الخميس 25 / شوّال / 1446 - 24 / أبريل 2025
إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ ٱلشَّيْطَٰنُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَآءَهُۥ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"ثم قال تعالى: إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ [سورة آل عمران:175] أي: يخوفكم أولياءه، ويوهمكم أنهم ذوو بأس، وذوو شدة".

إِنَّمَا ذَلِكُمُ أي: المثبط لكم هو الشيطان، والمعنى أن الشيطان يضخِّم الكفار في أعينكم، ويجعل لهم هالة، ويجعل منهم أصحاب قوة لا يمكن أن تُدحر، ولا تقهر، ولا تهزم، فهذا هو الشيطان الذي يجعل لهم مثل هذا الانتفاش والتعاظم، أو العظمة في نظر الآخرين.
والمعنى المتبادر الظاهر - والله أعلم - في قوله: يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ أي: يخوفكم من أوليائه، وأولياؤه هم الكفار، فالشيطان يخوف المؤمنين منهم بأن يلقي في نفوسهم أموراً يتعاظمون فيها قوة الكفار، وما بأيديهم ؛حتى يشعرهم أن هؤلاء الكفار قوة لا يمكن أن تواجه، ولا تقهر.
فالحاصل أن هذا هو المعنى، وليس معناها أن الشيطان يخوف ويلقي الرعب والخوف في قلوب أوليائه، فليس هذا هو المراد، بل هو يحرضهم على الإقدام على أهل الإيمان كما حصل في بدر لما زين لهم أعمالهم، وقال: وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ [سورة الأنفال:48] فهو الذي دفعهم إلى المواجهة.
وقوله: يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ أبلغ من قوله: إنما ذلكم الشيطان يخوفكم أولياءه؛ لأن قوله: يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ معناه أنه يجعل لأوليائه من الهالة والعظمة بحيث إن جانبهم يكون مهيباً مرهوباً، فيرفعهم بهذا، فيحسب المؤمنون لهم حساباً، ولا يجترئون على مواجهتهم.
فالمقصود أن المعنى الظاهر المتبادر من قوله: يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ أنه يخوف المؤمنين من أوليائه لا أنه يخوف أولياءه من المؤمنين أو من غير ذلك؛ لأنه من المعلوم أن الشيطان لا يخوف أولياءه، وإنما يدفعهم ويشجعهم على المضي لحرب أهل الإيمان، فهو لا يلقي الخوف في قلوبهم، وإنما يجتهد أن يلقي الخوف في قلوب المؤمنين، وهذا عام في الجهاد في سبيل الله ، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حيث يجعل لصاحب الباطل والمنكر عظمة غير حقيقية ولو كان من أقل الناس شأناً بحيث لا يجترئ عليه المؤمن أحياناً إذا قبل عن الشيطان هذا التأثير والإلقاء، وهكذا يلقي في قلبه مهابة من هذا الإنسان، ويجعل في نفسه من الخواطر، والوساوس؛ ما يجعله ينصرف عن الإنكار عليه، فلذلك ترى الإنسان أحياناً يجد إنساناً بجانبه يأكل، ويتكئ على يده، أو يشرب بيده اليسرى، ولا يجترئ حتى على أن ينبهه، وتراه يجلس في المجلس، ويسمع الغيبة أصرح ما تكون، والاستطالة في الأعراض، وربما الذي يقوم بهذا من أبسط الناس، ومع ذلك لا يجترئ أن يقول: كف عن أعراض الناس، اتق الله، فيسكت ويجامل، ويداهن، وهذا كله من الشيطان، يقول له: إذا أنكرت فإن هذا الإنسان قد يسيء إليك، أو قد يحصل مفسدة أكبر، أو هذا الإنسان قد يقاطعك، أو يفهم هذا على غير مرادك، فيترك الإنسان مثل هذه الأشياء، وأحياناً يصلي بجانبه إنسان يرى عليه ألوان المنكرات فلا يكلمه، وأحياناً يراه لا يعرف يصلي فلا يجترئ على أن يكلمه ولو كان من أبسط الناس، والله المستعان.
"قال الله تعالى: فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [سورة آل عمران:175] أي: إذا سوَّل لكم، وأوهمكم، فتوكلوا عليّ، والجئوا إليّ؛ فإني كافيكم، وناصركم عليهم، كما قال تعالى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ [سورة الزمر:36] إلى قوله: قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ [سورة الزمر:38] وقال تعالى: فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا [سورة النساء:76] وقال تعالى: أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ [سورة المجادلة:19]، وقال تعالى: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [سورة المجادلة:21]، وقال: وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ [سورة الحج:40] وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ الآية [سورة محمد:7]، وقال تعالى: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ* يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [سورة غافر:51-52]".

مرات الإستماع: 0

"ذلِكُمُ الشَّيْطانُ [آل عمران:175] المراد به هنا أبو سفيان، أو نُعيم، الذي أرسله أبو سفيان، أو إبليس، و(ذلكم) مبتدأ، و(الشيطان) خبره، وما بعده مستأنف".

إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ يعني: يكون هذا استئناف.

"أو الشيطان نعتٌ، وما بعده خبر".

"ذلِكُمُ الشَّيْطانُ فيكون نعتًا، وما بعده خبر" يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فهذا هو الخبر إِنَّمَا ذَلِكُمُ يعني المثبط لكم، فيكون الشيطان، وصفًا له إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ المثبط لكم الشيطان.

س: أحسن الله إليك: ألا يكون الشيطان بدل؟

ج: الله أعلم، كأنه ما يظهر هذا، ما أعرف.

