الأربعاء 16 / ذو القعدة / 1446 - 14 / مايو 2025
إِنَّ ٱلدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلْإِسْلَٰمُ ۗ وَمَا ٱخْتَلَفَ ٱلَّذِينَ أُوتُوا۟ ٱلْكِتَٰبَ إِلَّا مِنۢ بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلْعِلْمُ بَغْيًۢا بَيْنَهُمْ ۗ وَمَن يَكْفُرْ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ فَإِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

وقوله تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ [سورة آل عمران:19]، إخبار منه تعالى بأنه لا دين عنده يقبله من أحد سوى الإسلام، وهو إتباع الرسل فيما بعثهم الله به في كل حين حتى ختموا بمحمد ﷺ الذي سدَّ جميع الطرق إليه إلا من جهة محمد ﷺ فمن لقي الله بعد بعثة محمد ﷺ بدين على غير شريعته فليس بمتقبل، كما قال تعالى: وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ الآية [سورة آل عمران:85]، وقال في هذه الآية مخبراً بانحصار الدين المتقبل عنده في الإسلام: إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ [سورة آل عمران:19]".
هذا المعنى الذي مشى عليه الحافظ ابن كثير، وهو قوله: "إخبار منه تعالى بأنه لا دين عنده يقبله من أحد سوى الإسلام": هذا باعتبار هذه القراءة المشهورة التي هي قراءة الجمهور إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ، فتكون هذه الجملة استئنافية مقررة لمعنىً جديد، حيث شهد الله بوحدانيته، ثم استأنف يتحدث عن قضية أخرى، وهي أن الدين عند الله الإسلام، فتكون إخباراً منه تعالى بأنه لا دين عنده .. إلى آخر ما ذكر، معنى هذا أنها جملة استئنافية مقررة لمضمون ما قبلها؛ لأن الإسلام يتضمن شهادة ألا إله إلا الله فهي مقررة لما سبق لكنها تعتبر جملة جديدة، أخبر عن شهادته بوحدانيته، وأنه واحد لا شريك له ثم قال: إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ، فهذا على قراءة الكسر في إن من قوله: إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ فهي جملة استئنافية، كما في قوله تعالى: إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ [سورة الطور:28]، وأما على قراءة الفتح، أي أنه قال: شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الآية ثم قال: أَنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ، فهنا يحتمل أن يكون المعنى: شهد الله بتوحيده أن الدين عند الله الإسلام، وهذا فيه بعد؛ لأن قضية التوحيد كان قضية التوحيد صارت موطئة لما بعدها، أي كأنها ذكرت للشهادة على أن الدين عند الله الإسلام، مع أن كون الدين عند الله الإسلام يتضمن كما سبق شهادة ألا إله إلا الله، ويحتمل أن تكون الشهادة واقعة على الأمرين فيكون هنا كأنه حذف واو العطف، أي شهد الله أنه لا إله إلا هو، وأن الدين عند الله الإسلام، وهذا المعنى أقرب من الذي قبله، حيث يكون المعنى أنه شهد الله بالأمرين، أما الذي قبله كأنه فيه باء مقدرة ليكون المعنى شهد الله بأنه لا إله إلا الله، يعني بكونه: لا إله إلا الله، أو بكونه واحداً لا شريك له أن الدين عند الله الإسلام، فالمعنى الثاني أقرب من الأول، ولعل أقرب من هذا أن تكون "أنَّ" الثانية في قوله: أَنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ بدلاً من "أنَّ" الأولى التي في قوله: شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ بمعنى أن شهادة ألا إله إلا الله هي بمعنى الإسلام، فهي موازية للأولى، فهي بدل منها، .
ومن أمثلة البدل قوله تعالى: وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً [سورة آل عمران:97] فهذا بدل بعض من كل، أما قوله هنا: شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ [سورة آل عمران:18]، أَنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ [سورة آل عمران:19]، فهذا بدل كل من كل، بحيث تكون الثانية هي نفس الأولى، سواء عبرت عنها بلا إله إلا الله، أو عبرت عنها بالإسلام، أو يكون بدل اشتمال، وهذا على قراءة الفتح، أما على قراءة الكسر فالمعنى، واضح أنها جملة جديدة، وهو الذي مشى عليه الحافظ ابن كثير - رحمه الله - هنا.
