الأربعاء 16 / ذو القعدة / 1446 - 14 / مايو 2025
فَإِنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِىَ لِلَّهِ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِ ۗ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوتُوا۟ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْأُمِّيِّۦنَ ءَأَسْلَمْتُمْ ۚ فَإِنْ أَسْلَمُوا۟ فَقَدِ ٱهْتَدَوا۟ ۖ وَّإِن تَوَلَّوْا۟ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ ٱلْبَلَٰغُ ۗ وَٱللَّهُ بَصِيرٌۢ بِٱلْعِبَادِ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

"ثم قال تعالى: فَإنْ حَآجُّوكَ أي: جادلوك في التوحيد فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ أي: فقل أخلصت عبادتي لله وحده لا شريك له، ولا ند له، ولا ولد له، ولا صاحبة له، وَمَنِ اتَّبَعَنِ : أي على ديني يقول كمقالتي، كما قال الله تعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي الآية [سورة يوسف:108]".
عبر هنا بالمحاجة، والأصل أنه يكون بالإدلاء بالحجة، وهؤلاء كما أخبر الله : حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ [سورة الشورى:16]، وهي ليست حجة في الواقع أصلاً لكن هم لما اعتبروها حجة، واعتدوا بها في الجدال سميت كذلك، كما سمى الله آلهتهم آلهه مع أنها لا تملك من ذلك الوصف، أو التسمية شيئاً، لا قليلاً، ولا كثيراً، لكن هي باعتبار نظرهم، وحكمهم، فجرى الخطاب بهذا الاعتبار، فهذا منه هنا: فَإنْ حَآجُّوكَ [سورة آل عمران:20]، سماها محاجة؛ باعتبار أن هذا يدلي بحجة، وهذا يدلي بحجة، وهذه حقيقة الجدال، والرد كما يلاحظ أنه اكتفى بقوله: فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ [سورة آل عمران:20].
"ثم قال تعالى آمراً لعبده، ورسوله محمد ﷺ أن يدعو إلى طريقته، ودينه، والدخول في شرعه، وما بعثه الله به الكتابيين من الملتين، والأميين من المشركين، فقال تعالى: وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ [سورة آل عمران:20] أي: والله عليه حسابهم، وإليه مرجعهم، ومآبهم، وهو الذي يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، وله الحكمة البالغة، والحجة الدامغة، ولهذا قال تعالى: وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ أي: هو عليم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الضلالة، وهو الذي لا يسأل عما يفعل، وهم يسألون؛ وما ذلك إلا لحكمته، ورحمته.
وهذه الآية، وأمثالها من أصرح الدلالات على عموم بعثه - صلوات الله، وسلامه عليه - إلى جميع الخلق، كما هو معلوم من دينه ضرورة، وكما دل عليه الكتاب، والسنة في غير ما آية، وحديث".

