الأربعاء 02 / ذو القعدة / 1446 - 30 / أبريل 2025
لَا تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوا۟ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُوا۟ بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا۟ فَلَا تَحْسَبَنَّهُم بِمَفَازَةٍ مِّنَ ٱلْعَذَابِ ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"وقوله تعالى: لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ [سورة آل عمران:188] يعني بذلك المرائين المتكثرين بما لم يعطوا كما جاء في الصحيحين عن النبي ﷺ: من ادعى دعوى كاذبة ليتكثر بها لم يزده الله إلا قلة[1]، وفي الصحيح أيضاً: المتشبع بما لم يعطَ كلابس ثوبي زور[2]".

هذه الآية: لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ [سورة آل عمران:188] هذا التفسير الذي قاله الحافظ ابن كثير: "يعني بذلك المرائين المتكثرين" يعني أنه حمل الآية على العموم، أي كل من وقع منه ذلك فهو ليس بناجٍ من العذاب، فهذه الآية على هذا الاعتبار لا تختص بأهل الكتاب الذين سئلوا عن شيء فكتموه، ثم استحمدوا عن رسول الله ﷺ أنهم قد أعلموه، وأخبروه بما سألهم عنه، وهذا التفسير مشى عليه جماعة من المفسرين غير الحافظ ابن كثير، وهو حملٌ للآية على ظاهرها، وهو الأرجح، وقد قال الحافظ ابن القيم - رحمه الله -: "لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا من البدعة، والضلالة، والشرك، ويحبون أن يحمدوا على اتباع السنة، والإخلاص، يعني أنه حملها على العموم.
وقول ابن عباس في الآية مشهور، وسيأتي أنها مختصة بأهل الكتاب، وهذا الكلام ليس محل اتفاق بين السلف ، وتوجد أدلة تدل على خلاف ذلك.
"وروى الإمام أحمد أن مروان قال: اذهب يا رافع - لبوابه - إلى ابن عباس - ا - فقل: لئن كان كل امرئ منا فرح بما أتى، وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذَّباً لنعذَّبنَّ أجمعون، فقال ابن عباس: وما لكم وهذه، إنما نزلت هذه في أهل الكتاب، ثم تلا ابن عباس: وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ [سورة آل عمران:187] وتلا ابن عباس: لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ الآية [سورة آل عمران:188].
 وقال ابن عباس: سألهم النبي ﷺ عن شيء فكتموه إياه، وأخبروه بغيره، فخرجوا قد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه، واستحمدوا بذلك إليه، وفرحوا بما أتوا من كتمانهم ما سألهم عنه، وهكذا رواه البخاري في التفسير، ومسلم، والترمذي والنسائي في تفسيريهما".

