الإثنين 06 / ربيع الآخر / 1447 - 29 / سبتمبر 2025
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ ٱصْبِرُوا۟ وَصَابِرُوا۟ وَرَابِطُوا۟ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ [سورة آل عمران:200]، قال الحسن البصري - رحمه الله -: أمروا أن يصبروا على دينهم الذي ارتضاه الله لهم وهو الإسلام".

هنا ذكر ثلاثة أشياء: اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ هذه ثلاث مراتب، وهذا انتقال من الأدنى إلى الأعلى، ومثل الحافظ ابن القيم - رحمه الله-  يقول: إن الصبر حالة الصابر في نفسه، والمصابرة هي مقاومة الخصم في ميدان الصبر؛ لأنها مفاعلة والأصل في المفاعلة غالباً أن تكون بين طرفين فأكثر، والمرابطة أصلها اللزوم، والثبات، والنبي ﷺ لما ذكر انتظار الصلاة إلى الصلاة قال: فذلكم الرباط، فذلكم الرباط[1] فأصل الرباط إذن هو اللزوم، والثبات، فاللزوم والثبات على الطاعة أوسع معانيها، وتطلق على معنىً أخص وهو ملازمة الثغور في نحر العدو، والمقصود بالثغور هي الأطراف التي يتخوف العدو من ناحيتها، وهي التي ورد فيها الأحاديث في فضل الرباط كقوله - عليه الصلاة والسلام -: رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها[2] وما أشبه ذلك من الأدلة الواردة في الحث على هذا، والرباط هو أكمل صور الصبر، وحالاته، وملاك هذه الأمور جميعاً - الصبر، والمصابرة، والمرابطة - هو تقوى الله ، ولهذا قال بعده: وَاتَّقُواْ اللّهَ [سورة آل عمران:200]؛ لأن الإنسان قد يصبر ولا يتقي، وقد يصابر ولا يتقي، وقد يرابط ولا يتقي، فيكون ذلك نقصاً في مرتبته عند الله ، وقد يذهب أجره، وحقيقة هذه التقوى يمكن أن يقال: هي المرابطة التي قال عنها ابن القيم - رحمه الله -: "هي لزوم ثغر القلب وحراسته؛ لئلا يدخل منه العدو، ولزوم ثغر العين، والأذن، واللسان، والبطن، واليد، والرجل، فهذه الثغور يدخل منها العدو فيجوس خلال الديار، ويفسد ما قدر عليه، فالمرابطة لزوم هذه الثغور، ولا يخلى مكانها فيصادف العدو (أي الشيطان)، والثغر خالياً فيدخل منها[3].
"قال الحسن البصري - رحمه الله -: أمروا أن يصبروا على دينهم الذي ارتضاه الله لهم وهو الإسلام، فلا يدَعوه لسراء، ولا لضراء، ولا لشدة، ولا لرخاء، حتى يموتوا مسلمين، ويصابروا الأعداء الذين يكتمون دينهم، وكذا قال غير واحد من علماء السلف".

أي يصبروا على أمر الله ، ويصبروا عن معصيته، ويصابروا أعداء الله - تبارك وتعالى - وهذا هو الذي قال به كثير من المفسرين، وهو اختيار ابن جرير في تفسير هذه الآية، وما ذكرته عن الحافظ ابن القيم - رحمه الله - موافق  لهذا أيضاً.
"وأما المرابطة فهي المداومة في مكان العبادة، والثبات، وقيل: انتظار الصلاة بعد الصلاة".

تفسير المرابطة بالمداومة على الطاعة هذا تفسير لها بأعم معانيها، وتفسيرها بانتظار الصلاة إلى الصلاة يكون من قبيل التفسير بالمثال، وإلا فالمعنى أوسع من ذلك، وتكون المرابطة بلزوم العبادة، وأولى ما يدخل فيها وهو المعنى الذي يتبادر أولاً هو لزوم الثغور في نحر العدو.
"وقيل: انتظار الصلاة بعد الصلاة قاله ابن عباس وسهل بن حنيف - ا -، ومحمد بن كعب القرضي وغيرهم.
وروى ابن أبي حاتم هاهنا الحديث الذي رواه مسلم والنسائي عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: ألا أخبركم بما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط[4]".