"قوله: يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ [آل عمران:175] أي: يخوفكم أيها المؤمنون أولياءه، وهم الكفار، فالمفعول الأول محذوف، ويدل عليه قوله: فَلَا تَخَافُوهُم".

يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ أي: يُخَوِّفُكُم أولياءه، يعني أن يُخوّف هنا له مفعولين، الأول: كاف الخطاب "يخوفكم" والمفعول الثاني: أولياءه، يعني إذا أردت أن تفهم الكلام هكذا كأنه: يُخوف المؤمنين أولياءه، يخوفهم الكفار.

يخوفكم من أوليائه، فله مفعولان: يخوف أهل الإيمان أعداء الله بحيث يجعل لهم انتفاشة، وهالة، وزخمًا، فيكون لهم وقع في النفوس، فيُصيب الرعب القلوب، والهلع النفوس، فتمتلئ خوفًا من هؤلاء الأعداء، وهم ليسوا بشيء، فهذه الدعايات الضخمة الآن التي يبثها الأعداء، ومن يسعى معهم بقصدٍ، أو بغير قصد هذا كله من عمل الشيطان.

ومن أعجب الأشياء التي لا ينقضي منها العجب، ولا أدري هل هذا مبلغ هؤلاء من العقل، أو أنهم هم من جملة طابور الأعداء، إذا لاحت بوارق التهديد، والحرب على بلد من بلاد المسلمين بدأ البعض في الإعلام يذكرون ما للعدو من القوة، والمواقع القريبة، والبعيدة، وكم عنده من الأسلحة الفتّاكة النووية، وراجمات، وقاذفات الصواريخ من الغواصات، التي تقذف من جوف البحر، ولا يراها الناس، وكم عندهم من الطائرات بأنواعها، وكم عندهم من المُدمرات، وكم عندهم من حاملات الطائرات، وبالرسم، وقد يضعون المقارنة، كم عند المقابل في مقابلةٍ يبدو معها الكفة ظاهرة للعدو، فحينما يقرأ الناس مثل هذا، وبالرسم، ولربما بالصور، والتشجير، ونحو ذلك، يأخذهم ما قرُب، وما بعُد، ويشعرون أنهم تحت رحمة العدو، وتحت قبضته، وتصرفه، وتسلطه، وأنهم أقرب إليه، وأخذه من اليد للفم، يأخذهم كيف شاء، متى شاء، وهم ضعفاء مساكين، مثل الشاة التي وُضعت سكين على نحرها تُغمض عينيها بذلٍ، ومهانة، ترمق السكين، وترمق ذابحها، تنتظر بس متى يقطع الأوداج، هذا واقع للأسف في هذه الأحداث التي تلوح، والحروب، والتهديدات التي تُوجه إلى بلد من بلاد المسلمين، فيأتي هؤلاء السفهاء، وينشرون في وسائلهم هذه، ولعلكم جميعًا رأيتم أشياء من هذا، فهؤلاء هم - لا شك - بفعلهم هذا رُسُل للعدو، وهم مُقدّم لجيشهم يفعلون بالمسلمين ما قد لا يفعله سلاح العدو، فعجيب أمر مثل هؤلاء كيف يفعلون ذلك.

وعلى كل حال هذا المعنى الذي تضمنته هذه الآية معنًى كبير إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ يُعطيهم من الهالة، والانتفاشة، ويُضخّمهم في النفوس من أجل أن يهابهم أهل الإيمان، وأن يحسبوا لهم ألف حساب، والواقع أنهم حزب الشيطان، والشيطان كيدُه ضعيف، وأن أهل الإيمان هم حزب الله كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة:249] فالله ولي المؤمنين، وهو ناصرهم، وأولئك لا مولى لهم.

"قال: وقرأ ابن مسعود، وابن عباس: يُخَوِّفُكم أَوْلِيَاءَهُ​​​​​​​[1] وقيل: المعنى: يُخوّف المنافقين، وهم أولياؤه من كفار قريش، فالمفعول الثاني على هذا محذوف".

"يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَه قيل: المعنى يُخوّف المنافقين، وهم أولياؤه" يعني يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ الذين هم أهل النفاق "من كفار قريش، فالمفعول الثاني على هذا محذوف" وعلى الأول المفعول الأول هو المحذوف، يخوفكم أولياءه، وعلى المعنى الثاني يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ يعني المنافقين يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ يخوفهم من؟ يخوفهم قريشًا، فهذا المفعول الثاني، لكن القول الأول هو المُتعين، وهو الذي تحته هذه العبرة الكبيرة، والمعنى الذي أشرت إليه.

وفي قوله: "وقرأ ابن مسعود، وابن عباس: يُخَوِّفُكم أَوْلِيَاءَهُ وهذه القراءة غير متواترة تُفسّر القراءة المتواترة يُخَوِّفُكُم أَوْلِيَاءَهُ فهذه، واضحة لا إشكال فيها.

وكذلك في قراءة أُبيّ بن كعب: (يُخَوِّفُكُم بأَوْلِيَائِهِ) [2].

يقول هنا في التعليق على القراءة الأولى: يُخَوِّفُكُم أَوْلِيَاءَهُ قال: "وبذلك قرأ النخعي" ينقل عن ابن عطية، "وحكى أبو الفتح بن جني" وأبو الفتح بن جني له كتاب في القراءات الشواذ اسمه (المحتسب) "عن ابن عباس أنه قرأ: يُخَوِّفُكُم أَوْلِيَاءَه فهذه قراءة ظهر فيها المفعولان"[3].

  1. البحر المحيط في التفسير (3/440).
  2. المصدر السابق).
  3. تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (1/544).