الأربعاء 02 / ذو القعدة / 1446 - 30 / أبريل 2025
لَتُبْلَوُنَّ فِىٓ أَمْوَٰلِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُوا۟ ٱلْكِتَٰبَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُوٓا۟ أَذًى كَثِيرًا ۚ وَإِن تَصْبِرُوا۟ وَتَتَّقُوا۟ فَإِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ ٱلْأُمُورِ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"وقوله تعالى: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ [سورة آل عمران:186] كقوله تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ [سورة البقرة:155] إلى آخر الآيتين، أي لا بد أن يبتلى المؤمن في شيء من ماله، أو نفسه، أو ولده، أو أهله، ويبتلى المؤمن على قدر دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد في البلاء.
وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيرًا [سورة آل عمران:186]، يقول تعالى للمؤمنين عند مقدمهم المدينة قبل وقعة بدر، مسلياً لهم عما نالهم من الأذى من أهل الكتاب، والمشركين، وآمراً لهم بالصفح، والصبر، والعفو؛ حتى يفرج الله فقال تعالى: وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [سورة آل عمران:186]".

قوله تعالى: فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ بعض أهل العلم يفسره بعزمات الأمور أي مما يجب عليكم أن تعزموا عليه لكونه عزمة من عزمات الله ؛ لأن الله طلبه، وأمر به، وأحبه.
"روى البخاري عن أسامة بن زيد - ا - أن رسول الله ﷺ ركب على حمار عليه قطيفة فدكية..".

القطيفة هي مثل السرج الذي يوضع على الفرس، فما يوضع على ظهر الحمار تحت الراكب يقال له: قطيفة، والذي يوضع على الفرس يقال له: سرج، والذي يوضع على البعير يقال له: رحل..
وقوله: فدكية: منسوبة إلى فدك قريبة من خيبر.
"وأردف أسامة بن زيد وراءه يعود سعد بن عبادة في بني الحارث بن الخزرج قبل وقعة بدر قال: حتى مر بمجلس فيه عبد الله بن أبيّ بن سلول، وذلك قبل أن يسلم عبد الله بن أبيّ، فإذا في المجلس أخلاط من المسلمين، والمشركين عبدة الأوثان، واليهود، والمسلمين، وفي المجلس عبد الله بن رواحة، فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة خمر عبد الله بن أبيّ أنفه بردائه، وقال: لا تغبروا علينا، فسلَّم رسول الله ﷺ، ثم وقف فنزل ودعاهم إلى الله ، وقرأ عليهم القرآن، فقال عبد الله بن أبيّ: أيها المرء إنه لا أحسن مما تقول إن كان حقاً، فلا تؤذنا به في مجالسنا، ارجع إلى رحلك، فمن جاءك فاقصص عليه، فقال عبد الله بن رواحة : بلى يا رسول الله، فاغشنا به في مجالسنا، فإنا نحب ذلك، فاستب المسلمون، والمشركون، واليهود حتى كادوا يتثاورون، فلم يزل النبي ﷺ يخفضهم حتى سكتوا، ثم ركب النبي ﷺ دابته فسار حتى دخل على سعد بن عبادة، فقال له النبي ﷺ: يا سعد! ألم تسمع إلى ما قال أبو حباب - يريد عبد الله بن أبيّ - قال: كذا وكذا فقال سعد: يا رسول الله اعف عنه، واصفح، فوالله الذي أنزل عليك الكتاب لقد جاءك الله بالحق الذي أنزل عليك ولقد اصطلح أهل هذه البحيرة على أن يتوجوه ويعصبوه بالعصابة، فلما أبى الله ذلك بالحق الذي أعطاك الله شرق بذلك".

يقول: "على أن يتوِّجوه، ويعصِّبوه " أي كانت عادتهم إذا ملَّكوا أحداً عليهم أن يتوجوه، ويعصبوه.
وقوله: "شرِق بذلك" الأصل أن شرق تقال إذا شرب الإنسان الماء، أو أكل شيئاً فوقف في حلقه، أو دخل في مجرى النفس، وكذلك يقال: شرق بهذا الأمر بمعنى أنه ساءه، وتلكأ فيه، ولم يقبله.
"فلما أبى الله ذلك بالحق الذي أعطاك الله شرق بذلك، فذلك الذي فعل به ما رأيت، فعفا عنه رسول الله ﷺ[1].
وكان رسول الله ﷺ وأصحابه يعفون عن المشركين، وأهل الكتاب؛ كما أمرهم الله، ويصبرون على الأذى".

طبعاً هذا قبل أن يُشرع الجهاد، حيث أمروا بالصفح، والعفو، والإغضاء، والتجاوز، لكن بعد أن شُرع الجهاد كان النبي ﷺ يجيش الجيش كما حصل في قينقاع، وقريظة، والنضير.
"قال الله تعالى: وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيرًا الآية [سورة آل عمران:186]، وقال تعالى: وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ الآية [(109) سورة البقرة].
وكان النبي ﷺ يتأول في العفو ما أمره الله به، حتى أذن الله فيهم، فلما غزا رسول الله ﷺ بدراً فقتل الله به صناديد كفار قريش؛ قال عبد الله بن أبي بن سلول ومن معه من المشركين؛ وعبدة الأوثان: هذا أمر قد توجه، فبايعوا رسول الله ﷺ على الإسلام؛ وأسلموا".

