الثلاثاء 24 / صفر / 1447 - 19 / أغسطس 2025
فَٱسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّى لَآ أُضِيعُ عَمَلَ عَٰمِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ ۖ بَعْضُكُم مِّنۢ بَعْضٍ ۖ فَٱلَّذِينَ هَاجَرُوا۟ وَأُخْرِجُوا۟ مِن دِيَٰرِهِمْ وَأُوذُوا۟ فِى سَبِيلِى وَقَٰتَلُوا۟ وَقُتِلُوا۟ لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّـَٔاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّٰتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلْأَنْهَٰرُ ثَوَابًا مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ ۗ وَٱللَّهُ عِندَهُۥ حُسْنُ ٱلثَّوَابِ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

قال المفسر - رحمه الله تعالى - في تفسير قوله تعالى: فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِّن عِندِ اللّهِ وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ [سورة آل عمران:195].
"يقول تعالى: فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أي: فأجابهم.
روى سعيد بن منصور عن سلمة رجل من آل أم سلمة قال: قالت أم سلمة - ا -: يا رسول الله! لا نسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشيء، فأنزل الله تعالى: فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى إلى آخر الآية، وقالت الأنصار: هي أول ظعينة قدمت علينا" وقد رواه الحاكم في مستدركه ثم قال: صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه[1].
وقوله تعالى: أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى هذا تفسير للإجابة أي: قال لهم مجيباً لهم أنه لا يضيع عمل عامل لديه، بل يوفى كل عامل بقسط عمله من ذكر أو أنثى.
وقوله: بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ أي: جميعكم في ثوابي سواء".

فقوله: بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ أي: جميعكم في ثوابي سواء" أي أن رجالكم، ونساءكم؛ سواء، لا فرق بينهم في الطاعة إلا ما دل عليه الدليل والثواب الذي يعطيه الله للعاملين، فالرجال كالنساء جزاؤهم واحد، والنساء كالرجال، هكذا فسره جماعة من أهل العلم، وابن جرير - رحمه الله - ذكر نحوه، حيث قال: بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ أي: في الملة، والنصرة، والدين، وحكم جميعكم، وما أنا فاعل بكم من الثواب، فأنتم فيه سواء، لا فرق بين الرجال والنساء، فالمرأة ليس لها نصف الأجر إذا عملت عملاً صالحاً وإنما هي كالرجل، والله وعد من أحسن عملاً أن يوفى له أجره بغير حساب، فهذا معنى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ أي أنه لا يضيع عمل عامل منهم ذكراً كان أو أنثى.
"فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ أي: تركوا دار الشرك، وأتوا إلى دار الإيمان".

هذا المعنى المشهور في الهجرة، وإلا فالهجرة أوسع من هذا، فالهجرة إلى الحبشة لم تكن من قبيل الانتقال من دار الشرك إلى دار الإسلام، بل كانت انتقالاً من دار شرك إلى دار شرك آخر، لكن الهجرة الشرعية هي انتقال المؤمن إلى المكان الذي يأمن فيه، بحيث يستطيع أن يعبد ربه من غير خوف، ولا مضايقة، هذه هي الهجرة الشرعية، وقد تكون إلى بلاد الشرك، وقد تكون إلى بلاد الإسلام.
"أي تركوا دار الشرك، وأتوا إلى دار الإيمان، وفارقوا الأحباب، والإخوان، والخلان، والجيران.
وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ أي: ضايقهم المشركون بالأذى حتى ألجئوهم إلى الخروج من بين أظهرهم".

