هذه الآية: لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ [سورة آل عمران:188] هذا التفسير الذي قاله الحافظ ابن كثير: "يعني بذلك المرائين المتكثرين" يعني أنه حمل الآية على العموم، أي كل من وقع منه ذلك فهو ليس بناجٍ من العذاب، فهذه الآية على هذا الاعتبار لا تختص بأهل الكتاب الذين سئلوا عن شيء فكتموه، ثم استحمدوا عن رسول الله ﷺ أنهم قد أعلموه، وأخبروه بما سألهم عنه، وهذا التفسير مشى عليه جماعة من المفسرين غير الحافظ ابن كثير، وهو حملٌ للآية على ظاهرها، وهو الأرجح، وقد قال الحافظ ابن القيم - رحمه الله -: "لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا من البدعة، والضلالة، والشرك، ويحبون أن يحمدوا على اتباع السنة، والإخلاص، يعني أنه حملها على العموم.
وقول ابن عباس في الآية مشهور، وسيأتي أنها مختصة بأهل الكتاب، وهذا الكلام ليس محل اتفاق بين السلف ، وتوجد أدلة تدل على خلاف ذلك.
وقال ابن عباس: سألهم النبي ﷺ عن شيء فكتموه إياه، وأخبروه بغيره، فخرجوا قد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه، واستحمدوا بذلك إليه، وفرحوا بما أتوا من كتمانهم ما سألهم عنه، وهكذا رواه البخاري في التفسير، ومسلم، والترمذي والنسائي في تفسيريهما".
نعم، الآن هذا تفسير من ابن عباس أنها نزلت في هؤلاء، وليس هذا من قبيل سبب النزول، فهو من قبيل التفسير، فهذا فهم ابن عباس - ا -.
وعلى كل حال الآية ظاهرها العموم، وأما قول مروان بأنه إن كان كذا وكذا فلنعذبن أجمعون؛ فهذا غير صحيح؛ لأن المؤمن الذي قد حقق الإيمان الواجب، وصدق مع الله ؛ لا يحب أن يحمد بما لم يفعل إطلاقاً، بل قد لا يحب أن يحمد بما فعل، لكن إن فرِح أو سرَّه أن يحمد بما فعل فهذا عاجل بشرى المؤمن، ولا إشكال فيه، لكن الذي يحب أن يحمد يعني أنه ولو لم يقع ذلك فهو يتمنى أن يقع؛ فمثل هذا لا يتطلبه المؤمن، ولا يفعل الخير، ولا يقدم على الأعمال من أجل أن يحمد، وكذلك أن يحمد بما لم يفعل فهذا لا يرضى به إنسان يحترم نفسه، ويصدق مع الله ، بل هو بالعكس يستاء من هذا، ولا يفعل هذا، أو يرضى به إلا مُراءٍ، فالمقصود أن هذا الكلام لا ينطبق على الجميع كما قال مروان: ولنعذبن أجمعون، فهذا الكلام ليس بصحيح في معناه، والمقصود أن الآية ظاهرها العموم، ولا يوجد دليل على تخصيصها، ولو فرضنا أن هذا سبب النزول فإذا كان هذا التوعد واقعاً لبني إسرائيل فهو في حق هذه الأمة أشد؛ إذ ما الذي يجعل هذه الأمة بمنجاة ومنأى من هذا؟، فعلى قدر المقام يكون الملام، فإذا كان هذا الوصف من الأوصاف الذميمة، والله توعد من وقع فيه من بني إسرائيل - لو فرضنا أنها في بني إسرائيل - فإن ذلك يكون لهم ويكون لغيرهم فالله حكم عدل، لا يظلم الناس شيئاً، فإذا كانت هذه الأمة أشرف من بني إسرائيل، ووقع ذلك لبني إسرائيل، ولحقهم ذلك الوعيد؛ فإن ذلك يكون أوجب في هذه الأمة، والله أعلم.
ولذلك فالرواية التي في البخاري ومسلم تدل على أن ذلك على عمومه، مع أن هذه الآية اشتهر فيها قول ابن عباس - ا - أنها خاصة في أهل الكتاب، وبناء عليه يركن الإنسان إلى أنه لا حرج عليه إذا أحب أن يحمد بما لم يفعل، فهذا الكلام غير صحيح.