نعم، الآن هذا تفسير من ابن عباس أنها نزلت في هؤلاء، وليس هذا من قبيل سبب النزول، فهو من قبيل التفسير، فهذا فهم ابن عباس - ا -.
وعلى كل حال الآية ظاهرها العموم، وأما قول مروان بأنه إن كان كذا وكذا فلنعذبن أجمعون؛ فهذا غير صحيح؛ لأن المؤمن الذي قد حقق الإيمان الواجب، وصدق مع الله ؛ لا يحب أن يحمد بما لم يفعل إطلاقاً، بل قد لا يحب أن يحمد بما فعل، لكن إن فرِح أو سرَّه أن يحمد بما فعل فهذا عاجل بشرى المؤمن، ولا إشكال فيه، لكن الذي يحب أن يحمد يعني أنه ولو لم يقع ذلك فهو يتمنى أن يقع؛ فمثل هذا لا يتطلبه المؤمن، ولا يفعل الخير، ولا يقدم على الأعمال من أجل أن يحمد، وكذلك أن يحمد بما لم يفعل فهذا لا يرضى به إنسان يحترم نفسه، ويصدق مع الله ، بل هو بالعكس يستاء من هذا، ولا يفعل هذا، أو يرضى به إلا مُراءٍ، فالمقصود أن هذا الكلام لا ينطبق على الجميع كما قال مروان: ولنعذبن أجمعون، فهذا الكلام ليس بصحيح في معناه، والمقصود أن الآية ظاهرها العموم، ولا يوجد دليل على تخصيصها، ولو فرضنا أن هذا سبب النزول فإذا كان هذا التوعد واقعاً لبني إسرائيل فهو في حق هذه الأمة أشد؛ إذ ما الذي يجعل هذه الأمة بمنجاة ومنأى من هذا؟، فعلى قدر المقام يكون الملام، فإذا كان هذا الوصف من الأوصاف الذميمة، والله توعد من وقع فيه من بني إسرائيل - لو فرضنا أنها في بني إسرائيل - فإن ذلك يكون لهم ويكون لغيرهم فالله حكم عدل، لا يظلم الناس شيئاً، فإذا كانت هذه الأمة أشرف من بني إسرائيل، ووقع ذلك لبني إسرائيل، ولحقهم ذلك الوعيد؛ فإن ذلك يكون أوجب في هذه الأمة، والله أعلم.
ولذلك فالرواية التي في البخاري ومسلم تدل على أن ذلك على عمومه، مع أن هذه الآية اشتهر فيها قول ابن عباس - ا - أنها خاصة في أهل الكتاب، وبناء عليه يركن الإنسان إلى أنه لا حرج عليه إذا أحب أن يحمد بما لم يفعل، فهذا الكلام غير صحيح.
"وروى البخاري عن أبي سعيد الخدري أن رجالاً من المنافقين على عهد رسول  الله ﷺ كان إذا خرج رسول الله ﷺ إلى الغزو تخلفوا عنه، وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله ﷺ، فإذا قدم رسول الله ﷺ من الغزو اعتذروا إليه، وحلفوا، وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا فنزلت: لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ الآية [سورة آل عمران:188] وكذا رواه مسلم بنحوه[3]".

هذا سبب نزول صريح، ويدل على أن الآية على العموم، ولكن يؤخذ منه أن الذي أتوه ليس هو العمل الصالح وإنما هو مخالفة الرسول ﷺ، ومعصية الله ، وقعودهم عن الجهاد معه ﷺ، أي أنهم يفرحون بما أتوا من التخلف عن الغزو مع رسول الله - عليه الصلاة والسلام -، وعلى كل حال من فرح بالمعصية، وأحب أن يحمد بما لم يفعل؛ فلا شك أن هذا ليس من أوصاف أهل النجاة، وأما فرح الإنسان بما فعل من الأعمال الطيبة الصالحة؛ فهذا أمر لا إشكال فيه، ولكن الله ذكر هنا أمرين اثنين هما: أنهم يفرحون بما أتوا، ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا، فإذا جعلنا قوله: يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ [سورة آل عمران:188] على عمومها، وقلنا: بما أتوا من العمل الصالح مثلاً، وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ [سورة آل عمران:188] بمعنى أنه يكون متكثراً بهذا إضافة إلى أعماله، فإن اجتماع هذا إلى هذا أمر لا يليق، ولا يحسن، ولا يجمل بالمؤمن.
وأما إذا قلنا: بأن يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ [سورة آل عمران:188] يعني من المخالفة، وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ [سورة آل عمران:188] بمعنى أنهم لا يعملون الصالحات، ويفرحون بمخالفاتهم، ويحبون أن يحمدوا بشيء لم يفعلوه، فبهذا الاعتبار تكون قد اتضحت المسألة.
"وقوله تعالى: فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ [سورة آل عمران:188] يقرأ بالتاء على مخاطبة المفرد، وبالياء على الإخبار عنهم، أي لا يحسبون أنهم ناجون من العذاب".

قوله: لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ قرئت بالتاء وقرئت بالياء لا يحسبن، فعلى الأولى يكون الخطاب للنبي ﷺ، وبالتالي يكون أيضاً متوجهاً إلى الأمة، وعلى القراءة الثانية: لا يحسبن يكون المعنى لا يظن هؤلاء الذين وقعوا في هذا الفعل القبيح أنهم بمنجاة من عذاب الله .
"أي لا يحسبون أنهم ناجون من العذاب بل لابد لهم منه، ولهذا قال تعالى: ولهم عذاب أليم".