هذا التفسير الذي ذكره يبيّن حقيقة الواقع؛ لأن المشركين ما أخذوهم وأخرجوهم من بلدهم، وإنما ضيَّقوا عليهم فاضطروهم إلى الخروج، فكان ذلك من قبيل الإخراج؛ لأنهم تسببوا فيه كما قال الله : وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ [سورة محمد:13] مع أن المشركين بذلوا ما يستطيعون في حصار النبي ﷺ، وكانوا يتخوفون خروجه، لكن لما كانوا متسببين بذلك لمضايقتهم لرسول الله ﷺ ولأصحابه صح أن يقال: إنهم أخرجوهم.
"ولهذا قال: وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي [سورة آل عمران:195] أي: إنما كان ذنبهم إلى الناس أنهم آمنوا بالله وحده، كما قال تعالى: يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ [سورة الممتحنة:1] وقال تعالى: وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [سورة البروج:8].
وقوله تعالى: وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ [سورة آل عمران:195] هذا أعلى المقامات أن يقاتل في سبيل الله فيعقر جواده، ويعفر وجهه بدمه، وترابه".

وفي القراءة الأخرى - قراءة أبي عامر وابن كثير -: وقاتلوا وقُتِّلوا وهي تدل على التكثير، فزيادة المبنى لزيادة المعنى، وفي قراءة حمزة والكسائي: وقُتلوا وقاتلوا والواو لا تدل على الترتيب وإنما تدل على مطلق الجمع، فلا يشكل المعنى على هذه القراءة كما قال الشاعر:
فإن تقتلونا عند حرة واقم فلسنا على الإسلام أول من قتل
هو حي ويتكلم ويقول: تقتلونا، وهو لم يقتل، وإنما المقصود أن بعضهم قد وقع عليه القتل، فقد يطلق ذلك على وقوعه على البعض، وقد يطلق ذلك على قتل الكل، فالمقصود أن الواو لا تقتضي الترتيب.
"وقد ثبت في الصحيح أن رجلاً قال: يا رسول الله أرأيت إن قتلت في سبيل الله صابراً محتسباً، مقبلاً غير مدبر؛ أيكفِّر الله عني خطاياي؟ قال: نعم) ثم قال: كيف قلت؟ فأعاد عليه ما قال، فقال: نعم إلا الديْن، قاله لي جبريل آنفاً[2] ولهذا قال تعالى: لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ [سورة آل عمران:195] أي: تجري في خلالها الأنهار من أنواع المشارب من لبن، وعسل، وخمر، وماءٍ غير آسن، وغير ذلك مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
وقوله: ثَوَابًا مِّن عِندِ اللّهِ [سورة آل عمران:195] أضافه إليه، ونسبه إليه؛ ليدل على أنه عظيم؛ لأن العظيم الكريم لا يعطي إلا جزيلاً كثيراً".

ثَوَابًا مِّن عِندِ اللّهِ أي لأُثيبنهم ثواباً كائناً من عند الله، والثواب هنا مصدر مؤكِّد.
"وقوله تعالى: وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ [سورة آل عمران:195] أي عنده حسن الجزاء لمن عمل صالحاً".
  1. أخرجه الترمذي في كتاب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ باب تفسير سورة النساء (3023) (ج 5 / ص 237) وهو في تفسير سعيد بن منصور (ج 1 / ص 81) وصححه الألباني في صحيح الترمذي برقم (3023).
  2. أخرجه مسلم في كتاب الإمارة - باب من قتل في سبيل الله كفرت خطاياه إلا الدين (1885) (ج 3 / ص 1501).

مرات الإستماع: 0

"مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى [آل عمران:195] مِنْ: لبيان الجنس، وقيل: زائدةٌ لتقدّم النفي."

مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى مِنْ: لبيان الجنس فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وقيل: زائدةٌ لتقدّم النفي، لتقدم النفي يعني من أجل التنصيص في العموم لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى فإذا حُذِفت لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ ذكرًا، أو أنثى مِنْ ذَكَرٍ فهذه تنقلها، يعني ذَكَرٍ نكرة في سياق النفي لا أُضِيعُ، فهي للعموم، و أَوْ أُنْثَى كذلك، أي ذكر، وأي أنثى، فإذا سُبقت بـ مِنْ كما هنا، فإنها تنقلها من الظهور في العموم إلى التنصيص الصريح في العموم، النكرة في سياق النفي هنا، كما يقول هنا: زائدةٌ لتقدّم النفي، يعني لتقوية العموم، فإن ذَكَرٍ نكرة في سياق النفي، وعلى القول الأول أنها لبيان الجنس مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى.

"بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ [آل عمران:195]: النساء، والرجال سواء في الأجور، والخيرات."

وهذا الذي اختاره ابن كثير[1] - رحمه الله - سواء في الأجور، والخيرات، يعني: في الجزاء هم سواء، وفي الحقوق يتفاوتون، لكن لا يكون جزاء الرجل مختلفًا عن جزاء الأنثى كالضعف مثلًا بالنسبة للأجر، والثواب.

وبعضهم يقول: بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ أي: رجالكم مثل نسائكم في الطاعة، والعكس، النساء مثل الرجال، والرجال مثل النساء في الطاعة، والمعصية بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ وابن جرير - رحمه الله - يقول: بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ في النُصرة، والمِلة، والدين، وحكم جميعكم فيما أنا فاعل على حكم أحدكم في أني لا أضيع عمل ذكرٍ منكم، ولا أنثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ.

وما ذكره ابن جُزي - رحمه الله - وابن كثير له وجه ظاهر - والله تعالى أعلم - وما ذكره ابن جرير لا يُنافي هذا، كونه في بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ في النصرة، والملة، والدين، وحكم جميعكم فيما أنا بكم فاعل[2] يعني: فيما يتعلق بما يُجريه الله عليهم من الأجور، والجزاء، ونحو ذلك، كل هذا داخلٌ فيه، وأنه لا يضيع العمل عنده - تبارك، وتعالى - سواء صدر عن ذكرٍ، أو أنثى.

"وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ [آل عمران:195] هم المهاجرون آذاهم المشركون بمكة حتى خرجوا منها."

فَالَّذِينَ هَاجَرُوا هؤلاء هم الذين أُخرجوا من ديارهم فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ أضاف الإخراج إلى عدوهم، أو إلى غيرهم مع أنهم هم الذين خرجوا، باعتبار أن أولئك ضيقوا عليهم، فألجأوهم إلى الخروج وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ [محمد:13] والنبي ﷺ هو الذي خرج، لكن لمّا ألجأوه إلى الخروج أُضيف ذلك إليهم بهذا الاعتبار يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ [الممتحنة:1] مع أنهم كانوا لا يُريدون أن يخرج النبي ﷺ لئلا تنتشر دعوته، لكن فعلهم من التضييق، والأذى كان مُلجئًا إلى الخروج والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت[3] فأضاف ذلك إليهم، مع أنه خرج مستخفيًا ﷺ والصحابة كانوا يخرجون مُستخفين، حتى عُمر لا يثبت أنه قال: من سرّه أن تثكله أمه فليتبعني خلف هذا الوادي، وأنه أعلن الهجرة، وتحداهم، هذا لا يصح، بل كانوا يمنعونهم من الهجرة. 

"ثَوابًا [آل عمران:195] منصوبٌ على المصدرية."

يعني: هو مصدر مؤكِد ثَوابًا يعني لأثيبنّهم ثوابًا كائنًا من عند الله ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فهو مصدر من فعل مُقدّر محذوف، لأثيبنّهم ثوابًا كائنًا من عند الله. 

  1. تفسير ابن كثير (2/191).
  2. انظر: تفسير الطبري (6/321).
  3. أخرجه الترمذي، أبواب المناقب عن رسول الله ﷺ باب في فضل مكة، برقم (3925) وقال: "هذا حديث حسن صحيح غريب" وابن ماجه، أبواب المناسك، باب فضل مكة، برقم (3108) وأحمد في المسند، برقم (18715) وقال محققوه: "إسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين، غير أن صحابيه روى له أصحاب السنن سوى أبي داود" وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (7089).