أخذ الحافظ بن كثير هذا الإطلاق للأميين من قوله تعالى: وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ [سورة آل عمران:20] باعتبار أن الناس إما أهل كتاب، وإما أن يكونوا على الإشراك، يعني لا دين لهم يدينون به يرجع إلى كتاب منزل، فالناس إما هذا، وإما هذا، فذكر الأميين، وهم أهل الشرك، وهذا وإن كان يطلق - أعني الأميين - على الذين بعث فيهم النبي ﷺ من العرب، ولكن حقيقة ما هم عليه هو الإشراك بالله ، فيدخل في ذلك جميع أمم الشرك، فهذا يدل على بعثته ﷺ كانت موجهة لأهل الكتاب، ولغيرهم من طوائف المشركين.
"وهذه الآية، وأمثالها من أصرح الدلالات على عموم بعثته - صلوات الله، وسلامه عليه - إلى جميع الخلق، كما هو معلوم من دينه ضرورة، وكما دل عليه الكتاب، والسنة في غير ما آية، وحديث، فمن ذلك قوله تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [سورة الأعراف:158]، وقال تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا [سورة الفرقان:1]، وفي الصحيحين، وغيرهما مما ثبت تواتره بالوقائع المتعددة أنه ﷺ بعث كتبه يدعو إلى الله ملوك الآفاق، وطوائف بني آدم من عربهم، وعجمهم، كتابيهم، وأميهم؛ امتثالاً لأمر الله له بذلك.
وقد روى عبد الرزاق عن معمر عن همام عن أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال: والذي نفسي بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي، ولا نصراني، ومات، ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أهل النار [رواه مسلم:][1].
وقال ﷺ: بعثت إلى الأحمر، والأسود[2]، وقال: كان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة[3]".
  1. أخرجه مسلم في كتاب الإيمان - باب، وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد ﷺ إلى جميع الناس، ونسخ الملل بملة (153) (ج 1 / ص 134)
  2. أخرجه أحمد (14303) (ج 3 / ص 304)، والدارمي (2467) (ج 2 / ص 295)، وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين.
  3. أخرجه البخاري في أبواب المساجد - باب قول النبي ﷺ: جعلت لي الأرض مسجداً، وطهوراً (427) (ج 1 / ص 168)، ومسلم في كتاب المساجد، ومواضع الصلاة (521) (ج 1 / ص 370). 

مرات الإستماع: 0

"فَإِنْ حَاجُّوكَ أي: جادلوك في الدين، والضمير لليهود، ونصارى نجران".

"فَإِنْ حَاجُّوكَ أي: جادلوك في الدين، والضمير لليهود، ونصارى نجران" عمومًا لأهل الكتاب، لكن هو ذكر نصارى نجران؛ باعتبار أن صدر هذه السورة إلى بضع، وثمانين آية نزلت في نصارى نجران، وكما ذكرت لكم بأن ذلك من جهة الرواية لا يثبت فيه شيء - والله أعلم -. نعم وفد نصارى نجران ثابت بلا إشكال أنهم قدموا على النبي ﷺ وذلك في الصحيحين[1] لكن الكلام في نزول السورة بهم، في قدوم الوفد.

فمعنى فَإِنْ حَاجُّوكَ أي: جادلوك في الدين، بعد هذا البيان، والإيضاح، سواء كان نصارى نجران، أو غير نصارى نجران، وكذلك اليهود، وقد جاء في بعض الروايات - لكنها لا تصح: أن أحبار اليهود اجتمعوا مع نصارى نجران لما جاءوا عند النبي ﷺ وتجادلوا، وادَّعى اليهود أن إبراهيم - عليه الصلاة، والسلام - كان منهم، وادَّعى النصارى أن إبراهيم - عليه الصلاة، والسلام - كان منهم - كما سيأتي في رد الله - عليهم، لكن هذه الرواية لا تصح من جهة الإسناد[2].

"أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ [آل عمران:20] أي: أخلصت نفسي، وجملتي".

الوجه أشرف الأعضاء - كما هو معلوم، وهو مجمع الحواس، وبه يكون الانقياد، وعدم الانقياد؛ لهذا كان أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد؛ لأنه يضع أشرف الأعضاء على موطئ الأقدام، هذا من ناحية الوجه أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ يعني الوجه الحقيقي، وكذلك أيضًا فيه معنى التوجه، والقصد أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ أي الوجهة، فالوجه يحتمل الوجه الذي هو الوجه المعروف الصفة، وذلك أن الإنسان إذا قصد شيئًا وجه وجهه إليه، وعُبِّرَ بالوجه؛ لأنه الأشرف.

ويحتمل أن يكون المراد: هو الوجهة، وبينهما ملازمة؛ لأنه إنما يتوجه بوجهه أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ فالوجه المعروف، والوجهة، والقصد، هذا في صفة المخلوق، وبطبيعة الحال كما ترون أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ فالمقصود به:

فلواحدٍ كن واحدًا في واحد ۝ أعني سبيل الحق، والإيمانِ[3].