هذا الحديث مثل قول النبي ﷺ: المجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله، والمهاجر من هجر الخطايا، والذنوب[5] فهذا تفسير للمجاهدة بمعنىً يدخل فيها، والهجرة بمعنىً يدخل فيها، بمعنى هجرة القلب إلى الله بترك الذنوب والمعاصي، ولكن المعنى الذي يتبادر عند إطلاق الهجرة - وهو أكمل صورها، وحالاتها - هو الانتقال من الأوطان، والعشائر إلى الله ، أو في سبيل الله، حيث يأمن الإنسان على دينه.
"وقيل: المراد بالمرابطة هاهنا، مرابطة الغزو في نحور العدو، وحفظ ثغور الإسلام، وصيانتها عن دخول الأعداء إلى حوزة بلاد المسلمين".

هذا كما قلت: هو المتبادر، لكن الذين قالوا: إنه ملازمة طاعة الله ، أو انتظار الصلاة إلى الصلاة، يمكن أن يوجه قولهم هذا باعتبار أن هذه الآية اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ [سورة آل عمران:200] حينما نزلت لم يكن هناك رباط في عهد النبي ﷺ إلى أن قبض، فمثل هذا هو الذي حمل هؤلاء على القول بأن الرباط ملازمة طاعة الله ، أو انتظار الصلاة إلى الصلاة، وهذا إن لم يقصدوا بذلك التفسير بالمثال، وفي أقل التقديرات - والله أعلم - أن بعضهم على الأقل قصد هذا المعنى، بعضهم أراد أن يذكر أعمَّ المعاني، أو أن يذكر شيئاً مما يدخل فيه لينبه عليه، لكن بعضهم قصد هذا المعنى لهذا السبب وهو أنه لم يوجد رباط على عهد النبي ﷺ، وهذا لا إشكال فيه؛ لأن هذه الشريعة عامة والله شرَّعها لتكون ديناً للناس في كل زمان، ومكان، فكان الرباط بعد النبي ﷺ؛ ولذلك فالأحاديث الواردة في هذا كحديث: رباط يوم في سبيل الله..[6] تحمل على ملازمة الثغور مع أنه لم يكن موجوداً في زمان النبي ﷺ إلا إن قُصد بذلك حالات عارضة يسيرة كأن يكون النبي ﷺ في ناحية أو نحو ذلك، فيرسل بعض من يرصد العدو، أو يقف في ناحيته أو نحو ذلك فيكون مرابطاً بهذا الاعتبار مرابطة جزئية وقتية، لكن الرباط المعروف يكون بتناوب الناس على مكان المرابطة بحيث يأتون إليه من أماكن كثيرة، ويلازمونه السنوات، وهذا لم يكن موجوداً في عهد النبي ﷺ.
"وقد وردت الأخبار في الترغيب في ذلك، وذكر كثرة الثواب فيه، فروى البخاري في صحيحه عن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله ﷺ قال: رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها[7].
وروى مسلم عن سلمان الفارسي عن رسول الله ﷺ أنه قال: رباط يوم وليلة خير من صيام شهر، وقيامه، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله، وأجري عليه رزقه، وأمن الفتَّان[8].
روى الإمام أحمد عن فضالة بن عبيد قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: كل ميت يختم على عمله إلا الذي مات مرابطاً في سبيل الله فإنه ينمو له عمله إلى يوم القيامة، ويأمن فتنة القبر[9] وهكذا رواه أبو داود والترمذي وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وأخرجه ابن حبان في صحيحه أيضاً.
وروى الترمذي عن ابن عباس - ا - قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله[10].
وروى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: تعِس عبد الدينار، وعبد الدرهم، وعبد الخميصة، إن أعطي رضي، وإن لم يعطَ سخط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش، طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفَّع[11].
وروى ابن جرير عن زيد بن أسلم قال: كتب أبو عبيدة إلى عمر بن الخطاب - ا - يذكر له جموعاً من الروم، وما يتخوف منهم، فكتب إليه عمر: "أما بعد: فإنه مهما ينزل بعبد مؤمن من منزلة شدة يجعل الله بعدها فرجاً، وإنه لن يغلب عسر يسرين، وإن الله تعالى يقول في كتابه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [سورة آل عمران:200].
وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الله بن المبارك من طريق محمد بن إبراهيم بن أبي سكينة قال: أملى عليَّ عبد الله بن المبارك هذه الأبيات بطرسوس، وودعته للخروج، وأنشدها معي إلى الفضيل بن عياض في سنة سبعين ومائة، وفي رواية: سنة سبع وسبعين ومائة:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك في العبادة تلعب
من كان يخضب خده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب
أو كان يتعب خيله في باطل فخيولنا يوم الصبيحة تتعب
ريح العبير لكم ونحن عبيرنا رَهَجُ السنابك والغبار الأطيب
الرهج يعني الغبار، والسنابك هي أطراف حوافر الخيل.
ريح العبير لكم ونحن عبيرنا رَهَجُ السنابك والغبار الأطيب
ولقد أتانا من مقال نبينا قول صحيح صادق لا يُكذَب
لا يستوي وغبار خيل الله في أنف امرئ ودخان نار تلهب
هذا كتاب الله ينطق بيننا ليس الشهيد بميت لا يُكذب
قال: فلقيت الفضيل بن عياض بكتابه في المسجد الحرام، فلما قرأه ذرفت عيناه، وقال: صدق أبو عبد الرحمن ونصحني، ثم قال: أنت ممن يكتب الحديث؟ قال: قلت: نعم، قال: فاكتب هذا الحديث كِرَاء حملك كتاب أبي عبد الرحمن إلينا، وأملى عليَّ الفضيل بن عياض: حدثنا منصور بن المعتمر عن أبي صالح عن أبي هريرة  أن رجلاً قال: يا رسول الله علمني عملاً أنال به ثواب المجاهدين في سبيل الله، فقال: هل تستطيع أن تصلي فلا تفتر، وتصوم فلا تفطر؟ فقال: يا رسول الله! أنا أضعف من أن أستطيع ذلك، ثم قال النبي ﷺ: فوالذي نفسي بيده لو طوِّقْت ذلك ما بلغت المجاهدين في سبيل الله، أوَ ما علمت أن فرس المجاهد ليُستن في طِوَلِه فيكتب له بذلك الحسنات[12]".