يقول الحافظ - رحمه الله تعالى - في قوله تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ [سورة آل عمران:19]: "لا دين عنده يقبله من أحد سوى الإسلام، وهو إتباع الرسل فيما بعثهم الله به": يلاحظ المتأمل في كلام الأنبياء - عليهم الصلاة، والسلام - يجد أنهم جميعاً كانوا يدعون إلى الإسلام، فموسى ﷺ قال لقومه: وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ [سورة يونس:84]، وكذلك إبراهيم - عليه الصلاة، والسلام - ويعقوب - عليه الصلاة، والسلام -، وصَّوا أبناءهم بالإسلام، وكذلك عيسى ﷺ، وقصته مع الحواريين، فالمقصود: أن الأنبياء - عليهم الصلاة، والسلام - كلهم جاؤوا بالإسلام، فالله يقول: إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ [سورة آل عمران:19]، ويقول: وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ [سورة آل عمران:85]، ولهذا قال الله : مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [سورة آل عمران:67]، وقال : أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطَ كَانُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللّهِ [سورة البقرة:140]، فما كانوا على اليهودية، ولا على النصرانية، وإنما كانوا على الإسلام، وهكذا كان  الأنبياء - عليهم الصلاة، والسلام - كلهم على الإسلام، فالدين الذي يقبله الله هو الإسلام.
"ثم أخبر تعالى بأن الذين أوتوا الكتاب الأول إنما اختلفوا بعد ما قامت عليهم الحجة بإرسال الرسل إليهم، وإنزال الكتب عليهم فقال: وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ [سورة آل عمران:19] أي: بغى بعضهم على بعض فاختلفوا في الحق لتحاسدهم، وتباغضهم، وتدابرهم، فحمل بعضهم بغض البعض الآخر على مخالفته في جميع أقواله أفعاله، وإن كانت حقاً.
يعني أن الشر الذي يقع بين الناس لا يكون إلا من أحد أمرين: إما من الجهل، وقصور العلم، حيث يتصور الأمر على غير وجهه، فينكر بعض الحق، أو أن يكون علمه باطلاً، أي لا يكون عنده علم عنده في هذه القضية، فيتكلم بغير علم، ويقع بسبب ذلك الخلاف بين الناس، والشر.
والأمر الآخر هو البغي، وهذا الذي، وقع بين أهل الكتاب، ووقع كثيراً في هذه الأمة، وفي كتاب الاقتضاء ذكر شيخ الإسلام - رحمه الله - شيئاً من هذا الأمر، فالناس إنما اختلفوا بعد بعث الأنبياء - عليهم الصلاة، والسلام - ليس لخفاء الحق، وإنما وقع ذلك بغياً بينهم، أي من باب العدوان، والظلم فيحمل كلَّ طائفة بغضها للأخرى على إنكار ما معهم، وترك ما هم عليه، ولو كان هذا هو الحق الذي أخبر الله به، وهذا لشدة بغضهم، والبغي، والعدوان، والظلم، وتجاوز الحد، وهذا الذي نراه، ونشاهده اليوم، فهذا يأخذ بطرف من الحق، وهذا يأخذ بطرف من الحق، وهذا يرد ذلك الحق، الذي جاء به من يكرهه، ويعاديه، فكل طائفة تريد أن تنتصر على من يعاديها، ولو كان برد الحق.
"ثم قال تعالى: وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ أي من جحد بما أنزل الله في كتابه، فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ أي: فإن الله سيجازيه على ذلك، ويحاسبه على تكذيبه، ويعاقبه على مخالفته كتابه".
من معاني قوله تعالى: فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ أي سيجازيه، ويحاسبه على تكذيبه، ومن معانيها أيضاً أن الله لا يشغله كثرة الخلق عن سرعة محاسبتهم، فهو يحاسبهم كنفس واحدة، فالمخلوق عند الكثرة يحتاج إلى طول مدة، وربما يحتاج إلى أعوان، ويحتاج إلى عقد، وحسب، بينما الله سريع الحساب، على كثرة الخلق، وكثرة أعمالهم، وجناياتهم فإن حسابه سبحانه يكون لهم جميعاً كما يحاسب النفس الواحدة، كما أن قوله: فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ يشعر أيضاً أنه سريع الأخذ للظالمين، والمجرمين، فهذه المعاني يمكن أن تفهم من هذه الآية، - والله تعالى أعلم -. 

