شهد تعالى، وكفى به شهيداً، وهو أصدق الشاهدين، وأعدلهم، وأصدق القائلين: أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ: أي المتفرد بالإلهية لجميع الخلائق، وأن الجميع عبيده، وخلقه، والفقراء إليه، وهو الغني عن ما سواه، كما قال تعالى: لَّكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ الآية [سورة النساء:166]، ثم قرن شهادة ملائكته، وأولي العلم بشهادته، فقال: شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ [سورة آل عمران:18]، وهذه خصوصية عظيمة للعلماء في هذا المقام".
فقوله - تبارك، وتعالى - هاهنا: شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ، هذه الشهادة عبارات السلف في تفسير معناها تدور على الإعلام، والبيان، والإخبار، والحكم، والقضاء، هذه مجمل الألفاظ الواردة عنهم في تفسيرها.
والحافظ ابن القيم - رحمه الله - أطال في الكلام على هذه الجملة، وذكر أن هذه المعاني التي ذكرها السلف - - لا تخرج عن معناها، وأنها من جملة مراتبها؛ وذلك أن الشهادة لا بد فيها من العلم بالمشهود به؛ فإن الشاهد لا بد أن يكون عالماً بمضمون شهادته، وإلا فإن الشهادة بجهل فيما يشهد به لا تصح، فهذا أمر لا بد منه، ثم أيضاً التكلم بذلك، فإذا تكلم به، وإن لم ينطق بلفظ الشهادة فقد شهد، والله قال عن أولئك الذين جعلوا الملائكة إناثاً: سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ [سورة الزخرف:19] فعدها شهادة مع أنهم لم ينطقوا بلفظ الشهادة، وهذا كثير في القرآن، فمن تكلم بشيء فقد شهد به، وكذلك أيضاً إذا أخبر به غيره، أعلم به غيره فقد شهد، والله أخبر عن توحيده، عن اتصافه بصفات الكمال إلى غير ذلك مما أخبر الله عنه مما يتصل بهذا المعنى، فهذه شهادة حيث أخبرهم بقوله، وأخبرهم بفعله، فإن أفعال الله تدل على كماله، ووحدانيته، وعدله، كما أن الله - تبارك، وتعالى - نصب في هذا الكون الذي نشاهده من دلائل التوحيد ما لا يخفى، ثم إن إخباره - تبارك، وتعالى - أيضاً بأنه لا إله إلا هو، في هذا المقام يقتضي الحكم بذلك، بل هو حكم بذلك، كما أنه يقتضي الإلزام، أي إلزام المكلفين بهذه الكلمة، وبمقتضياتها، فهو حكم منه - تبارك، وتعالى -، وإلزام.
فالحافظ ابن القيم - رحمه الله - يرى أن هذه الأمور جميعاً تدخل فيها، فهي من مراتبها العلم، والتكلم، والإخبار، والبيان، والحكم، والإلزام، وأطال في الكلام على هذا المعنى جداً، لكن هذا محصلته، وخلاصته.
في قوله تعالى: شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ [سورة آل عمران:18] يقول المفسر: "ثم قرن شهادة ملائكته، وأولي العلم بشهادته، فقال: شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ، وهذه خصوصية عظيمة للعلماء في هذا المقام": وذلك أن الله اعتبر شهادتهم، وذكرها، هذا من وجه، وذكرها أيضاً مع شهادته، وشهادة ملائكة، وأيضاً من جهة أن الله عبر عن ذلك عن شهادته، وشهادة ملائكة، وشهادة أهل العلم بفعل واحد فهو قال: شَهِدَ اللّهُ ثم ذكر هذه الشهادات بعده، ولم بقل: شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ ثم، وشهد الملائكة، وشهد أولو العلم مثلاً، وإنما عبر بفعل واحد فأدخل فيه هذه الشهادات الثلاث.
ومن أوجه كونها خصوصية عظيمة للعلماء أيضاً عِظم هذه الشهادة التي استشهدهم عليها فدل ذلك على مكانتهم، ومنزلتهم، ثم أيضاً الاختصاص، فقد اختصهم الله من بين الخلق، وبالتالي لا يشكل على ذلك أن الله لم يذكر الرسل، والأنبياء هنا، وإنما ذكر أهل العلم، فإن الرسل - عليهم الصلاة، والسلام - هم من أولى من يوصف بذلك.
ثم إن ذكر أهل العلم فيه إشارة إلى المعنى الذي من أجله حصل هذا الاعتبار لهم، وهو وصف العلم، ولا شك أن هذا من أعظم المطالب في الشهادة.
وعلى كل حال فإن الوجوه التي يمكن أن تستخرج مما يدخل تحت هذا المعنى في قوله: "وهذه خصوصية عظيمة لأهل العلم": يدخل فيه ما ذكرت، ويدخل فيه غيره مما يمكن أن يستخرج من هذا المعنى.
"قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ أي: هو في جميع الأحوال كذلك".
قوله: قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ هذه منصوبة على الحال، لكن ما هو موضعها الذي تتعلق به من هذه الآية: شَهِدَ اللّهُ ؟
من أهل العلم من يقول: إنها تتصل بلفظ الجلالة، فيكون المعنى: شهد الله حال قيامه بالقسط أنه لا إله إلا هو، فهو - تبارك، وتعالى - مقسط عادل في حكمه بهذه الشهادة التي هي أعظم شهادة على أجل مشهود به، وقد جعل الله لها أحكاماً، وتؤثر أموراً انقسم الخليقة بها إلى قسمين، ومن أجلها وجدت الجنة، والنار، ومن أجلها قرَّب أقواماً، وأبعد آخرين، وأعزَّ أقواماً، وأذلَّ آخرين، ومن أجلها أثاب، ومن أجلها عذب، إلى غير ذلك من أحكامه العادلة التي تتفرع عن هذه الشهادة، وتتصل بها، فالله شهد حال قيامه بالعدل، وبالقسط أنه لا إله إلا هو.