قوله: يُستن في طوله يعني الفرس يربط بوتد مثلاً، وفيه حبل طويل، فينطلق هذا الفرس، فمشيه هذا أو انطلاقه كل ذلك يكتب للمجاهد، وهو ريما يكون نائماً!
"وقوله تعالى: وَاتَّقُواْ اللّهَ [سورة آل عمران:200] أي: في جميع أموركم، وأحوالكم كما قال النبي ﷺ لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: اتق الله حيثما كنت، وأتْبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن[13].
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [سورة آل عمران:200] أي: في الدنيا، والآخرة.
وروى ابن جرير عن محمد بن كعب القرضي أنه كان يقول في قول الله : وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [سورة آل عمران:200] واتقوا الله فيما بيني وبينكم لعلكم تفلحون غداً إذا لقيتموني.
انتهى تفسير سورة آل عمران، ولله الحمد والمنَّة، نسأله الموت على الكتاب، والسنة، آمين".
  1. أخرجه مسلم في كتاب الطهارة - باب فضل إسباغ الوضوء على المكاره (251) (ج 1 / ص 219).
  2. أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير - باب فضل رباط يوم في سبيل الله (2735) (ج 3 / ص 1059).
  3. كتاب الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي لابن القيم (ص 66).
  4. أخرجه مسلم في كتاب الطهارة - باب فضل إسباغ الوضوء على المكاره (251) (ج 1 / ص 219).
  5. أخرجه أحمد (24004) (ج 6 / ص 21) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (549).
  6. أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير - باب فضل رباط يوم في سبيل الله (2735) (ج 3 / ص 1059).
  7. أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير - باب فضل رباط يوم في سبيل الله (2735) (ج 3 / ص 1059).
  8. أخرجه مسلم في كتاب الإمارة - باب فضل الرباط في سبيل الله  (1913) (ج 3 / ص 1520)
  9. أخرجه أبو داود في كتاب الجهاد - باب في فضل الرباط (2502) (ج 2 / ص 317) والترمذي في كتاب فضائل الجهاد عن رسول الله ﷺ - باب ما جاء في فضل من مات مرابطاً (1621) (ج 4 / ص 165) وأحمد (23996) (ج 6 / ص 20) وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب برقم (1218).
  10. أخرجه الترمذي في كتاب فضائل الجهاد - باب ما جاء في فضل الحرس في سبيل الله (1639) (ج 4 / ص 175) وصححه الألباني في مشكاة المصابيح برقم (3829).
  11. أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير - باب الحراسة في الغزو في سبيل الله (2730) (ج 3 / ص 1057).
  12. أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير - باب فضل الجهاد والسير (2633) (ج 3 / ص 1026) وأحمد (8521) (ج 2 / ص 344).
  13. أخرجه الترمذي في كتاب البر والصلة - باب ما جاء في معاشرة الناس (1987) (ج 4 / ص 355) وأحمد (21392) (ج 5 / ص 153) وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم (97).