فهذا توحيد الوجهة، والموضع يحتمل، وقد مضى الكلام على قوله: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة:115] في صفة الله هل هذا من الصفات؟ وتكلمتُ على هذا، وجمعتُ بين المعنيين اللذين يذكرهما المفسرون من أهل السنة المحضة - أهل السنة، والجماعة - ونحن لا نذكر أقوال أهل البدع، لكن الآية تحتمل فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ وذكرت كلام شيخ الإسلام أنه يقول: بأنها ليست من آيات الصفات أصلًا، وإنما المقصود الجهة[4] وقول من قال: إنها من آيات الصفات، وذكرت وجه الجمع بينهما هناك.

"أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ [آل عمران: 20] أي: أخلصت نفسي، وجملتي لله".

يعني هنا يريد أن يقول على هذا التفسير: "أخلصت نفسي، وجملتي" أنه عبّر بالوجه عن النفس، والذات، على كل حال هذه ليست من آيات الصفات، وإنما وجه المخلوق.

"أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ [آل عمران: 20] أي: أخلصت نفسي، وجملتي لله، وعَبَّر بالوجه عن الجملة، ومعنى الآية إقامةُ الحجة عليهم؛ لأن من أسلم وجهه لله فهو على الحق بلا شك، فسقطت حجة من خالفه".

لِلَّهِ يعني فلا نوجه وجوهنا إلى غيره فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ فهنا الوجه الذي هو الصفة بالنسبة للمخلوق هنا في ذكر الوجه بالذات هو معتبر، فلا نوجه، وجوهنا إلى غيره، وفيه معنى الوجهة، فيمكن أن نعبر عن المعنى بمثل هذه العبارات التي تجمع المعنيين - والله أعلم -. 

طبعًا هذه الآيات فيها من الفوائد، والمعاني الشيء الكثير، لكن هنا نتكلم عما يذكره المؤلف مما يبين المراد، أو الترجيح لأحد الأقوال، أو نحو ذلك، أو مناقشة لقول، وإلا فالفوائد ليس هذا موضعها، فنحن بعد صلاة العشاء كل يوم - كما تعلمون - نذكر الهدايات، والفوائد من الآيات، دون اشتغالٍ هناك بالتفسير، أو الإعراب، إلا المعنى العام الإجمالي، لكن هنا نُضطر إلى بعض الأشياء مما يذكره المؤلف من الإعرابات، وهو لا يعرب كل شيء كما هو معلوم، لكن فيما يرى أن المعنى يتوقف عليه، أو توجيه القراءات، ونحو هذا.

"وَمَنِ اتَّبَعَنِ [آل عمران: 20] عطفٌ على التاء في أَسْلَمْتُ ويجوز أن يكون مفعولًا معه".

يعني: أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ يعني كذلك أسلموا وجوههم لله.

"أَأَسْلَمْتُمْ [آل عمران:20] تقريرٌ بعد إقامة الحجة عليهم، أي: قد جاءكم من البراهين ما يقتضي أن تسلموا".

هذا الصيغة أَأَسْلَمْتُمْ؟ صيغة استفهام، وذكر ابن جرير - رحمه الله -: أنه يجوز أن يكون بمعنى الأمر[5] أي: أسلموا.

وبعضهم يقول: يحتمل أنه ينادي عليهم بالبلاهة أي أَأَسْلَمْتُمْ بعد هذا البيان، والإيضاح؟ أم أنكم لم تفقهوا، ولم تسلموا بعد هذا الإيضاح، والبيان؟ يقول: ذلك تبكيتًا لهم، والزجَّاج يقول: هذا تهديد لهم، والمعنى أأسلمتم أم لا؟[6] وهذا المعنى الأخير - الذي ذكره الزجاج - استحسنه ابن عطية - رحمه الله[7] يقول: "تقريرٌ بعد إقامة الحجة عليهم، أي: قد جاءكم من البراهين ما يقتضي أن تسلموا" وهذا المعنى الذي ذكره المؤلف، حسن جيد، كأنه أوضح ممن قال: ينادي عليهم بالبلاهة، ونحو ذلك.

"فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ [آل عمران:20] أي: إنما عليك أن تبلغ رسالة ربك، فإذا بلغتها فقد فعلت ما عليك، وقيل: إن فيها موادعةً نسختها آية السيف".

هذا كما ذكرنا من أن القول بأن آية السيف نسخت مائة، وأربع، وعشرين آية، أن هذا ضعيف، يقولون: كل آية فيها تُشعر بالموادعة، والمتاركة، والصفح، والعفو، والإعراض فإنها منسوخة بآية السيف، حتى قال بعضهم بأن قوله: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ [التين:8] نسختها آية السيف، يكون المعنى: أن ذلك إلى الله، وليس إليك، إن الله هو الذي يحكم فيهم، ويحاسبهم، ويجازيهم، فليس ذلك إليك، يقولون: في أواخر شرع الجهاد، ونزول آية السيف، وهي الآية الخامسة من سورة براءة فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ [التوبة:5] الآية، يقولون: هذه نسخت مائة، وأربع، وعشرون آية - وهذا فيه نظر، والأقرب أنها لم تنسخ هذه الآيات، وأن آيات الإعراض، والصفح، والاحتمال، ونحو ذلك أنها لم تُنسخ، وأن هذه بحسب حال الأمة، فإذا كانت الأمة في حالٍ من الضعف، فإنها تكونُ مأمورة بالصبر، والإعراض عن الإساءة، والاحتمال، ونحو ذلك، وإذا كانت الأمة في حالٍ من القوة، والتمكن، ففي هذه الحال تأخذ بالعزائم. 

  1.  أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب قصة أهل نجران برقم: (4380) ومسلم في كتاب فضائل الصحابة باب فضائل أبي عبيدة بن الجراح برقم: (2420).
  2.  تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (5/481).
  3.  البيت لابن القيم انظر: توضيح المقاصد شرح الكافية الشافية نونية ابن القيم (2/258).
  4.  بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية (6/73).
  5.  تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (5/287).
  6.  معاني القرآن، وإعرابه للزجاج (1/390).
  7.  تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (1/414).

مرات الإستماع: 0

لما حكم الله -تبارك وتعالى- بقوله: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19] قال بعد ذلك: فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران:20].

فَإِنْ حَاجُّوكَ فإن جادلوك -يعني أهل الكتاب- في الإسلام والتوحيد والإخلاص لله -تبارك وتعالى- بعبادته وحده، دون ما سواه، بعد إقامة الحجة عليهم، فقل لهم: بأنني قد أخلصت لله وحده، أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ كما ذكرنا أن من معاني الإسلام -كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: الإخلاص للمعبود [1]، فهنا إسلام الوجه بمعنى: الإخلاص لله -تبارك وتعالى- في العبادة، وهكذا أيضًا من اتبعني من أهل الإيمان أخلصوا لله -تبارك وتعالى-، وانقادوا له.

وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ أي: اليهود والنصارى وَالأُمِّيِّينَ وهم أهل الإشراك من العرب أَأَسْلَمْتُمْ يعني: هل قبلتم التوحيد والإخلاص، ودخلتم فيه بعد هذا البيان، وإقامة الحجة؟  فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا يعني فهم على جادة، وطريق مستقيم، وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ فحسابهم على الله -تبارك وتعالى-، وإنما أنت مُبلغ عن الله ، وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ لا يخفى عليه من أمرهم شيء، فبصره نافذ فيهم.

ويُؤخذ من هذه الآية الكريمة: فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ من الهدايات أنه بعد بيان الحجة وإقامتها واتضاح الحق بالبراهين الواضحة، لا مجال للجدال، فإن ذلك يكون جدالًا لا يُفضي إلى نتيجة، فهو جدال لإبطال الحق ورده، وإقرار الباطل، وطريقة القرآن في مثل هذا النوع من المُجادلة هي قطعها، فهنا إذا جادلوا بعد وضوح الحق وبيانه، فهؤلاء لا مجال لمُحاجتهم ومُجادلتهم، وإنما مُباشرة أعلن الحق أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ.

