"لا يَغُرَّنَّكَ [آل عمران:196] الآية تسليةٌ للنبي ﷺ أي: لا تظنوا - وفي النسخة الخطية: أي: لا تظن - أن حال الكفار في الدنيا دائمةٌ فتهتموا - وفي النسخة الخطية: فتهتم - لذلك، وأنزل: لا يَغُرَّنَّكَ منزلة لا يحزنك."
لا يَغُرَّنَّكَ تسليةٌ للنبي ﷺ وللمؤمنين، لكن الخطاب موجه إلى النبي ﷺ وهو أيضًا مُتوجه لأمته لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ يعني تقلُّبهم، وتنقُّلهم، وتحولهم في التجارات، والنُزه، والمُتع، والملاذ، ونحو ذلك، فهذا قد يستهوي من شاهده، أو طالعه، وعلِمه، فبيّن الله أن هذا متاع قليل ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ.
يقول: وأنزل: لا يَغُرَّنَّكَ منزلة لا يحزنك، ويُمكن أن يُقرأ هكذا: وأُنزل: لا يَغُرَّنَّكَ منزلة لا يحزنك، باعتبار أن النبي ﷺ لا يغترّ بمثل ذلك، فهو أعلم الناس بالله - تبارك، وتعالى - وبما عند الله، وبحال هؤلاء الكُفّار، قالوا: لا يَغُرَّنَّكَ يعني لا يحزُنك، لكن ليس بالضرورة، فنهيه ﷺ عن أمرٍ لا يقتضي أن ذلك يقع منه، مثلما سمعتم في الآيات في الصلاة: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ [الأحزاب:1] فهو لا يُطيع الكافرين، ولا المنافقين، ولكن مثل هذا يكون أيضًا مُتوجهًا إلى أمته، فهنا: لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ أيضًا مُوجّه للأمة، أن لا يغتروا بهؤلاء الكفار، وما في أيديهم من الأموال، والأملاك، ونحو ذلك يتقلبون في شتّى أنواع التقلبات بالبر، والبحر، ولمختلف الأغراض التي لرُبما تجذب أنظار الناس إليهم فيُعجبون بهم، ويتمنّون حالًا كهذه، ولربما يُحاكونهم، ويتشبّهون بهم، ويتصنّعون بمثل هذه الأحوال، فذلك منهيٌ عنه لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ يعني لا تُعجب بهم، وليس معنى ذلك أنه نُزّل منزلة لا تحزن، لكنه قد يقتضيه، لا تغتر بذلك، ولا يكون ذلك سببًا لحُزن؛ لأنه إذا رأى مثل هذا، وما هم فيه من التمكين، والاستمتاع، والقوة، والرفاهية، والغنى، ونحو ذلك، فلرُبما يحزن المؤمن، فيكون ذلك نتيجةً للاغترار، أنه رأى مثل هذه المظاهر، وهذا التمكين، وهذه القوة، وهذه الأملاك، فأحزنه ذلك مع ما فيه أهل الإيمان، لذلك عمر لما رأى النبي ﷺ القصة المعروفة، نام على حصيرٍ أثَّر في جنبه، بكى، لما سأله النبي ﷺ عن هذا، قال: ذكرت ما فيه كِسرى، وقيصر، يعني: من النعيم، والرفاهية، والغِنى، والمُلك، وأنت في هذا، يعني النبي ﷺ كان في غُرفة عِليّة، يعني فوق، في قصة إيلائه من نسائه ﷺ قد اعتزل فيها، ودرجُها جذع نخلة، عمر لم يتمكّن من الصعود إلا تكلُّفًا، جذع نخلة، هذا الدرج، وعلى حصير، فبكى عمر، فبيّن له النبي ﷺ: ما ترضى أن تكون لهم الدنيا، ولنا الآخرة؟.
لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتاعٌ قَلِيلٌ هذا المتاع القليل هو الذي يحصل القسم بعده وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ [الروم:55] والحديث: يؤتى بأنعم أهل الدنيا فيُغمس في النار غمسة، فيُقال: يا فلان هل رأيت نعيمًا قط؟ يقول: لا، والله ما رأيتُ نعيمًا قط هذا أنعم إنسان، فكيف بمن دونه في تقلّباتهم في تجاراتهم، وأموالهم، ورفاهيتهم، وتمتُّعِهم بالرحلات السياحية، والتجارية، ونحو هذا في المنتجعات، شواطئ البحار، والأماكن الجميلة الجذابة التي تستهوي الناظرين بخضرتها، وجمالها، وأجوائها الجميلة، هذا لا يغرّنك، هذا كله يرحل، ويزول عما قريب يتلاشى، ويبقى العذاب السرمدي الأبدي، فما قيمة هذه النُزه، والمُتع في مقابل شقاء أبدي في النار، لو قيل لإنسان: تبقى في الشمس فقط أبدًا، ودائمًا، ولا تغيب عنك الشمس، لكفى هذا، لكفى في أن ينزجر الإنسان عن كل ما يوصله إلى ذلك، ويجدّ، ويجتهد فيما يُخلصه منه، فكيف بعذاب في النار، يُسحب، وضرب، تقليب، وسلاسل، وأغلال، تبديل جلود - نسأل الله العافية -.