مرات الإستماع: 0

"وَصَابِرُوا [آل عمران:200] أي صابروا عدوكم في القتال."

صابروا عدوكم في القتال، والمصابرة مفاعلة في الأصل أنها تقتضي أن يكون ذلك بين طرفين، ومن هنا حمله من حمله على هذا المعنى، يعني كابن جُزي يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا إذا قلت: صَابِرُوا بالأمر يعني قالوا في القتال باعتبار أن ذلك يقتضي أن يكون من طرفين، ولكنه ليس بالضرورة، يعني ليس دائمًا، ليس في كل موضع، كما تقول مثلًا تثاقل، هل هذا بين طرفين؟ تثاءب، تفاقم الأمر، هل هذا بين طرفين؟ تحامل على نفسه، على نفسه تحامل، ونهض، فهذه ليست بين طرفين، لكن في الغالب في الأصل أن ذلك يكون بين طرفين، فمن نظر إلى هذا الأصل إن صيغة المفاعلة صَابِرُوا أن تكون بين طرفين، قال هذا في خصوص القتال، لكن ليس بالضرورة، ولهذا ليس هذا محل اتفاق اصْبِرُوا وَصَابِرُوا قال: وزيادة المبنى لزيادة المعنى اصْبِرُوا أمر بالصبر وَصَابِرُوا مزيد من أيضًا التأكيد للصبر، ويدخل فيه مصابرة العدو في القتال، والمصابرة في سائر الميادين في الدعوة إلى الله وهكذا مصابرة حينما تُنازع النفس الشهوات، ونحو ذلك.

"وَرابِطُوا [آل عمران:200] أقيموا في الثغور مرابطين - وفي النسخة الخطية: رابطين خيلكم مستعدين للجهاد - وقيل: هو مرابطة العبد فيما بينه، وبين الله، أي معاهدته على فعل الطاعة، وترك المعصية، والأوّل أظهر، وأشهر، قال ﷺ: رباط يومٍ في سبيل الله خيرٌ من صيام شهرٍ، وقيامه[1] وأما قوله في انتظار الصلاة: فذلكم الرباط[2] فهو تشبيهٌ بالرباط في سبيل الله لعِظَمِ أجره، والمرابط عند الفقهاء: هو الذي يسكن الثغور ليرابط فيها، وهي غير موطنه، فأما سكّانها دائما بأهليهم، ومعايشهم فليسوا مرابطين، ولكنهم حماةٌ، حكاه ابن عطية[3]."

قوله هنا: رباط يومٍ في سبيل الله خيرٌ من صيام شهرٍ، وقيامه قال: وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله، وأُجري عليه رزقه، وأمِن الفتّان[4] يعني في القبر.

وحديث: «رباط يومٍ في سبيل الله خيرٌ من الدنيا، وما عليها[5].

وحديث: كل ميتٍ يُختم على عمله إلا الذي مات مرابطًا في سبيل الله، فإنه ينمو له عمله إلى يوم القيامة، ويأمن فتنة القبر[6].

وحديث: عينان لا تمسهما النار، عينٌ بكت من خشية الله، وعينٌ باتت تحرس في سبيل الله[7].

فهذه الأحاديث، وغيرها في فضل الرباط.

فهنا: وَرابِطُوا يدخل فيه الرباط في نحر العدو، وذلك يكون في الثغور المتاخمة لبلاد العدو؛ لأنه يحمي بلاد المسلمين.

يقول: والمرابط عند الفقهاء هو الذي يسكن الثغور ليرابط فيها، وهي غير موطنه، يعني: يتوجّه إليها لقصد حماية، وحراسة بلاد المسلمين، فأما سكّانها يعني الأصليين، يعني بأهليهم، لمعايشهم فليسوا مرابطين، ولكنهم حماةٌ، حكاه ابن عطية، حُماة هذا من باب الترغيب لهم في البقاء، لئلا تخلوا، ولذلك كرِه النبي ﷺ مثلًا - هذا مع الفارق - كرِهَ أن تعرى المدينة، الذين يسكنون بالأطراف من بني سلمة مثلًا، أو نحو ذلك، يعني هؤلاء يُمثلون درعًا، أو حماية للمدينة، فكرِه النبي ﷺ أن تعرى المدينة؛ لأن الناس كانوا يُريدون التحوّل قريبًا من المسجد، فكان النبي ﷺ يُبيّن لهم فضل المشي إلى المساجد، وكثرة الخُطى، وما إلى ذلك، قال: يا بني سلِمة، دياركم يعني الزموا دياركم تُكتَب آثاركم[8] كرِه أن تعرى المدينة.