وقد ذكرنا نظائر لهذا من كتاب الله -تبارك وتعالى- في بعض المناسبات، كما في سورة البقرة، حينما قال أهل الإشراك: إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا [البقرة:275] جاء الرد عليهم بقوله: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة:275] لأنهم قالوا هذه المقولة من أجل المجادلة بالباطل، فجاء هذا الرد الحاسم من غير سلوك طرق إقناعيه في الرد عليهم، وهكذا هنا قرر الله -تبارك وتعالى- ذلك، وأمر نبيه ﷺ بأن يقول: أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وأضاف الإسلام إلى الوجه، باعتبار أن الوجه هو أشرف الأعضاء، ويُعبر به عن الذات، فأشرف عضو في الإنسان يكون مُنقادًا لله -تبارك وتعالى-، فهو الذي تكون به الوِجهة والاتجاه، فإذا وجّه إلى الله وحده دون ما سواه، فذلك يعني الانقياد الكامل والاستسلام لله -تبارك وتعالى-، والإخلاص له دون التفات إلى غيره، فإن من عبد غير الله، أو اشتغل قلبه بغير الله -تبارك وتعالى-، مُراعيًا له في عمله، مُلاحظًا له في عبادته، من رياء وسمعة، ونحو ذلك، فهذا يكون مُتلفتًا غير مسلم وجهه لربه وباريه -تبارك وتعالى-؛ ولهذا كان أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد[2]، حيث يضع أشرف الأعضاء على الأرض، التي هي موضع وطأ الأقدام، ولا شك أن ذلك يكون عزة ورفعة للعبد، حينما يتواضع لربه وخالقه ، وتقدست أسماؤه.

وفي قوله -تبارك وتعالى-: أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ يدل على أن إسلام الوجه يكون لله، وهذا هو حقيقة الإخلاص لله رب العالمين، أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ فلا يجوز لأحد كائنًا من كان أن يُسلم وجهه لغير الله، ومن هنا كان الانقياد والإذعان كله لله ، فلا يكون العبد مُسلمًا وجهه لأحد من الخلق، مهما كانت منزلته، وعلت مرتبته، وإنما يكون ذلك مختصًا بالرب المالك المعبود .

وهكذا يُؤخذ منه: أن الحجة إنما تكون بقول الله -تبارك وتعالى- وحكمه، والرسول ﷺ مُبلغ عنه، فإسلام الوجه والاتباع إنما يكون للوحي.

وَمَنِ اتَّبَعَنِ فهم متبعون للنبي ﷺ، لا يتبعون أحدًا سواه، يعني: في التشريع، والطاعة والعبادة، وما إلى ذلك، فقدوتهم رسول الله ﷺ، ولا يجوز لأحد أن يضع أحدًا من الخلق بينه وبين الله -تبارك وتعالى-، يأخذ كل ما يقول، وكل ما يُفتي به، وكل ما يُقرره، فيخصه بالاتباع والطاعة سوى النبي ﷺ المُبلغ عن الله .

ومن هنا قال العلماء: بأنه لا يجوز لأحد أن يُقلد أحدًا من العلماء على سبيل الخصوص تقليدًا مُطلقًا في كل شيء، وإنما العامي يسأل أهل العلم ومن يثق بعلمه ودينه، فإذا أفتاه فهذا هو الواجب عليه، فيكون قد فعل ما أُمر به، في قوله: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43].

أما أن يتخذ أحدًا من الناس فيأخذ كل ما يقول، ولو خالف الأدلة، ولو كان ذلك القول مُخالفًا لنصوص الكتاب والسنة، فهذا لا يجوز بحال من الأحوال، والله -تبارك وتعالى- قد ذم أهل الكتاب بقوله: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة:31] وذلك أنهم ربما أحلوا لهم الحرام، وحرموا عليهم الحلال، ومع الفارق، لكن لا يجوز لهذه الأمة أن تُشابههم بحال من الأحوال، بأن تأخذ من غير الرسول ﷺ ما يكون مُخالفًا لقوله ﷺ.

وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ والأميون هم العرب الذين بُعث فيهم النبي ﷺ، أَأَسْلَمْتُمْ فهذا على سبيل التقرير بعد اتضاح الحجة وظهورها، وبيان دلائل التوحيد والحق، فاللائق بكم أن تدخلوا في هذا الإسلام الذي لا يقبل الله دينًا سواه، إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19] فهنا أَأَسْلَمْتُمْ على سبيل التقرير.

وقد يكون هذا الاستفهام مُضمنًا معنى الأمر أَأَسْلَمْتُمْ أي: أسلموا، فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا يعني أن الهدى ليس له إلا صورة متحدة، وهي الإسلام، وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام:153] فهنا وحد الصراط، وجمع السُبل؛ لأن الطريق الموصل إلى الله -تبارك وتعالى- واحد، وهو الطريق التي شرعها لعباده من أجل سلوكها، وهو الإسلام، وما عداه فهو باطل.

فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ فلاحظ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا فدخلت (قد) على الفعل الماضي، وإذا دخلت على الفعل الماضي، فهي للتحقيق، فَقَدِ اهْتَدَوا يعني: تحقق لهم الهدى على أكمل الوجوه، وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ يعني: إن أعرضوا، وعُبر بهذه الصيغة (تولوا) كما قال بعض أهل العلم: بأن ذلك مُشعر بأن النفوس فيها ميل إلى الضلال، فعبر بهذه الصيغة (تولوا) افتعلوا لما في النفوس من ميل إلى الأهواء، ونحو ذلك، فهنا لا تكترث بهم.

فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ هذا الحصر الذي يسمونه بالحصر الإضافي، فالنبي ﷺ إنما هو مُبلغ عن الله، وهو يحكم بين الناس أيضًا، وهو يقوم بوظائف العبودية، لكنه قال: فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وحصر وظيفته بالبلاغ في هذا السياق باعتبار أن ذلك يتضمن الوعيد والتهديد لهؤلاء المُعرضين، فالله -تبارك وتعالى- هو الذي يتولى جزاءهم وحسابهم، ويُعاقبهم على أعمالهم، فإنما أنت مُبلغ عن الله -تبارك وتعالى-.

وقوله: وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ يعني: أن بصره نافذ فيهم، وهذا فيه إثبات صفة البصر لله -تبارك وتعالى-، وهذه الصيغة (بصير) هي صيغة مُبالغة، على وزن (فعيل) أي: أن بصره نافذ فيهم، فلا يخفى عليه من أحوالهم خافية، ومثل هذا يحمل على المراقبة لله فيُراقب العبد ربه في كل حالاته، وفي حركاته وسكناته، وفي كل ما يأتي ويذر؛ لأن الله -تبارك وتعالى- يراه، وهنا يرتقي إلى مرتبة الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، فإذا استشعر العبد مثل هذا، فإن ذلك يحمله على المراقبة، ومن ثَم إحسان العمل، فيستوي عنده في حال السر والعلانية.

وهكذا أيضًا فإن (أل) في قوله: بِالْعِبَادِ تُفيد العموم، فالعباد على اختلاف أقطارهم، وعلى كثرتهم، ونحو ذلك، فالله بصره نافذ فيهم، لا يخفى عليه من أمورهم خافية.

وأيضًا فهذه الأفعال التي أُسندت إلى الفاعلين هنا في قوله: وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ، وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ، بَغْيًا بَيْنَهُمْ هي أفعال صادرة عنهم، فهذا يدل على أن العبد له فعل واختيار وإرادة خلافًا للجبرية، والله تعالى أعلم. 

  1. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لابن تيمية (ص:56).
  2. أخرجه مسلم كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود برقم: (482).