هنا ذكر ثلاثة أشياء: اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ هذه ثلاث مراتب، وهذا انتقال من الأدنى إلى الأعلى، ومثل الحافظ ابن القيم - رحمه الله- يقول: إن الصبر حالة الصابر في نفسه، والمصابرة هي مقاومة الخصم في ميدان الصبر؛ لأنها مفاعلة والأصل في المفاعلة غالباً أن تكون بين طرفين فأكثر، والمرابطة أصلها اللزوم، والثبات، والنبي ﷺ لما ذكر انتظار الصلاة إلى الصلاة قال: فذلكم الرباط، فذلكم الرباط[1] فأصل الرباط إذن هو اللزوم، والثبات، فاللزوم والثبات على الطاعة أوسع معانيها، وتطلق على معنىً أخص وهو ملازمة الثغور في نحر العدو، والمقصود بالثغور هي الأطراف التي يتخوف العدو من ناحيتها، وهي التي ورد فيها الأحاديث في فضل الرباط كقوله - عليه الصلاة والسلام -: رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها[2] وما أشبه ذلك من الأدلة الواردة في الحث على هذا، والرباط هو أكمل صور الصبر، وحالاته، وملاك هذه الأمور جميعاً - الصبر، والمصابرة، والمرابطة - هو تقوى الله ، ولهذا قال بعده: وَاتَّقُواْ اللّهَ [سورة آل عمران:200]؛ لأن الإنسان قد يصبر ولا يتقي، وقد يصابر ولا يتقي، وقد يرابط ولا يتقي، فيكون ذلك نقصاً في مرتبته عند الله ، وقد يذهب أجره، وحقيقة هذه التقوى يمكن أن يقال: هي المرابطة التي قال عنها ابن القيم - رحمه الله -: "هي لزوم ثغر القلب وحراسته؛ لئلا يدخل منه العدو، ولزوم ثغر العين، والأذن، واللسان، والبطن، واليد، والرجل، فهذه الثغور يدخل منها العدو فيجوس خلال الديار، ويفسد ما قدر عليه، فالمرابطة لزوم هذه الثغور، ولا يخلى مكانها فيصادف العدو (أي الشيطان)، والثغر خالياً فيدخل منها[3].
أي يصبروا على أمر الله ، ويصبروا عن معصيته، ويصابروا أعداء الله - تبارك وتعالى - وهذا هو الذي قال به كثير من المفسرين، وهو اختيار ابن جرير في تفسير هذه الآية، وما ذكرته عن الحافظ ابن القيم - رحمه الله - موافق لهذا أيضاً.
تفسير المرابطة بالمداومة على الطاعة هذا تفسير لها بأعم معانيها، وتفسيرها بانتظار الصلاة إلى الصلاة يكون من قبيل التفسير بالمثال، وإلا فالمعنى أوسع من ذلك، وتكون المرابطة بلزوم العبادة، وأولى ما يدخل فيها وهو المعنى الذي يتبادر أولاً هو لزوم الثغور في نحر العدو.
وروى ابن أبي حاتم هاهنا الحديث الذي رواه مسلم والنسائي عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: ألا أخبركم بما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط[4]".
هذا الحديث مثل قول النبي ﷺ: المجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله، والمهاجر من هجر الخطايا، والذنوب[5] فهذا تفسير للمجاهدة بمعنىً يدخل فيها، والهجرة بمعنىً يدخل فيها، بمعنى هجرة القلب إلى الله بترك الذنوب والمعاصي، ولكن المعنى الذي يتبادر عند إطلاق الهجرة - وهو أكمل صورها، وحالاتها - هو الانتقال من الأوطان، والعشائر إلى الله ، أو في سبيل الله، حيث يأمن الإنسان على دينه.
هذا كما قلت: هو المتبادر، لكن الذين قالوا: إنه ملازمة طاعة الله ، أو انتظار الصلاة إلى الصلاة، يمكن أن يوجه قولهم هذا باعتبار أن هذه الآية اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ [سورة آل عمران:200] حينما نزلت لم يكن هناك رباط في عهد النبي ﷺ إلى أن قبض، فمثل هذا هو الذي حمل هؤلاء على القول بأن الرباط ملازمة طاعة الله ، أو انتظار الصلاة إلى الصلاة، وهذا إن لم يقصدوا بذلك التفسير بالمثال، وفي أقل التقديرات - والله أعلم - أن بعضهم على الأقل قصد هذا المعنى، بعضهم أراد أن يذكر أعمَّ المعاني، أو أن يذكر شيئاً مما يدخل فيه لينبه عليه، لكن بعضهم قصد هذا المعنى لهذا السبب وهو أنه لم يوجد رباط على عهد النبي ﷺ، وهذا لا إشكال فيه؛ لأن هذه الشريعة عامة والله شرَّعها لتكون ديناً للناس في كل زمان، ومكان، فكان الرباط بعد النبي ﷺ؛ ولذلك فالأحاديث الواردة في هذا كحديث: رباط يوم في سبيل الله..[6] تحمل على ملازمة الثغور مع أنه لم يكن موجوداً في زمان النبي ﷺ إلا إن قُصد بذلك حالات عارضة يسيرة كأن يكون النبي ﷺ في ناحية أو نحو ذلك، فيرسل بعض من يرصد العدو، أو يقف في ناحيته أو نحو ذلك فيكون مرابطاً بهذا الاعتبار مرابطة جزئية وقتية، لكن الرباط المعروف يكون بتناوب الناس على مكان المرابطة بحيث يأتون إليه من أماكن كثيرة، ويلازمونه السنوات، وهذا لم يكن موجوداً في عهد النبي ﷺ.