إذاً سبب نزول قوله: يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ [سورة آل عمران:188] يدل على أنه بما أتوا من المعصية، وهذا هو الذي فسره ابن القيم بقوله: يفرحون بما أتوا من البدعة، والضلالة، والشرك، ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا من السنة.. الخ.
وإذا فسر قوله: يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ [سورة آل عمران:188] بأنه من العمل الطيب؛ فإن هذا لا يشكل؛ لأنه مرتبط بما بعده أي بقوله: وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ [سورة آل عمران:188] هذا وهذا، لكن المعنى الأول أقرب أي بما أتوا من المخالفة، والمعصية، والقعود عن رسول الله ﷺ، ويرجح هذا سببُ النزول، والأمر الثاني: أن من كانت هذه صفتهم من المرائيين، أو المنافقين، أو اليهود؛ فهم لا يفرحون بالعمل الطيب الصالح، وإنما همهم ثناء الناس، وإطراؤهم.
  1. أخرجه البخاري في كتاب الأدب - باب ما ينهى من السباب واللعن (5700) (ج 5 / ص 2247) ومسلم في كتاب الإيمان - باب غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه، وإن من قتل نفسه بشيء عذب به في النار، وأنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة (ج 1 / ص 104) إلا هذه العبارة: من ادعى دعوى كاذبة ليتكثر بها لم يزده الله إلا قلة فقد تفرد بها مسلم.
  2. أخرجه البخاري في كتاب النكاح - باب المتشبع بما لم ينل وما ينهى من افتخار الضرة (4921) (ج 5 / ص 2001) ومسلم في كتاب اللباس والزينة - باب النهي عن التزوير في اللباس وغيره والتشبع بما لم يعط (2129) (ج 3 / ص 1681).
  3. أخرجه البخاري في كتاب التفسير - باب تفسير سورة آل عمران (4291) (ج 4 / ص 1664) ومسلم في كتاب صفات المنافقين وأحكامهم (2777) (ج 4 / ص 2142).

مرات الإستماع: 0

"الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا [آل عمران:188] الآية، قال ابن عباس: نزلت في أهل الكتاب، سألهم النبي ﷺ عن شيء فكتموه إياه، وأخبروه بغيره، فخرجوا، وقد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه، واستحمدوا إليه بذلك، وفرحوا بما أوتوا - وفي النسخة الخطية: بما أتوا - من كتمانهم إياه ما سألهم عنه، وقال أبو سعيد الخُدري: نزلت في المنافقين، كانوا إذا خرج النبي ﷺ إلى الغزو تخلفوا عنه، وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله، وإذا قدِم النبي ﷺ اعتذروا إليه، وأحبوا أن يُحمدوا بما لم يفعلوا."

هنا قوله - تبارك، وتعالى -: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ قال: الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا قال ابن عباس: نزلت في أهل الكتاب، سألهم النبي ﷺ عن شيء فكتموه إياه إلى آخره، هذه حملها ابن جرير - رحمه الله - على الذين كتموا أمر النبي ﷺ[1] لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ لكن القول بأنها في الذين كتموا أمر النبي ﷺ قد لا يخلو من إشكال، بخلاف قول ابن عباس - ا - بأن النبي ﷺ سألهم عن شيءٍ فكتموه إياه، وأخبروه بغيره، فخرجوا، وقد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه، واستحمدوا إليه بذلك، وفرحوا بما أوتوا، أو أتوا، من كتمانهم إياه ما سألهم عنه، هذه الرواية عن ابن عباس - ا - في آخرها، وهو مهم جدًا لا يُسقط من الرواية اختصارًا، قال: "ثم قرأ ابن عباس: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ ۝ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا الآية"[2] قرأها ابن عباس، فهذا ليس بسبب نزول، يعني ابن عباس قرأ ذلك من باب الاستشهاد، وليس ذكر سبب النزول، ليس من قبيل سبب النزول الصريح باعتبار أن قوله في أولها: نزلت في أهل الكتاب سألهم النبي ﷺ يعني: أن ذلك مما يدخل في المعنى، ويحتمل أنه من قبيل سبب النزول.