مرات الإستماع: 0

"إِنَّ الدِّينَ بكسر الهمزة ابتداء، وبفتحها بدلٌ من أَنَّهُ وهو بدل شيءٍ من شيء؛ لأن التوحيد هو الإسلام".

الدِّينَ ما يدين به المرء، ويُقال: للطاعة، وأصله: الانقياد، والذل، هذا أصل الدين، تقول: دنته فدان، ويقول هنا: إِنَّ الدِّينَ بكسر الهمزة يعني همزة إنَّ، ابتداء، وهذه قراءة الجمهور، وهما قراءتان متواتران إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ فهذه جملة جديدة، مبتدأة، مستأنفة، وعلى قراءة الفتح: (أَنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ) قراءة الكسائي[1] والمعنى يتغير، فعلى قراءة الفتح (أَنَّ الدِّينَ) يكون بدلًا من أنه شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فإذا كان من أَنَّهُ فيكون بدل شيء من شيء؛ لأن التوحيد هو الإسلام، كما يقول المؤلف - رحمه الله -.

"بدل من أَنَّهُ" شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وهذه حقيقة دين الإسلام (أَنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ) فيكون (أَنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ) بدل من أَنَّهُ يعني كأنه قال: (شَهِدَ اللَّهُ. . . أَنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ)؛ لأن البدل يقوم مقام المبدل منه، فإذا رفعت الأول حلَّ الثاني مكانه تمامًا شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ (أَنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ) فهذا بمعنى أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فالإسلام هو إسلام الوجه لله قبل كل شيء، توحيد، فعلى الكسر إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ يكون كلامًا مستأنفًا، لكنه مُقرر لمضمون ما قبله، والحافظ ابن القيم - رحمه الله - ذكر أن هذا أبلغ في المدح، يعني على قراءة الكسر[2] كما في قوله - تعالى -: إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ [الطور:28].

وحينما يُقال هذا أبلغ فالتفضيل بين القراءات، والترجيح بينها لا إشكال فيه، وهو دأب العلماء، ولكن هذا يكونُ بقيد، إن الأصل، والقاعدة: أنه لا يصح الترجيح بين القراءات إذا كان يُفضي إلى توهين القراءة الأخرى، أو الوضع منها، يعني هذا كلام الله فحينما نقول بأن: مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4] أبلغ من مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ هذا لا إشكال فيه، وكلام الله  يتفاضل فـقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] ليست كـتَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [المسد:1] وكله كلام الله لكن قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ تعدل ثُلث القرآن، فهذا لا إشكال فيه، تفضيل، وترجيح، لكن بحيث لا يكون ذلك بانتقاص، أو رد، أو الحط من القراءة الأخرى الثابتة، فهذا هو الضابط، فأحيانًا بعض الموجهين للقراءات، أو المفسرين، أو المعربين قد يوهن القراءة الأخرى حال الترجيح، فيُفضي ذلك إلى الحط من كلام الله  وتوهينه.

فقراءة الفتح (أَنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ) تحتمل ثلاثة أوجه: تحتمل أنه شهد الله بتوحيده أن الدين عند الله الإسلام شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يعني بتوحيده شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إلى أن قال: (أَنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ) شهد الله بتوحيده أن الدين عند الله الإسلام. 

ويحتمل أن تكون الشهادة واقعة على الأمرين يعني شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ و(أَنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ) فعلى هذا لا تكون بدلًا، شهد على هذا، وهذا (أَنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ) وأَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لكن القول بأنها بدل هو مذهب فقهاء النحاة - أعني أهل البصرة - يقولون: (أَنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ) أنه بدل من الأولى شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فالدين هو نفس الإسلام عند الله هو شهادة أن لا إله إلا الله، والقيام بحقها، فيكون بدلًا، فهذا أقرب - والله أعلم - ولهذا لم يُذكر معه حرف العطف، لو كانت الشهادة على هذا، وهذا شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ (أَنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ) ما قال: وأن الدين عند الله الإسلام، فتكون الشهادة واحدة، فيكون الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ هو حقيقةُ التوحيد؛ ولذلك كل الأنبياء - عليهم الصلاة، والسلام - كانوا على الإسلام، وفي قوله - تبارك، وتعالى -: هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا [الحج:78] قيل: إبراهيم - عليه الصلاة، السلام - مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ فالضمير راجع لأقرب مذكور هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ وقيل: هو الله وهذا يرد فيه على النصارى في هذا الموضع من سورة آل عمران، يرد على اهل الكتاب الذين تنازعوا في إبراهيم - عليه الصلاة، والسلام، قال: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا [آل عمران:67] فهذا ردٌّ عليهم مُسْلِمًا فالدين عند الله الإسلام إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [البقرة:132] فهذا دين يعقوب - عليه الصلاة، والسلام، وبنيه، وسائر الأنبياء - عليهم الصلاة، والسلام - وإن كان بنوه ليسوا بأنبياء على الراجح، إلا يوسف - عليه الصلاة، والسلام - فهو الذي ثبتت نبوته - كما هو معلوم.

"وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ [آل عمران:19] الآية، إخبارٌ أنهم اختلفوا بعد معرفتهم بالحقائق، من أجل البغي، وهو الحسد، والآيةُ في اليهود، وقيل: في النصارى، وقيل: فيهما".

وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ يعني إن هذا الاختلاف كان بسبب الحسد بغيًا، والعدوان، والظلم، وهذا وقع لليهود، وللنصارى، فأهل الكتاب يشمل هؤلاء، وهؤلاء، لكن السياق أحيانًا يدل على أن المراد: اليهود خاصة - كما سيأتي في بعض المواضع من هذه السورة، وغيرها - وتارةً يُراد به الجميع، وهو الأصل في الإطلاق وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ فهذا الاختلاف وقع عند اليهود، ووقع عند النصارى، وكان ذلك بسبب البغي بينهم، يعني أنَّ هذا أشد، وأقبح باعتبار أن هذا الاختلاف الذي وقع بينهم كان بعد مجيء العلم، وكان الموجب لذلك هو البغي، والحسد، والعدوان، والظلم، فلم يكن ذلك بسبب خفاء الحق، وإنما كان بسبب أهواء هؤلاء، وما انطوت عليه نفوسهم، وهذا كثير، وهو مما شابهت فيه هذه الأمة أهل الكتاب، كما ذكر شيخ الإسلام - رحمه الله - في كتابه "الاقتضاء"[3] ووقع الاختلاف الكثير بين طوائف هذه الأمة بعد ما جاء الحق، واتضح، واستبان، فمات النبي ﷺ ولم يدع شيئًا مما يحتاج إليه الناس إلا بيَّنه.

هذا الاختلاف اختلفوا في ماذا؟ لا يُخص ذلك بأنهم اختلفوا مثلًا في أمر النبي ﷺ لا، وإنما الكلام في الإسلام إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ فهؤلاء اختلفوا فقال اليهود: بأن إبراهيم ﷺ كان يهوديًّا، والنصارى قالوا: كان نصرانيًّا، واختلفوا في دينهم أيضًا، وصاروا على طوائف متناحرة، واختلفوا في أصل التوحيد وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ [التوبة:30] وقالوا: ثَالِثُ ثَلاثَةٍ [المائدة:73] وقالوا: هو الله، فهذا من أسوأ الاختلاف، وأشد الاختلاف الواقع بينهم، وإلا فاختلفوا في تفاصيل الدين، والشريعة، حتى إنهم تركوا - أعني: النصارى - العمل بالتوراة بالكلية؛ لشدة العداوة بينهم، وبين اليهود، وكما ذكرنا سابقًا، وذكر الحافظ ابن كثير في الكلام على التعليق على المصباح، بأنهم بقوا بلا شريعة؛ لأن الشريعة كانت في التوراة، وهم مُتعبدون بها، فتركوها، فبقوا بلا قانون، فاخترعوا قانونًا سموه: الأمانة الكبيرة، يقول الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: وهو الخيانة الحقيرة، أو العظيمة[4].

"سَرِيعُ الْحِسَابِ قد تقدم معناه في البقرة، وهو هنا تهديدٌ، ولذلك وقع في جواب من يكفر".