وروى مسلم عن سلمان الفارسي عن رسول الله ﷺ أنه قال: رباط يوم وليلة خير من صيام شهر، وقيامه، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله، وأجري عليه رزقه، وأمن الفتَّان[8].
روى الإمام أحمد عن فضالة بن عبيد قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: كل ميت يختم على عمله إلا الذي مات مرابطاً في سبيل الله فإنه ينمو له عمله إلى يوم القيامة، ويأمن فتنة القبر[9] وهكذا رواه أبو داود والترمذي وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وأخرجه ابن حبان في صحيحه أيضاً.
وروى الترمذي عن ابن عباس - ا - قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله[10].
وروى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: تعِس عبد الدينار، وعبد الدرهم، وعبد الخميصة، إن أعطي رضي، وإن لم يعطَ سخط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش، طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفَّع[11].
وروى ابن جرير عن زيد بن أسلم قال: كتب أبو عبيدة إلى عمر بن الخطاب - ا - يذكر له جموعاً من الروم، وما يتخوف منهم، فكتب إليه عمر: "أما بعد: فإنه مهما ينزل بعبد مؤمن من منزلة شدة يجعل الله بعدها فرجاً، وإنه لن يغلب عسر يسرين، وإن الله تعالى يقول في كتابه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [سورة آل عمران:200].
وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الله بن المبارك من طريق محمد بن إبراهيم بن أبي سكينة قال: أملى عليَّ عبد الله بن المبارك هذه الأبيات بطرسوس، وودعته للخروج، وأنشدها معي إلى الفضيل بن عياض في سنة سبعين ومائة، وفي رواية: سنة سبع وسبعين ومائة:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا | لعلمت أنك في العبادة تلعب |
من كان يخضب خده بدموعه | فنحورنا بدمائنا تتخضب |
أو كان يتعب خيله في باطل | فخيولنا يوم الصبيحة تتعب |
ريح العبير لكم ونحن عبيرنا | رَهَجُ السنابك والغبار الأطيب |
ريح العبير لكم ونحن عبيرنا | رَهَجُ السنابك والغبار الأطيب |
ولقد أتانا من مقال نبينا | قول صحيح صادق لا يُكذَب |
لا يستوي وغبار خيل الله في | أنف امرئ ودخان نار تلهب |
هذا كتاب الله ينطق بيننا | ليس الشهيد بميت لا يُكذب |
قوله: يُستن في طوله يعني الفرس يربط بوتد مثلاً، وفيه حبل طويل، فينطلق هذا الفرس، فمشيه هذا أو انطلاقه كل ذلك يكتب للمجاهد، وهو ريما يكون نائماً!
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [سورة آل عمران:200] أي: في الدنيا، والآخرة.
وروى ابن جرير عن محمد بن كعب القرضي أنه كان يقول في قول الله : وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [سورة آل عمران:200] واتقوا الله فيما بيني وبينكم لعلكم تفلحون غداً إذا لقيتموني.
انتهى تفسير سورة آل عمران، ولله الحمد والمنَّة، نسأله الموت على الكتاب، والسنة، آمين".
- أخرجه مسلم في كتاب الطهارة - باب فضل إسباغ الوضوء على المكاره (251) (ج 1 / ص 219).
- أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير - باب فضل رباط يوم في سبيل الله (2735) (ج 3 / ص 1059).
- كتاب الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي لابن القيم (ص 66).
- أخرجه مسلم في كتاب الطهارة - باب فضل إسباغ الوضوء على المكاره (251) (ج 1 / ص 219).
- أخرجه أحمد (24004) (ج 6 / ص 21) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (549).
- أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير - باب فضل رباط يوم في سبيل الله (2735) (ج 3 / ص 1059).
- أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير - باب فضل رباط يوم في سبيل الله (2735) (ج 3 / ص 1059).
- أخرجه مسلم في كتاب الإمارة - باب فضل الرباط في سبيل الله (1913) (ج 3 / ص 1520)
- أخرجه أبو داود في كتاب الجهاد - باب في فضل الرباط (2502) (ج 2 / ص 317) والترمذي في كتاب فضائل الجهاد عن رسول الله ﷺ - باب ما جاء في فضل من مات مرابطاً (1621) (ج 4 / ص 165) وأحمد (23996) (ج 6 / ص 20) وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب برقم (1218).
- أخرجه الترمذي في كتاب فضائل الجهاد - باب ما جاء في فضل الحرس في سبيل الله (1639) (ج 4 / ص 175) وصححه الألباني في مشكاة المصابيح برقم (3829).
- أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير - باب الحراسة في الغزو في سبيل الله (2730) (ج 3 / ص 1057).
- أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير - باب فضل الجهاد والسير (2633) (ج 3 / ص 1026) وأحمد (8521) (ج 2 / ص 344).
- أخرجه الترمذي في كتاب البر والصلة - باب ما جاء في معاشرة الناس (1987) (ج 4 / ص 355) وأحمد (21392) (ج 5 / ص 153) وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم (97).