والمعنى الثاني: أن ذلك يتصل بما بعد إلا من قوله: شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ [سورة آل عمران:18]، فتكون متصلة بالضمير المنفصل، فيكون المعنى: لا إله إلا هو حال كونه قائماً بالقسط.
وهذا المعنى الثاني هو الذي اختاره الشيخ تقي الدين ابن تيمية - رحمه الله -، وبه قال جمع كثير من أهل العلم، فتكون شهادة الملائكة، وشهادة أهل العلم بهذا الاعتبار متضمنة لهذين الأمرين، أي تكون الشهادة واقعة على وحدانية - سبحانه، وتعالى -، وعلى قيامه بالقسط، أما على المعنى الأول، فإن هذه الشهادة لأهل العلم، وأنه لا إله إلا هو تكون واقعة على الوحدانية فقط؛ لأن المعنى الأول: شهد الله حال قيامه بالقسط أنه لا إله إلا هو، وأما المعنى الثاني: شهد الله، وشهد الملائكة، وشهد أولو العلم بأنه لا إله إلا هو، والحال أنه قائم بالقسط، فهم يشهدون على هذا، وعلى هذا.
وشهادة أهل العلم تكون بعلمهم، ومعرفتهم، وتكون أيضاً باعتقادهم، وإقرارهم، وتكون أيضاً ببيانهم، ودعائهم إلى هذه الشهادة، وعملهم بها، فكل هذا يدخل في هذه الشهادة؛ لأن من أهل العلم من يقول: إن شهادة أهل العلم بمعرفتهم أي أنهم عرفوا ذلك، ومنهم من يقول: هو إخبارهم به، وإعلامهم بذلك، والصحيح أن هذا كله داخل فيه، فإن حكمهم بهذا، واعتقادهم به مبني على العلم، والمعرفة، مع إخبارهم أيضاً، وإعلامهم غيرهم بذلك، فهم يعلمون الناس، ويخبرونهم، ويدعونهم إلى هذا، ويعملون بمقتضاها، فكل هذا من شهادتهم، والناس يتفاوتون في تحقيق هذا المعنى على قدر ما حققوا من هذه الأمور، - والله تعالى أعلم -.
ومعنى قوله: قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ [سورة آل عمران:18] أي قائماً بالعدل في أقواله، وأفعاله، وأحكامه.
لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ تأكيد لما سبق.
يقول: " لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ تأكيد لما سبق": والقاعدة: أن التأسيس مقدم على التوكيد، فالله يقول: شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ [سورة آل عمران:18]، ثم قال بعده: لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فهو ذكرها مرتين، فالحافظ ابن كثير - رحمه الله - يقول: إن هذا من قبيل التوكيد، أي أعاده للتأكيد.
ومن السلف من يقول غير ذلك، فمنهم من يقول: إن الأولى، وهو قوله: شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يقول: هذا وصف له - تبارك، وتعالى - بالتوحيد، والثانية: لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يقول: هذا تعليم من الله لخلقه أن يقولوا ذلك، أي أنه وصف نفسه بالوحدانية، ثم علم خلقه كيف يقولون، فلا يكون ذلك من قبيل التوكيد.
ومن المسائل التي تشبه هذه المسألة كلام أهل العلم في قوله - تبارك، وتعالى في سورة البقرة - مثلاً -: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هََذَا بَلَدًا آمِنًا [سورة البقرة:126] مع قوله في الآية الأخرى في سورة إبراهيم: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا [سورة إبراهيم:35]، فالفرق بين الموضعين كما يقول بعض أهل العلم أنه في الموضع الأول قال: اجْعَلْ هََذَا بَلَدًا آمِنًا؛ لأنه كان في مقام يدعو فيه ربه أن يوجد هذا البلد قبل وجوده أي أن هذا الدعاء كان قبل بناء البيت، أي فهو دعا الله أن يوجد بلداً آمناً، فلما بنيت الكعبة، وصارت موجودة دعا ربه أن يجعل هذا البيت الموجود آمناً فقال: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا [سورة إبراهيم:35].
ومن أمثلة ذلك أيضاً قوله - تبارك، وتعالى -: وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا [سورة الفتح:2] مع قوله تعالى: اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ [سورة الفاتحة:6]، فمن أهل العلم من يقول: إنه أخبره أنه سيهديه صراطاً مستقيماً، فلما عرف ذلك دعا ربه أن يهديه إلى هذا الصراط الذي أخبره الله عنه، وعرفه فقال: اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ [سورة الفاتحة:6]، والفرق بين المعنيين واضح.
فالحاصل أن قوله - تبارك، وتعالى -: لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ [سورة آل عمران:18] يحتمل ما ذكره ابن كثير من أنه للتأكيد، ويحتمل أن يكون قوله: شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ [سورة آل عمران:18]، إخبار عن شهادته بالتوحيد، وشهادة الملائكة، وشهادة أهل العلم، وتكون لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الثانية إخبار عن توحيده - سبحانه، وتعالى -، والفرق بين المعنيين أيضاً واضح، وعلى هذا المعنى تكون الثانية مؤسسة لمعنىً جديد، وليست مؤكدة، ولا شك أن هذا هو الأولى، والقولان لهما وجه قريب من النظر، - والله تعالى أعلم -.
"الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [سورة آل عمران:18] العزيز الذي لا يرام جنابه عظمة، وكبرياء، الحكيم في أقواله، وأفعاله، وشرعه، وقدره".