قول عبد الله بن أبي: "هذا أمر قد توجه" يعني مضى، وأخذ طريقه في القوة، والانتشار، وتجاوز مرحلة البداية، والضعف وما أشبه ذلك.
وقول ابن كثير: "وكان النبي ﷺ يتأول في العفو ما أمره الله به" المقصود بالتأول هنا التطبيق، والعمل، وهذا أحد معاني التأويل، فإذا قيل: يتأول قوله تعالى كذا فالمعنى أنه يمتثل.
"فكل من قام بحق، أو أمر بمعروف، أو نهى عن منكر؛ فلا بد أن يؤذى، فما له دواء إلا الصبر في الله، والاستعانة بالله، والرجوع إلى الله ".
  1. أخرجه البخاري في كتاب التفسير - باب تفسير سورة آل عمران (4290) (ج 4 / 1663) ومسلم في كتاب الجهاد والسير - باب في دعاء النبي ﷺ وصبره على أذى المنافقين (1798) (ج 3 / ص 1422).

مرات الإستماع: 0

"لَتُبْلَوُنَّ [آل عمران:186] الآية خطابٌ للمسلمين، والبلاء في الأنفس بالموت، والأمراض، وفي الأموال بالمصائب، والإنفاق."

الآية خطابٌ للمسلمين لَتُبْلَوُنَّ وهذا قسم، والله لتُبلَوُنَّ قسمٌ مُضمر، قال: والبلاء في الأنفس بالموت، والأمراض، وفي الأموال بالمصائب، والإنفاق، حصول المكاره في هذه، في الأنفس، والأموال، كل ذلك من الابتلاء فيها.

"وَلَتَسْمَعُنَّ [آل عمران:186] الآية سببها قول اليهود: إِنَّ اللهِ فَقِيرٌ وسبُّهم للنبي ﷺ وللمسلمين."

يقول: وَلَتَسْمَعُنَّ سببها قول اليهود: إِنَّ اللهِ فَقِيرٌ وسبُّهم للنبي ﷺ وللمسلمين، جاء من حديث كعب بن مالك أن كعب بن الأشرف كان شاعرًا، وكان يهجو النبي ﷺ ويُحرّض عليه كُفّار قُريش، في سياقٍ الذي ذُكر فيه قتله، قتل كعب بن الأشرف، وفي آخره: "فأمر الله نبيه ﷺ بالصبر على ذلك" قال: "وفيهم أنزل الله: وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [1] فهذا السياق من حيث الصيغة ليس بصريح بأنه سبب النزول كما هو معلوم، فيحتمل أن المقصود بذلك التفسير، يعني هذا مما يدخل فيه قول اليهود هؤلاء، أو ما ذكره الله عنهم من إسماع الأذى لأهل الإيمان، فيدخل فيه ما وقع من كعب بن الأشرف من هِجاء النبي ﷺ المسلمين، وكان يُشبب بأزواج النبي ﷺ

هذه الرواية لا تدل على سبب النزول صراحةً فيحتمل.

وجاء من حديث أسامة بن زيد في صحيح البخاري، أن رسول الله ﷺ الحديث المعروف في سياقه الطويل، أن أردف أسامة، ويعود سعد بن عبادة في الطريق مرّ على نفر، على مجلس، على جمع فيهم مسلمون، ومشركون، وكان معهم عبد الله بن أُبي، وقال مقالته: "لا تغبّروا علينا" ووضع رداءه طرف كمه على أنفه، فنزل النبي ﷺ ووقف، وذكّرهم، ووعظهم، ودعاهم إلى الله، فكان رده ذلك الرد القبيح، وقال: يا هذا - يعني يقول للنبي ﷺ: "امكث في رحلك فمن أتاك. . " يعني كلمه، وعِظه، يقول: "ولا تغشنا في مجالسنا" وكان في القوم ابن رواحة  فردّ عليه قوله، وقال: "بل يا رسول الله اغشنا في مجالسنا" فتثاور القوم، وصار بينهم كلام، إلى آخره.

فهذا الحديث معروف، ومشهور، وفيه: "وكان النبي ﷺ وأصحابه يعفون عن المشركين، وأهل الكتاب كما أمرهم الله، ويصطبرون على الأذى، قال الله : وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وقال الله: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ [البقرة:109][2] لاحظ هذه الصيغة الآن بهذا النص: "ويصطبرون على الأذى، قال الله : وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ هل هذا سبب نزول؟ سبب صريح من حيث اللفظ؟

الجواب: لا، فمثل هذا قد يكون من قبيل الاستشهاد بالآية، والتفسير، وقد عرفنا أن الصيغة الصريحة في سبب النزول أن يذكر واقعة، أو سؤال، ثم يقول: "فأنزل الله" ونحو هذا، أما نزلت هذه الآية في كذا، أو يقرأ الآية عند ذكر أمرٍ معين، أو نحو ذلك، فليس ذلك بسببٍ صريحٍ في النزول، هذا واضح، فتبيّن من هذا أن ما صح من هذه الروايات ليس بصريحٍ بأنه سبب النزول، وأما الروايات الأخرى الضعيفة فلا تُذكر في هذا السياق - والله أعلم -. 

  1. أخرجه أبو داود، كتاب الخراج، والإمارة، والفيء، باب كيف كان إخراج اليهود من المدينة؟، برقم (3000).
  2. أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا [آل عمران:186] برقم (4566).