مضى في البقرة، وتجدونه في صفحة (277) في الطبعة الثانية، التي بين أيديكم، وعلى كل حال قلنا: بأن سَرِيعُ الْحِسَابِ يعني يُحصي أعمال العباد بسرعة، دون الحاجة إلى عقدٍ، كما يقول ابن جرير - رحمه الله -[5] يعني الإنسان الذي يحسب قبل الآلات الحاسبة، كان يعقد بأصابعه العد، لكن الله - تبارك، وتعالى - سَرِيعُ الْحِسَابِ ليس بحاجةٍ إلى عقدٍ، وآلةٍ، أو نحو ذلك، وهو أيضًا سريع المحاسبة للخلق يوم القيامة، يحاسب جميع الخلائق على كثرة هؤلاء المحاسبين، وكثرة الأعمال، كنفسٍ واحدة، وهو أيضًا سريع المجازاة للعباد، وكذلك أيضًا فإن حسابه قريب لسرعة انقضاء هذه الحياة الدنيا، فهذه عبارات للمفسرين يمكن أن تجتمع في قوله: واللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ فكلها داخلةٌ فيه - والله تعالى أعلم - يعني هذه التي ذكرتها هي أقوال في الأصل، لكن كلها صحيح، داخل في سرعة الحساب واللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ مطلقًا. 

  1.  معاني القراءات للأزهري (1/245) والعنوان في القراءات السبع (ص:78).
  2.  التفسير القيم = تفسير القرآن الكريم لابن القيم (ص:203).
  3.  اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم (1/101).
  4.  تفسير ابن كثير ت سلامة (2/48) (2/48) (5/231) (6/301).
  5. تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (3/549).

مرات الإستماع: 0

بعد أن ذكر الله -تبارك وتعالى- هذه الشهادة العظيمة، على أجل مشهود به، وهو التوحيد، حيث قال: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران:18] قال بعد ذلك: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [آل عمران:19].

فهذه جملة مستأنفة، تؤكد ما قبلها، حيث أنه لما ذكر الشهادة بالتوحيد، ذكر بعد ذلك الإسلام، إذ الإسلام هو التوحيد، فذلك بيان للدين الذي يقبله ويرضاه، ولا يقبل ولا يرضى دينًا سواه، فهذا هو دينه الذي شرعه، وأمر عباده باتباعه وسلوكه، والدين كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يأتي لمعنيين:

الأول: بمعنى المصدر وهو الاستسلام والانقياد لله -تبارك وتعالى-، فلا يترفع عن طاعته وعبادته، ولا يكون مُستكبرًا.

والثاني: الإسلام: هو الإخلاص وَرَجُلاً سَلَمًا لِرَجُلٍ [الزمر:29][1]، فلا يكون مشركًا بالله -تبارك وتعالى-، فهذا بيان ما سبق من التوحيد إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ وقبلها قال: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فهذا التوحيد وهذا الإخلاص هو الإسلام، وإسلام العبد وجهه لربه وخالقه يعني الإخلاص للمعبود والتوحيد والاستسلام، فلا يكون معارضًا لشرعه، فهذه المعاني مُلتئمة ومُجتمعة في هذه الآية.

فقوله -تبارك وتعالى-: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19] يعني: الدين الذي ارتضاه الله -تبارك وتعالى- للخلق، وأرسل به الرسل، وأنزل به الكتب، هو الانقياد لله وحده بالطاعة، والاستسلام له بالعبودية، واتباع الرسل -عليهم الصلاة والسلام- فيما بعثهم الله به، إلى أن خُتموا بمحمد ﷺ، وكلهم أرسله الله بالإسلام، وكلهم كان يدعو إليه، لكن هذا الخلاف أو الاختلاف الذي وقع بين أهل الكتاب وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فهؤلاء اليهود والنصارى حينما تفارقوا إلى شيع وطوائف وأحزاب، إنما كان ذلك بعد قيام الحجة عليهم، والبلاغ من الرسل -عليهم الصلاة والسلام-، ونزول الكتب، وإنما حملهم على ذلك البغي والعدوان والحسد، وطلب الدنيا.

وقوله: وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ سواء كانت المُنزلة المتلوة، أو كانت المشاهدة الدالة على ربوبيته -تبارك وتعالى-، ومن ذلك آيات الأنبياء التي هي المعجزات فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ سيجازيهم على ذلك.

فقوله: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ فيه معنى الحصر، أي: الدين الإسلام، فلا دين سواه، كذلك أكده بـ(إنَّ) التي هي بمنزلة إعادة الجملة مرتين.