هذا سبب نزول صريح، ويدل على أن الآية على العموم، ولكن يؤخذ منه أن الذي أتوه ليس هو العمل الصالح وإنما هو مخالفة الرسول ﷺ، ومعصية الله ، وقعودهم عن الجهاد معه ﷺ، أي أنهم يفرحون بما أتوا من التخلف عن الغزو مع رسول الله - عليه الصلاة والسلام -، وعلى كل حال من فرح بالمعصية، وأحب أن يحمد بما لم يفعل؛ فلا شك أن هذا ليس من أوصاف أهل النجاة، وأما فرح الإنسان بما فعل من الأعمال الطيبة الصالحة؛ فهذا أمر لا إشكال فيه، ولكن الله ذكر هنا أمرين اثنين هما: أنهم يفرحون بما أتوا، ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا، فإذا جعلنا قوله: يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ [سورة آل عمران:188] على عمومها، وقلنا: بما أتوا من العمل الصالح مثلاً، وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ [سورة آل عمران:188] بمعنى أنه يكون متكثراً بهذا إضافة إلى أعماله، فإن اجتماع هذا إلى هذا أمر لا يليق، ولا يحسن، ولا يجمل بالمؤمن.
وأما إذا قلنا: بأن يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ [سورة آل عمران:188] يعني من المخالفة، وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ [سورة آل عمران:188] بمعنى أنهم لا يعملون الصالحات، ويفرحون بمخالفاتهم، ويحبون أن يحمدوا بشيء لم يفعلوه، فبهذا الاعتبار تكون قد اتضحت المسألة.
قوله: لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ قرئت بالتاء وقرئت بالياء لا يحسبن، فعلى الأولى يكون الخطاب للنبي ﷺ، وبالتالي يكون أيضاً متوجهاً إلى الأمة، وعلى القراءة الثانية: لا يحسبن يكون المعنى لا يظن هؤلاء الذين وقعوا في هذا الفعل القبيح أنهم بمنجاة من عذاب الله .
إذاً سبب نزول قوله: يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ [سورة آل عمران:188] يدل على أنه بما أتوا من المعصية، وهذا هو الذي فسره ابن القيم بقوله: يفرحون بما أتوا من البدعة، والضلالة، والشرك، ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا من السنة.. الخ.
وإذا فسر قوله: يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ [سورة آل عمران:188] بأنه من العمل الطيب؛ فإن هذا لا يشكل؛ لأنه مرتبط بما بعده أي بقوله: وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ [سورة آل عمران:188] هذا وهذا، لكن المعنى الأول أقرب أي بما أتوا من المخالفة، والمعصية، والقعود عن رسول الله ﷺ، ويرجح هذا سببُ النزول، والأمر الثاني: أن من كانت هذه صفتهم من المرائيين، أو المنافقين، أو اليهود؛ فهم لا يفرحون بالعمل الطيب الصالح، وإنما همهم ثناء الناس، وإطراؤهم.
- أخرجه البخاري في كتاب الأدب - باب ما ينهى من السباب واللعن (5700) (ج 5 / ص 2247) ومسلم في كتاب الإيمان - باب غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه، وإن من قتل نفسه بشيء عذب به في النار، وأنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة (ج 1 / ص 104) إلا هذه العبارة: من ادعى دعوى كاذبة ليتكثر بها لم يزده الله إلا قلة فقد تفرد بها مسلم.
- أخرجه البخاري في كتاب النكاح - باب المتشبع بما لم ينل وما ينهى من افتخار الضرة (4921) (ج 5 / ص 2001) ومسلم في كتاب اللباس والزينة - باب النهي عن التزوير في اللباس وغيره والتشبع بما لم يعط (2129) (ج 3 / ص 1681).
- أخرجه البخاري في كتاب التفسير - باب تفسير سورة آل عمران (4291) (ج 4 / ص 1664) ومسلم في كتاب صفات المنافقين وأحكامهم (2777) (ج 4 / ص 2142).