وحملها ابن كثير على المرائين المتكثرين بما لم يُعطوا[3] الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا ولا شك أن المُرائين بهذه الصفة المذكورة أنهم يدخلون فيها، وعمّمها بعض أهل العلم، يعني بكل من كان كذلك، يدخل فيه أهل الكتاب، والمراؤون، وهذا الذي اختاره بعض المتأخرين مثل الشوكاني[4] ولا شك أن من اتصف بمثل هذه الصفة أنه مُتوعَّد بالعقوبة.

يقول هنا: وقال أبو سعيد الخُدري: نزلت في المنافقين، كانوا إذا خرج النبي ﷺ إلى الغزو تخلفوا عنه، وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله، وإذا قدِم النبي ﷺ اعتذروا إليه، وأحبوا أن يُحمدوا بما لم يفعلوا، هنا جزء من الرواية مهم جدًا لا يُمكن أن يُسقط، "فنزلت: لا تَحْسَبَنَّ الآية"[5] هذه الرواية هذا صريح في أنه سبب النزول، "فنزلت" وهذه الرواية من حديث أبي سعيد مُخرّج في الصحيحين.

وكذلك أيضًا قول ابن عباس - ا - هو في الصحيحين، لكنه ليس بصريحٍ في سبب النزول، فإذا وُجد هذا، وهذا، يعني الصريح، وغير الصريح، وكلاهما صحيح، ذكرنا في القاعدة في تعدد المرويات في أسباب النزول أنه يُنظر أولًا إلى الثبوت فيُختار الصحيح.

ثم العبارة فيُختار الصريح، هنا حديث أبي سعيد الخُدري صريح في سبب النزول، فيكون هو سبب النزول، وما ذكره ابن عباس - ا - يحتمل أن يكون من قبيل التفسير، يعني مما يدخل في الآية، مما يؤيد القول بأن الآية تعمُّ ذلك جميعًا من جهة المعنى، أن كل من حصل منه مثل هذا المسلك المشين فهو مُتوعَّدٌ بالعقوبة، لكن تكون الآية نزلت في المنافقين كما جاء هنا كما ذكره ابن جُزي - رحمه الله - فهي صريحة في ذلك.

وجاء في الحديث ما يدل على العموم في المعنى، واللفظ أيضًا، بل اللفظ عام جاء في حديث: ومن ادّعى دعوة كاذبة ليتكثّر بها لم يزده الله إلا قلة[6] الحديث مُخرّج في صحيح مُسلم، والحديث الآخر: المُتشبع بما لم يُعطَ كلابس ثوبي زور[7] فهؤلاء تشبّعوا بما لم يُعطوا، واستحمدوا، طلبوا الحمد وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ.

والرواية المشهورة في سؤال مروان لابن عباس لما أرسل بوّابه لابن عباس - ا - يسأله عن هذه الآية: "إن كان كل من أحب أن يُحمد بما لم يفعل مُعذبًا لنعذبن أجمعين" فقال ابن عباس - ا -: "فمالك، ولهذه الآية" وذكر ما سبق من أنها نزلت في أهل الكتاب[8] لكن الواقع أن ذلك يصدق على أهل الكتاب كما سبق، ويصدق على من شابههم بهذا الفعل.

