لأن الناس إذا سكتوا عن بيان الحق، وتُرِك لكل كاتب، ومزوِّر، وأفَّاك، أن يتكلم، وينظِّر؛ فمتى يعرف الناس الحق؟
كما أنه لا يصح السكوت أيضاً عن الخطأ والانحراف، وإنما على الإنسان أن يتكلم بعلم وعدل، وإذا كان الإنسان لا يستطيع أن يتكلم بحق فليسكت، ولا يتكلم بالباطل، والله المستعان.
وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [سورة آل عمران:173] روى البخاري عن ابن عباس: "حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [سورة آل عمران:173] قالها إبراهيم حين ألقي في النار، وقالها محمد ﷺ حين قالوا: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [سورة آل عمران:173]"[1].
وروى أبو بكر بن مردويه عن أنس بن مالك عن النبي ﷺ أنه قيل له يوم أُحد: إنَّ الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم، فأنزل الله هذه الآية، ولهذا قال تعالى: فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ [سورة آل عمران:174] أي: لما توكلوا على الله كفاهم ما أهمهم، وردَّ عنهم بأس من أراد كيدهم، فرجعوا إلى بلدهم بنعمة من الله، وفضل لم يمسسهم سوء؛ مما أضمر لهم عدوهم".
فقوله - تبارك وتعالى -: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ [سورة آل عمران:173] هذا مثال عند الأصوليين حينما يذكرون العام المراد به الخصوص وهو استعمال اللفظ العام في معنىً خاص، وذلك إذا فسرت هذه الآية: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ باعتبار أن القائل واحد وهو: أبو سفيان، أو من أرسله أبو سفيان وهو نعيم بن مسعود مثلاًً، أو غير ذلك مما قيل، فالمقصود أن القائل واحد، وهكذا الأمر في قوله: الَّذِينَ فهو اسم موصول، والأسماء الموصولة تعتبر من صيغ العموم، لكن قيل: إن المقول له ذلك واحد وهو أبو بكر الصديق ، وعلى كل حال هذا مثال مشهور يذكرون فيه هذا الأمر، لكن ليس بالضرورة أن يكون هذا هو المراد، فقد يكون من العام الباقي على عمومه، فقوله: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ أي الذين توعدهم من لقيهم من الناس من أهل الإشراك وقائدُهم أبو سفيان إِنَّ النَّاسَ أي: المشركين من قريش الذين حاربوكم في أحد، قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ أي عزموا على الكرة والرجوع إلى استئصالكم، فيكون بهذا الاعتبار من العام الباقي على عمومه، لا سيما في قوله: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ [سورة آل عمران:173]، وأما قوله: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ فيمكن هنا أن يكون ذلك أظهر في أن القائل واحد، والله أعلم.
وقوله - تبارك وتعالى -: فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ [سورة آل عمران:174] النعمة هي ما يحصل للإنسان من المنافع والخير، سواء كان ذلك في الأمور العاجلة، أو في الأمور الآجلة فذلك كله من النعم، وسواء كان معنوياً أو حسياً.
وقوله: وَفَضْلٍ الفضل هو الزيادة، فسواء قيل: إن النعمة: هي السلامة مثلاً أي أن الله سلمهم من عدوهم فهاب ورجع، ولهذا قال بعده: لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ [سورة آل عمران:174] والفضل: هو الثواب والأجر، بأن عُدت تلك غزوة مع أنهم لم يواجهوا فيها عدواً، أو قيل بأن النعمة هي رحمة الله ، وثوابه لهم، والفضل هو الزيادة وذلك أنهم لقوا عيراً في الطريق في الموسم فاشتروا تلك العير فكان ذلك من المكاسب التي حصلت لهم عرَضاً، فكل ذلك تحتمله الآية.
ويمكن أن يكون المراد بهذه النعمة هي أن الله سلمهم، والفضل هو أن الله أثابهم مع أنهم لم يلقوا حرباً، ولذلك قال بعده: لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ [سورة آل عمران:174] والله تعالى أعلم.
- أخرجه البخاري في كتاب التفسير - باب تفسير سورة آل عمران (4287) (ج 4 / 1662).