"يقول تعالى: فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أي: فأجابهم.
روى سعيد بن منصور عن سلمة رجل من آل أم سلمة قال: قالت أم سلمة - ا -: يا رسول الله! لا نسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشيء، فأنزل الله تعالى: فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى إلى آخر الآية، وقالت الأنصار: هي أول ظعينة قدمت علينا" وقد رواه الحاكم في مستدركه ثم قال: صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه[1].
وقوله تعالى: أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى هذا تفسير للإجابة أي: قال لهم مجيباً لهم أنه لا يضيع عمل عامل لديه، بل يوفى كل عامل بقسط عمله من ذكر أو أنثى.
وقوله: بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ أي: جميعكم في ثوابي سواء".
فقوله: بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ أي: جميعكم في ثوابي سواء" أي أن رجالكم، ونساءكم؛ سواء، لا فرق بينهم في الطاعة إلا ما دل عليه الدليل والثواب الذي يعطيه الله للعاملين، فالرجال كالنساء جزاؤهم واحد، والنساء كالرجال، هكذا فسره جماعة من أهل العلم، وابن جرير - رحمه الله - ذكر نحوه، حيث قال: بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ أي: في الملة، والنصرة، والدين، وحكم جميعكم، وما أنا فاعل بكم من الثواب، فأنتم فيه سواء، لا فرق بين الرجال والنساء، فالمرأة ليس لها نصف الأجر إذا عملت عملاً صالحاً وإنما هي كالرجل، والله وعد من أحسن عملاً أن يوفى له أجره بغير حساب، فهذا معنى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ أي أنه لا يضيع عمل عامل منهم ذكراً كان أو أنثى.
هذا المعنى المشهور في الهجرة، وإلا فالهجرة أوسع من هذا، فالهجرة إلى الحبشة لم تكن من قبيل الانتقال من دار الشرك إلى دار الإسلام، بل كانت انتقالاً من دار شرك إلى دار شرك آخر، لكن الهجرة الشرعية هي انتقال المؤمن إلى المكان الذي يأمن فيه، بحيث يستطيع أن يعبد ربه من غير خوف، ولا مضايقة، هذه هي الهجرة الشرعية، وقد تكون إلى بلاد الشرك، وقد تكون إلى بلاد الإسلام.
وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ أي: ضايقهم المشركون بالأذى حتى ألجئوهم إلى الخروج من بين أظهرهم".
هذا التفسير الذي ذكره يبيّن حقيقة الواقع؛ لأن المشركين ما أخذوهم وأخرجوهم من بلدهم، وإنما ضيَّقوا عليهم فاضطروهم إلى الخروج، فكان ذلك من قبيل الإخراج؛ لأنهم تسببوا فيه كما قال الله : وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ [سورة محمد:13] مع أن المشركين بذلوا ما يستطيعون في حصار النبي ﷺ، وكانوا يتخوفون خروجه، لكن لما كانوا متسببين بذلك لمضايقتهم لرسول الله ﷺ ولأصحابه صح أن يقال: إنهم أخرجوهم.
وقوله تعالى: وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ [سورة آل عمران:195] هذا أعلى المقامات أن يقاتل في سبيل الله فيعقر جواده، ويعفر وجهه بدمه، وترابه".
وفي القراءة الأخرى - قراءة أبي عامر وابن كثير -: وقاتلوا وقُتِّلوا وهي تدل على التكثير، فزيادة المبنى لزيادة المعنى، وفي قراءة حمزة والكسائي: وقُتلوا وقاتلوا والواو لا تدل على الترتيب وإنما تدل على مطلق الجمع، فلا يشكل المعنى على هذه القراءة كما قال الشاعر:
فإن تقتلونا عند حرة واقم | فلسنا على الإسلام أول من قتل |
وقوله: ثَوَابًا مِّن عِندِ اللّهِ [سورة آل عمران:195] أضافه إليه، ونسبه إليه؛ ليدل على أنه عظيم؛ لأن العظيم الكريم لا يعطي إلا جزيلاً كثيراً".
ثَوَابًا مِّن عِندِ اللّهِ أي لأُثيبنهم ثواباً كائناً من عند الله، والثواب هنا مصدر مؤكِّد.
- أخرجه الترمذي في كتاب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ باب تفسير سورة النساء (3023) (ج 5 / ص 237) وهو في تفسير سعيد بن منصور (ج 1 / ص 81) وصححه الألباني في صحيح الترمذي برقم (3023).
- أخرجه مسلم في كتاب الإمارة - باب من قتل في سبيل الله كفرت خطاياه إلا الدين (1885) (ج 3 / ص 1501).