هذا المعنى الذي مشى عليه الحافظ ابن كثير، وهو قوله: "إخبار منه تعالى بأنه لا دين عنده يقبله من أحد سوى الإسلام": هذا باعتبار هذه القراءة المشهورة التي هي قراءة الجمهور إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ، فتكون هذه الجملة استئنافية مقررة لمعنىً جديد، حيث شهد الله بوحدانيته، ثم استأنف يتحدث عن قضية أخرى، وهي أن الدين عند الله الإسلام، فتكون إخباراً منه تعالى بأنه لا دين عنده .. إلى آخر ما ذكر، معنى هذا أنها جملة استئنافية مقررة لمضمون ما قبلها؛ لأن الإسلام يتضمن شهادة ألا إله إلا الله فهي مقررة لما سبق لكنها تعتبر جملة جديدة، أخبر عن شهادته بوحدانيته، وأنه واحد لا شريك له ثم قال: إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ، فهذا على قراءة الكسر في إن من قوله: إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ فهي جملة استئنافية، كما في قوله تعالى: إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ [سورة الطور:28]، وأما على قراءة الفتح، أي أنه قال: شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الآية ثم قال: أَنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ، فهنا يحتمل أن يكون المعنى: شهد الله بتوحيده أن الدين عند الله الإسلام، وهذا فيه بعد؛ لأن قضية التوحيد كان قضية التوحيد صارت موطئة لما بعدها، أي كأنها ذكرت للشهادة على أن الدين عند الله الإسلام، مع أن كون الدين عند الله الإسلام يتضمن كما سبق شهادة ألا إله إلا الله، ويحتمل أن تكون الشهادة واقعة على الأمرين فيكون هنا كأنه حذف واو العطف، أي شهد الله أنه لا إله إلا هو، وأن الدين عند الله الإسلام، وهذا المعنى أقرب من الذي قبله، حيث يكون المعنى أنه شهد الله بالأمرين، أما الذي قبله كأنه فيه باء مقدرة ليكون المعنى شهد الله بأنه لا إله إلا الله، يعني بكونه: لا إله إلا الله، أو بكونه واحداً لا شريك له أن الدين عند الله الإسلام، فالمعنى الثاني أقرب من الأول، ولعل أقرب من هذا أن تكون "أنَّ" الثانية في قوله: أَنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ بدلاً من "أنَّ" الأولى التي في قوله: شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ بمعنى أن شهادة ألا إله إلا الله هي بمعنى الإسلام، فهي موازية للأولى، فهي بدل منها، .
ومن أمثلة البدل قوله تعالى: وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً [سورة آل عمران:97] فهذا بدل بعض من كل، أما قوله هنا: شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ [سورة آل عمران:18]، أَنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ [سورة آل عمران:19]، فهذا بدل كل من كل، بحيث تكون الثانية هي نفس الأولى، سواء عبرت عنها بلا إله إلا الله، أو عبرت عنها بالإسلام، أو يكون بدل اشتمال، وهذا على قراءة الفتح، أما على قراءة الكسر فالمعنى، واضح أنها جملة جديدة، وهو الذي مشى عليه الحافظ ابن كثير - رحمه الله - هنا.
يقول الحافظ - رحمه الله تعالى - في قوله تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ [سورة آل عمران:19]: "لا دين عنده يقبله من أحد سوى الإسلام، وهو إتباع الرسل فيما بعثهم الله به": يلاحظ المتأمل في كلام الأنبياء - عليهم الصلاة، والسلام - يجد أنهم جميعاً كانوا يدعون إلى الإسلام، فموسى ﷺ قال لقومه: وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ [سورة يونس:84]، وكذلك إبراهيم - عليه الصلاة، والسلام - ويعقوب - عليه الصلاة، والسلام -، وصَّوا أبناءهم بالإسلام، وكذلك عيسى ﷺ، وقصته مع الحواريين، فالمقصود: أن الأنبياء - عليهم الصلاة، والسلام - كلهم جاؤوا بالإسلام، فالله يقول: إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ [سورة آل عمران:19]، ويقول: وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ [سورة آل عمران:85]، ولهذا قال الله : مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [سورة آل عمران:67]، وقال : أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطَ كَانُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللّهِ [سورة البقرة:140]، فما كانوا على اليهودية، ولا على النصرانية، وإنما كانوا على الإسلام، وهكذا كان الأنبياء - عليهم الصلاة، والسلام - كلهم على الإسلام، فالدين الذي يقبله الله هو الإسلام.
"ثم أخبر تعالى بأن الذين أوتوا الكتاب الأول إنما اختلفوا بعد ما قامت عليهم الحجة بإرسال الرسل إليهم، وإنزال الكتب عليهم فقال: وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ [سورة آل عمران:19] أي: بغى بعضهم على بعض فاختلفوا في الحق لتحاسدهم، وتباغضهم، وتدابرهم، فحمل بعضهم بغض البعض الآخر على مخالفته في جميع أقواله أفعاله، وإن كانت حقاً.
يعني أن الشر الذي يقع بين الناس لا يكون إلا من أحد أمرين: إما من الجهل، وقصور العلم، حيث يتصور الأمر على غير وجهه، فينكر بعض الحق، أو أن يكون علمه باطلاً، أي لا يكون عنده علم عنده في هذه القضية، فيتكلم بغير علم، ويقع بسبب ذلك الخلاف بين الناس، والشر.
والأمر الآخر هو البغي، وهذا الذي، وقع بين أهل الكتاب، ووقع كثيراً في هذه الأمة، وفي كتاب الاقتضاء ذكر شيخ الإسلام - رحمه الله - شيئاً من هذا الأمر، فالناس إنما اختلفوا بعد بعث الأنبياء - عليهم الصلاة، والسلام - ليس لخفاء الحق، وإنما وقع ذلك بغياً بينهم، أي من باب العدوان، والظلم فيحمل كلَّ طائفة بغضها للأخرى على إنكار ما معهم، وترك ما هم عليه، ولو كان هذا هو الحق الذي أخبر الله به، وهذا لشدة بغضهم، والبغي، والعدوان، والظلم، وتجاوز الحد، وهذا الذي نراه، ونشاهده اليوم، فهذا يأخذ بطرف من الحق، وهذا يأخذ بطرف من الحق، وهذا يرد ذلك الحق، الذي جاء به من يكرهه، ويعاديه، فكل طائفة تريد أن تنتصر على من يعاديها، ولو كان برد الحق.
"ثم قال تعالى: وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ أي من جحد بما أنزل الله في كتابه، فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ أي: فإن الله سيجازيه على ذلك، ويحاسبه على تكذيبه، ويعاقبه على مخالفته كتابه".
من معاني قوله تعالى: فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ أي سيجازيه، ويحاسبه على تكذيبه، ومن معانيها أيضاً أن الله لا يشغله كثرة الخلق عن سرعة محاسبتهم، فهو يحاسبهم كنفس واحدة، فالمخلوق عند الكثرة يحتاج إلى طول مدة، وربما يحتاج إلى أعوان، ويحتاج إلى عقد، وحسب، بينما الله سريع الحساب، على كثرة الخلق، وكثرة أعمالهم، وجناياتهم فإن حسابه سبحانه يكون لهم جميعاً كما يحاسب النفس الواحدة، كما أن قوله: فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ يشعر أيضاً أنه سريع الأخذ للظالمين، والمجرمين، فهذه المعاني يمكن أن تفهم من هذه الآية، - والله تعالى أعلم -.