وكذلك أيضًا توسيط الجار والمجرور عِنْدَ اللَّهِ فإن ذلك أيضًا يُشعر بالحصر، فالدين الحق الصحيح والمقبول عند الله -تبارك وتعالى- هو الإسلام، وليس ما سواه من الأديان؛ ولهذا قال الله -تبارك وتعالى-: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا [آل عمران:67] وإبراهيم أبو الأنبياء تنازعته الطوائف كلها، فاليهود يدعون أنه كان يهوديًّا، والنصارى يدعون أنه كان نصرانيًّا، فأخبر الله -تبارك وتعالى- أنه ليس منهم في شيء، وقد كان يوصي ذريتهم بالإسلام، فيقول: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [البقرة:132] وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ أي: ويعقوب وصى بنيه، إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ اختار لكم الدين، وهو الإسلام، فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [البقرة:132] فهذا يُفسر الدين الذي ذكره قبله على سبيل الإطلاق إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ [البقرة:132] فالدين هو التوحيد، واتباع شرع الله -تبارك وتعالى- المُنزل.

كذلك أيضًا في قوله: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ توكيد الجُملة بـ(إنَّ) يدل على أهمية ما تضمنته، وإنما يؤكد ما يكون في حال من الأهمية، أو ما كان السامع فيه مترددًا، وهذا لا شك أنه في غاية الأهمية، ولا شك أن اليهود والنصارى يُنازعون في ذلك ويُجادلون.

وقوله -تبارك وتعالى-: وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فالدين الحق هو الإسلام، وأخذه بمجموعه وشموله وكماله هو سبب للاجتماع والأُلفة، وأخذ بعضه وترك بعضه يكون سببًا للتفرق والاختلاف، فهنا كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "بأن سبب الاجتماع والألفة هو جمع الدين، والعمل به كله، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، كما أمر به باطنًا وظاهرًا، وسبب الفرقة ترك حظ مما أُمر العبد به، والبغي بينهم، ونتيجة الجماعة: رحمة الله ورضوانه وصلواته، وسعادة الدنيا والآخرة، وبياض الوجوه، ونتيجة الفرقة: عذاب الله ولعنته، وسواد الوجوه، وبراءة الرسول ﷺ منهم"[2].

وفي قوله -تبارك وتعالى-: وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وفيما ذكره شيخ الإسلام: من أن أخذ بعض الدين يكون سببًا للفرقة، وأخذ جميع الدين يكون هو سبب الأُلفة، فهذا لا شك أنه واقع، فإن هذه الأمة مما أشبهت به أهل الكتاب، مما ذكره شيخ الإسلام -رحمه الله- في كتابه اقتضاء الصراط المستقيم، حيث ذكر الأمور التي شابهت بها هذه الأمة اليهود والنصارى، ومنها: التفرق والاختلاف[3]، لتتبعُن سنن من كان قبلكم[4]، ومن الأشياء التي وافقوهم وشابهوهم فيها: التفرق والاختلاف، فإذا أخذ بعض طوائف الأمة بعض الدين، وأخذ طوائف بعض الدين، وأخذ آخرون بعضه، كان ذلك سببًا للنزاع، وهناك فرق بين اختلاف التنوع، واختلاف التضاد، يعني: يمكن أن يقوم بعض المسلمين ببعض الأعمال ووظائف العبودية فيما زاد عن الواجب، يعني: أن يقوم هؤلاء مثلاً بكفالة الأيتام والأرامل، والقيام على الفقراء والمساكين والمحتاجين، وما أشبه ذلك، ويقوم آخرون بالدعوة إلى الله، وتقوم طائفة ثالثة: بتعليم الناس العلم الشرعي، فهذا لا إشكال فيه؛ لأنه من باب اختلاف التنوع، لكن الاختلاف الذي يورث الشحناء والبغضاء والتفرق، وما إلى ذلك بأن يأخذ بعض طوائف الأمة ببعض الدين على أنه هو الدين الذي بعث الله به رسوله ﷺ، ويجعل هذا الجانب هو الأصل، فمن دخل معه فيه والاه، ومن لم يدخل معه فيه، ولم يُشاركه في هذا العمل، فإنه يُنابذه ويُعاديه، فهذا لا يجوز، وهو حرام.