فهذه الآيات التي يُقال أنها نزلت في أهل الكتاب، أو نحو ذلك تذمهم على عملٍ صدر عنهم، فذلك يكون أيضًا في حق من صدر عنه هذا العمل، وإن لم يكن من أهل الكتاب، فذمهم الله عليه، فلا يكون من شابههم في هذا الفعل بمنأى عن الوعيد، أو الذم؛ لأنه ليس من أهل الكتاب، بل كما سبق من قول بعضهم مما ذكره القرطبي - رحمه الله - في غير هذه المناسبة: "على قدر المقام يكون الملام"[9] فإذا كان هذا الذم يلحق أهل الكتاب، فإن من صدر عنه مثل ذلك من هذه الأمة، وهم أشرف - يعني هذه الأمة - وأكمل، فالذم الذي يلحقهم، والوعيد أعظم، فلا يُقال: إن من أحب أن يُحمد بما لم يفعل أنه بمنأى عن الذم، أو الوعيد، وقول مروان بأن لا ينجو أحد، كل أحد يحب أن يُحمد بما لم يفعل، هذا غير صحيح أبدًا، فالمؤمن الصادق لا يُحب أن يُحمد بما لم يفعل، وإذا حمده الناس على ما لم يفعل أوقفهم، وقال: عفوًا أنا لم أفعل هذا، ولم يصدر عني، ولا أستحق عليه الثناء، وإنما الذي يُثنى عليه هم من عملوا هذا العمل، وقاموا به، ولست أنا، ويعلم أن الذين يمدحون بما ليس فيه أنهم يُزورون عليه هذا المدح، ويمكن في أي لحظة أنهم ينقلبون، ويُزورون عليه الباطل، هذا معروف، فهو لا يفرح بمدح هؤلاء، وبذكره بما لم يفعل، فلا يُقال: إن هذا لا يسلم منه أحد، وأننا سنُعذب جميعًا إذا كان ذلك، لا يُقال، ليس بصحيح، بل هذا مرض يحتاج إلى علاج، ولابد من السعي في معالجته، والتخلُّص منه.

بعض العلماء يقولون: يمكن أن تكون الآية نزلت في أهل الكتاب، والمنافقين، وهذا قاله القرطبي[10] والحافظ ابن حجر في "العُجاب في بيان الأسباب"[11] لكن ما ذكرته من أن الصيغة في حديث ابن عباس غير صريحة يقتضي ترجيح حديث أبي سعيد أنه هو سبب النزول، ولا حاجة للقول أنها نزلت في الفريقين، لو كانت رواية ابن عباس صريحة لقيل ذلك، أنها نزلت في الفريقين - والله أعلم -. 

"فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بالتاء، وفتح الباء: خطابٌ للنبي ﷺ وبالياء، وضم الباء: أسند الفعل للذين يفرحون، أي لا يحسبون أنفسهم بمفازةٍ من العذاب، ومن قرأ: لَا تَحْسَبَنَّ بالتاء فهو خطابٌ للنبي ﷺ والَّذِينَ يَفْرَحُونَ مفعول به، وبِمَفَازَةٍ المفعول الثاني، وكرر فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ: للتأكيد، ومن قرأ: لَا يَحْسَبَنَّ بالياء من أسفل، فإنه حذف المفعولين لدلالة مفعولي لَا تَحْسَبَنَّهُمْ عليهما."

فيما يتعلق بالقراءات في هذا الموضع فهي على النحو الآتي، يعني على خمسة أوجه، إذا أردنا أن ندقق فتكون:

الوجه الأول: لَا يَحْسَبَنَّ في الأول (فَلا يَحْسَبُنَّهُمْ قصد كلامي فقط الموضعين الذين فيهما اختلاف، القراءة من الآية: لَا يَحْسَبَنَّ فَلا يَحْسَبُنَّهُمْ هذه قراءة ابن كثير، وأبي عمرو.

القراءة الثانية: لابن عامر: لَا يَحْسَبَنَّ فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ الأول بالياء، والثاني بالتاء.

القراءة الثالثة: لَا يَحْسَبَنَّ فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ هذه قراءة نافع، والكسائي.

القراءة الرابعة: لَا تَحْسَبَنَّ فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ الفروقات أحيانًا تكون بالحركة، وأحيانًا تكون بالتاء، أو الياء.

القراءة الخامسة: لَا يَحْسَبَنَّ فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ هذه قراءة عاصم، فصار عندنا خمس قراءات.

يقول: ومن قرأ: لَا تَحْسَبَنَّ بالتاء فهو خطابٌ للنبي ﷺ والَّذِينَ يَفْرَحُونَ يعني: لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ مفعول به، وبِمَفَازَةٍ المفعول الثاني، وكُرر فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ: للتأكيد، هذا يُذكر للربط بين أجزاء الكلام إذا طال؛ لئلا يحصل شرود الذهن لدى السامع.

