"يخبر تعالى إخباراً عاماً يعمُّ جميع الخليقة بأن كل نفس ذائقة الموت كقوله تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ [سورة الرحمن:26-27] فهو تعالى وحده هو الحي الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون، وكذلك الملائكة، وحملة العرش، وينفرد الواحد الأحد القهار بالديمومة، والبقاء، فيكون آخراً كما كان أولاً.
وهذه الآية فيها تعزية لجميع الناس فإنه لا يبقى أحد على وجه الأرض حتى يموت، فإذا انقضت المدة، وفرغت النطفة التي قدر الله وجودها من صلب آدم، وانتهت البرية؛ أقام الله القيامة، وجازى الخلائق بأعمالها، جليلها وحقيرها، كثيرها وقليلها، كبيرها وصغيرها، فلا يظلم أحداً مثقال ذرة، ولهذا قال تعالى: وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [سورة آل عمران:185]".
فقوله - تبارك وتعالى - هنا: كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ بعد أن وجَّه الله - تبارك وتعالى - نبيَّه ﷺ بألا يحزن لإسراع من أسرع في الكفر، وبعد أن ذكر الله جملة من الفِرى التي يفتريها أعداؤه كقولهم: إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء [سورة آل عمران:181] وما أشبه ذلك قال بعده: كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ فكلام ابن كثير - رحمه الله - هنا كأنه مشى فيه على أن ذلك من الكلام المستأنف.
وبعض أهل العلم كأبي جعفر بن جرير الطبري - رحمه الله - يربطها بما قبلها، وعلى كل حال هؤلاء يقولون: إن الله قال لنبيه ﷺ: وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ [سورة آل عمران:176] أي ولا تكذيب من كذّب وافتراء من افترى، فإن الكل سيوافي ويموت، ويرجعون جميعاً إلى الله فيثيب المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، فمرجع الجميع ومصيرهم إليَّ، هذا وجه الارتباط بين الآية وبين الآيات التي قبلها على قول هؤلاء، والله أعلم.
أصل الزحزحة: التنحية والإبعاد، والمعنى من نُحي عن النار، وأبعد عن النار؛ فقد فاز، وقد يكون أكثر ما تستعمل هذه اللفظة في الأشياء الثقيلة التي يصعب حملها، أو رفعها، فيقال: زحزحته يعني حركته، ونحيته.
وقوله تعالى: وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ [سورة آل عمران:185] تصغير لشأن الدنيا، وتحقير لأمرها، وأنها دنيئة فانية، قليلة زائلة كما قال تعالى: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [سورة الأعلى:16-17] وقال تعالى: وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى [سورة القصص:60] وفي الحديث: والله ما الدنيا في الآخرة إلا كما يغمس أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بمَ ترجع إليه[2].
وقال قتادة في قوله تعالى: وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ [سورة آل عمران:185] هي متاع متروكة، أوشكتْ والله الذي لا إله إلا هو أن تضمحل عن أهلها، فخذوا من هذا المتاع طاعة الله إن استطعتم، ولا قوة إلا بالله".
في قوله: وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ [سورة آل عمران:185] المتاع هو الشيء الذي يضمحل ويزول لا بقاء له، فالنعيم الذي يضمحل هو من قبيل المتاع، والغرور: هو الذي يتبهرج ويتزين أمام الناظرين، ومن تعاطاه، ولكنه لا حقيقة له، فكل ما غرَّ فهو من الغرور.
وبعضهم يقول ذلك للشيطان، ولهذا فسر بعضهم هذه الآية بالشيطان، وهذا - والله أعلم - لا منافاة بينه وبين الأول؛ لأن كل ما يغر الإنسان فإنه يقول له: غرور، فالدنيا تغره، ومتاعها يستهويه، فذلك مما يحصل به الغرور، وكذلك الشيطان أيضاً يفعل ذلك في نفسه كثيراً فيصدق عليه هذا، والله يقول: فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ [سورة لقمان:33]، فبعضهم يقول: أي فلا تغرنكم الحياة الدنيا، ولا يغرنكم الشيطان، وعلى كل حال يمكن أن يقال: لا تغرنكم الحياة، ولا يغرنكم الشيء الذي لا حقيقة له من كل ما يتبهرج ويتزين أمام الناظرين، ثم لا يلبث أن يضمحل، والشيطان يزين ذلك فهو غرور أيضاً، ولا نحتاج أن نرجح بين هذه المعاني، والله أعلم.
يقول ابن كثير في قوله تعالى: وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ [سورة آل عمران:185]: ".. فخذوا من هذا المتاع طاعة الله إن استطعتم، ولا قوة إلا بالله".
وابن جرير الطبري - رحمه الله - يقول: وما متاعها الذي متعكموه في هذه الحياة الدنيا إلا الغرور، والخداع؛ لأنها لا حقيقة لها، وهي مضمحلة، ولا تستحق أن ينصرف الإنسان عن الدار الآخرة الباقية بسبب هذه الدنيا الفانية، ولكن الغرور، والخداع؛ هو الذي يفعل فعله في نفوسكم، فيحصل الانكباب عليها، والتشاغل بها عن طاعة الله - تبارك وتعالى -.
ويقول: فأنتم تلتذون بما متعكم الغرور من دنياكم، ثم هو عائد عليكم بالفجائع، أي أن هذا المتاع الذي يحصل لكم إنما متعكموه الغرور، ثم ما يلبث أن يضمحل، وتقع بكم الفجائع والمكاره، ولذلك لما ذكر الله نعيم الآخرة، ذكر أنه باق لا يزول، وذكر الخلود بالنسبة لأهل الجنة فقال: خَالِدِينَ فِيهَا [سورة آل عمران:198]؛ لأن الإنسان مهما كان يُمتّع فإنه إذا تذكر أنه مفارق لهذا النعيم فذلك ينغص عليه لذته، ويكدر عليه صفوها، ولهذا قال الشاعر:
هو الموت ليس يسبق الموت شيء | نغص الموت ذا الغنى والفقيرا |
- أخرجه بدون الزيادة البخاري في كتاب بدء الخلق - باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة (3078) (ج 3 / ص 1187) وأخرجه مع الزيادة الترمذي في كتاب التفسير - باب تفسير سورة آل عمران (3013) (ج 5 / ص 232) وابن حبان (7417) (ج 16 / ص 433) وكذا الحاكم (3170) (ج 2 / ص 327) وحسنه الألباني في سنن الترمذي برقم (3013) أعني مع الزيادة.
- أخرجه مسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها - باب فناء الدنيا وبيان الحشر يوم القيامة (2858) (ج 4 / ص 2193).