فمثلاً لو أن أحدًا أخذ من الدين الجهاد في سبيل الله، والجهاد هو ذروة سنام الإسلام، لكن أن يُحصر الإسلام بالجهاد، ثم من لم يدخل معه فيه فإنه يُلمز ويُعاب، وينقبض منه، وما أشبه ذلك، فهذا لا يجوز، وهكذا قد يأخذ البعض العلم الشرعي، ويُضخم هذه القضية، فمن دخل معه فيه فإنه يُقربه ويُحبه ويؤثره، ولم يدخل معه فيه فإنه يشنأه ويُعاديه، ويُنفِّر منه، ونحو ذلك، وهكذا من يأخذ الدعوة إلى الله -تبارك وتعالى-، ويجعل هذا كل شيء، ويُنابذ من سواه، فهذا لا يجوز بحال من الأحوال، فهذا يكون كما وقع لأهل الكتاب، حيث فرقوا دينهم، وكانوا شيعًا، والواجب على المسلم أن يأخذ الإسلام بكماله وشموله، كما جاء به الرسول ﷺ، ويُحب للمؤمنين ما يُحب لنفسه، ومن كان مُلتزمًا شرائع الدين وعقائده وأصوله وفروعه فهو وليه، وينقص من هذه الموالاة بحسب ما نقص من طاعة الله، وطاعة رسوله ﷺ، هذا هو المعيار الصحيح من غير أي اعتبار آخر، فلا يتم تعليق الولاء والبراء بمثل ذلك، فتتفرق الأمة إلى طوائف متناحرة.

وقوله: وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فيه إشارة إلى أن هذا الاختلاف والبغي الذي وقع منهم هو نوع من الكفر؛ لأنه قال بعده: وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ فهؤلاء أفسدوا الدين، وفرقوه، وتفرقوا فيه، وجحدوا دين الإسلام.

ويُؤخذ أيضًا من قوله: وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ الحصر إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ هذا فيه تشنيع عليهم، أنه لم يحصل هذا التفرق والاختلاف إلا بعد قيام الحجة عليهم، ولم يكن ذلك لخفاء العلم، وسبب الجهل، وإنما كان بعد بلوغ الحجة، وقيام الحجة الرسالية عليهم، فهذا أشنع وأقبح بلا شك.

وكذلك كونهم أهل كتاب وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ويقع منهم هذا التفرق والاختلاف، فلا شك أن هذا أشد وأسوأ حالاً؛ ولهذا قيل: على قدر المقام يكون الملام، فالتفرق حينما يقع بين أهل كتاب لا شك أنه أشد من وقوعه بين طوائف من المشركين الذين لا عهد لهم بالكتاب والرسالة.

وأيضًا فإن قوله -تبارك وتعالى-: بَغْيًا بَيْنَهُمْ فيه تشنيع على هؤلاء بأن البغي والحسد هو الذي حملهم على هذا التفرق، ولم يكن ذلك طلبًا للحق، وهكذا أكثر التفرق الواقع بين طوائف هذه الأمة، إنما هو بسبب البغي، فربما يجتهد من يجتهد ويُخطأ، فيحصل بغي من مُخالفيه عليه، فيُجعل من هذا الخطأ سببًا للتفرق والتدابر والتقاطع الذي نهى الله عباده عنه، فهذا لا يجوز كما هو معلوم، إلا إذا كان ذلك الاختلاف مما يسوغ التقاطع والتدابر، أما الاختلافات الاجتهادية، والاختلاف السائغ في أمور ليست قطعية، وأمور للاجتهاد فيها موضع، فإن هذا لا يجوز للناس إذا اختلفوا فيه أن تحصل بينهم العداوة والبغضاء والتطاحن والتراشق والتنابذ، وانظر إلى ما يجري بين طوائف الأمة اليوم، لا سيما مع هذه الوسائل التي استعملت على وجه غير مرضي في الغالب، فصار التراشق والاتهام والتضليل والتبديع والرمي بالعظائم بسبب ربما مُخالفات اجتهادية، وربما لو صدر هذا الاجتهاد ممن يوافقه ويُحبه لم يُحرك ساكنًا، بل لعدّ ذلك من مناقبه، ولكنه إذا صدر ذلك الاجتهاد ممن يشنأه ويُبغضه جعل ذلك سبيلاً للطعن، والنيل منه، بل ربما إخراجه من الدين -نسأل الله العافية-، فهذا لا يجوز، فالتبديع والتضليل والتفسيق والتكفير كل ذلك حق للشارع، وليس للناس يوزعون مثل هذه الألقاب والأحكام بحسب ما يهوونه.