يقول: "ومن قرأ: لَا يَحْسَبَنَّ بالياء من أسفل، فإنه حذف المفعولين لدلالة مفعولي لَا تَحْسَبَنَّهُمْ عليهما، يعني إذا صار لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ فيصير الَّذِينَ فاعل، بخلاف لَا تَحْسَبَنَّ أنت الَّذِينَ مفعول به، وهنا: لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ فـ الَّذِينَ صار فاعل الآن، فحُذف المفعولان، لا أريد أن أطيل في التفاصيل في أوجه القراءة، لكن يكفينا قراءة الياء، والتاء، أما الباقي بكسر السين مثلًا، والفتح فهذه لُغات لا تُؤثر في المعنى، فلسنا بحاجة إلى الوقوف مع كل وجه من الوجوه الخمسة، لكن يكفي على الوجهين بالياء، والتاء:

فعلى قراءة: لَا تَحْسَبَنَّ فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بالتاء، فالفعلان مُضافان إلى المُخاطَب، وهو النبي ﷺ وهو الفاعل لَا تَحْسَبَنَّ أنت الَّذِينَ يَفْرَحُونَ مفعول أول لـ تَحْسَبَنَّ بعضهم يقول على هذه القراءة: حُذف المفعول الثاني، يعني ليس بِمَفَازَةٍ يقول: "لدلالة ما بعده عليه، وهو: بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ الذي هو المفعول الثاني لـ تَحْسَبَنَّهُمْ فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وقيل إن بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ هو المفعول الثاني كما سبق لقوله: لَا تَحْسَبَنَّ الأول على تقدير التقديم، فيكون المفعول الثاني لـ تَحْسَبَ محذوفًا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ لدلالة الأول عليه تقديره: لَا تَحْسَبَنَّ يا محمد الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ ثم حُذف الثاني، ويكون: فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ تأكيد لـ لَا تَحْسَبَنَّ بالتاء أيضًا، أو بدل جاء مشوبًا بمعنى التأكيد لاتفاق الفاعلين، والمفعولين، والفاء يقولون: إنها صلة لا تمنع من البدل.

على قراءة الياء: لَا يَحْسَبَنَّ فَلا يَحْسَبَنَّهُمْ فـ الَّذِينَ فاعل، ومفعولا لَا يَحْسَبَنَّ محذوفان، اكتفاءً بمفعولي فَلا يَحْسَبَنَّهُمْ؛ لأن الفاعل فيهما واحد، فالفعل الثاني تكرير للأول: فَلا يَحْسَبَنَّهُمْ يقولون تأكيد لـ لَا يَحْسَبَنَّ أو بدل جاء مشوبًا بمعنى التوكيد، إلى آخر ما يذكرون.

أما على قراءة: لَا يَحْسَبَنَّ بالياء، والثاني فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بالتاء، فالإعراب كما سبق في كل فعلٍ بحسبه، لكن لا يحسُن في الثاني التأكيد، أو البدل لاختلاف الفاعلين، لكن يكون مفعولا الأول حُذفا لدلالة مفعولي الثاني عليهما، وقيل غير ذلك من الأوجه. 

  1.  - تفسير الطبري (6/303).
  2.  - المصدر السابق (6/305).
  3.  - تفسير ابن كثير (2/181).
  4.  - فتح القدير للشوكاني (1/469).
  5.  - أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب: لَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا برقم (4567) ومسلم، في أوائل كتاب صفات المنافقين، وأحكامهم، برقم (2777).
  6.  - أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه، وأن من قتل نفسه بشيء عذب به في النار، وأنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة، برقم (110).
  7.  - أخرجه مسلم، كتاب اللباس، والزينة، باب النهي عن التزوير في اللباس، وغيره، والتشبع بما لم يعط، برقم (2129).
  8.  - أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب: لَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا برقم (4568) ومسلم، في أوائل كتاب صفات المنافقين، وأحكامهم، برقم (2778).
  9.  - لم أقف عليه.
  10.  - تفسير القرطبي (4/306).
  11.  - العجاب في بيان الأسباب (2/812).