وأيضًا في قوله -تبارك وتعالى-: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فهذا الكلام فيه ترابط، فلما كان الدين هو الإسلام، فإن الذين خالفوه من أهل الكتاب لم يقع ذلك منهم إلا بعد أن جاءهم العلم، إذًا كان مُخالفتهم وكفرهم أشد وأعظم، وبيّن سببه وهو البغي.

وأيضًا في قوله: وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لم يذكر اختلفوا في ماذا؟  فهم اختلفوا في كتابهم، واختلفوا في دينهم، فصاروا فرقًا، فالنصارى فرق كثيرة، والطوائف الكبرى منها ثلاث، يُكفر بعضها بعضًا، والنبي ﷺ يقول: افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، فواحدة في الجنة، وسبعون في النار، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، فإحدى وسبعون في النار، وواحدة في الجنة[5]، وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يعني: فيما بينهم، وأيضًا في اختلافهم على أنبياءهم، وفي اختلافهم على رسول الله ﷺ، والدين الذي جاء به، فردوه وكفروا به، وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ اختلفوا في ماذا؟ فهنا حذف المُتعلق يدل على العموم.

وكذلك أيضًا هنا حينما قال: إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ فهذا العلم بماذا؟ العلم بكتابهم، وما جاء به رسولهم، والعلم بدينهم، والعلم بما جاء به الرسول ﷺ، فكل ذلك -والله أعلم- داخل فيه، فهو يُفيد العموم.

وقوله -تبارك وتعالى-: إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ هذا العلم ما المقصود به؟

بعض العلماء يقولون: العلم هو الكتاب المُنزل عليهم: التوراة والإنجيل، وبعضهم يقول: المقصود به القرآن، والحمل على الإطلاق الذي أشرت إليه آنفًا يقتضي حمله على ذلك كله، فإن هذه الكتب المُنزلة هي مصدر العلم، فكان ذلك من قبيل إطلاق السبب على المُسبب.

وقوله -تبارك وتعالى-: بَغْيًا بَيْنَهُمْ يدل على أن هذه الصفة راسخة في أهل الكتاب، والله -تبارك وتعالى- حينما يذكر ذلك فإنما يذكره من أجل أن يستبين سبب هذا الاختلاف والكفر الواقع لدى أهل الكتاب، ومن جهة أخرى من أجل أن نتجنب مثل هذه الأسباب، فلا نقع في شيء منها.

ثم قال الله -تبارك وتعالى-: وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ فهذا فيه وعيد لمن يكفر بآيات الله -تبارك وتعالى- بأنه سيصير إلى الله -تبارك وتعالى-، وسيُجازيه على كفره مُجازاة في غاية السرعة، فهو سَرِيعُ الْحِسَابِ والحساب هنا إحصاء أعمال هؤلاء العاملين من الكفر والتفرق والاختلاف، وما إلى ذلك، فالله -تبارك وتعالى- يُحصيها عليهم جميعًا، كما أنه يُحاسب الخلق جميعًا على كثرتهم، وكثرة أعمالهم، كنفس واحدة، فهو سريع الحساب، كذلك في حسابه -تبارك وتعالى- لا يحتاج إلى ما يحتاج إليه البشر من آلات، وعد وحساب، وعقد بالأصابع مما يفعله البشر، فالله -تبارك وتعالى- أعظم من ذلك وأجل، وكذلك جاء التأكيد لهذه الجملة فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ لأن ذلك مما يحتاج إلى توكيد لأهميته البالغة.

وهكذا في قوله: فَإِنَّ اللَّهَ لم يقل: فإنه سريع الحساب، وإنما أظهر الاسم الكريم في مقام يصلح فيه الإضمار، فذلك لتربية المهابة؛ ولأن ذلك أعظم وأفخم، وفيه ما فيه من التهويل، والله تعالى أعلم. 

  1. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لابن تيمية (ص:56).
  2. مجموع الفتاوى (1/ 17).
  3. اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم (1/ 101).
  4. أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة باب قول النبي ﷺ: لتتبعن سنن من كان قبلكم برقم: (7320) ومسلم كتاب العلم، باب اتباع سنن اليهود والنصارى برقم: (2669).
  5. أخرجه بهذا اللفظ ابن ماجه في كتاب الفتن باب افتراق الأمم برقم (3992) وصححه الألباني.