لكن المعنى هنا: اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا هنا كلام للحافظ ابن القيم - رحمه الله - يذكر فيه معنًى مُفيدًا يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا يقول: "علّم الله - تعالى - عباده كيفية حرب الشيطان، وجهاده، فجمعها لهم في أربع كلماتٍ في هذه الآية، ولا يتم أمر هذا الجهاد إلا بهذه الأمور الأربعة، فلا يتم له الصبر إلا بمصابرة العدو، وهي منازلته، فإذا صابر عدوه احتاج إلى أمرٍ آخر، وهو المرابطة، وهي لزوم ثغر القلب، وحراسته؛ لئلا يدخل منه العدو، ولزوم ثغر العين، والأذن، واللسان، والبطن، واليد، والرجل، فهذه الثغور منها يدخل العدو فيجوس خلال الديار، ويُفسد ما قدر عليه، فالمرابطة لزوم هذه الثغور، ولا يُخلي مكانها، فيُصادف العدو الثغر خاليًا فيدخل منه، وجِماع هذه الأمور الثلاثة، وعمودها الذي تقوم به هو تقوى الله، فلا ينفع الصبر، ولا المصابرة، ولا المرابطة إلا بالتقوى، ولا تقوم التقوى إلا على ساق الصبر"[9].

وهنا تحدث عن مجاهدة الشيطان، والصبر على طاعة الله، وما إلى ذلك، هذا الكلام عند من يقول بأن المصابرة تكون للعدو بالقتال، والمرابطة بلزوم الثغور، ونحو ذلك أن الآية في الجهاد يكون مثل هذا الكلام الذي ذكره ابن القيم من قبيل التفسير الإشاري، يعني من باب أن الشيء بالشيء يُذكر، من باب القياس، وليس معنى الآية عند من قال: إن الآية في خصوص مصابرة الأعداء من الكفار بالقتال، وما إلى ذلك.

وأصل المُرابطة، والرباط أصلها هي: ربط كل فريق لخيلهم في الثغر، كلٌ يُعد لصاحبه، سُمي المكان الذي يُخص بإقامة حفظه رباطًا، يقال: هذا رباط، جاء عن الحسن البصري: أُمِروا أن يصبروا على دينهم اصْبِرُوا الذي ارتضاه الله لهم، وهو الإسلام، فلا يدعوه لسراء، ولا لضراء، ولا لشدةٍ، ولا لرخاء حتى يموتوا مسلمين، وأن يُصابروا الأعداء[10] يعني أعداء الدين.

وهذا الذي اختاره ابن جرير[11] وابن كثير[12] اصْبِرُوا يعني: على طاعة الله، ودينه، وتقواه وَصَابِرُوا أعداءه، اختاره ابن جرير، وابن كثير، وفسّر ابن كثير المرابطة بالمداومة في مكان العبادة، والثبات.

وجاء عن ابن عباس، وسهل بن حُنيف، ومحمد بن كعب، وغيرهم انتظار الصلاة بعد الصلاة[13] لحديث: فذلكم الرباط ما هي العلة؟ قالوا: لأنه لما نزلت هذه الآية أصلًا في زمن النبي ﷺ لم يكن هناك رباط، ما كان فيه ثغور تحتاج إلى مرابطة، ومرابطين، ثغور متاخمة، يعني ما الذي حملهم على القول بأن ذلك انتظار الصلاة بعد الصلاة؟ قال النبي ﷺ: فذلكم الرباط.

الأمر الثاني: قالوا ما كان فيه رباط في يوم نزلت الآية، لكن ليس هذا للضرورة اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا يعني: هذا خطاب للأمة، والله عالم أنه سيكون هناك ثغور، وتتسع بلاد المسلمين، وإلا فما معنى الأحاديث الواردة في فضل الرباط، مع القول بأنه لا يوجد أصلًا ثغور يُرابط فيها في زمن النبي ﷺ كيف يُقال هذا؟ إذًا ما معنى هذه الأحاديث، الترغيب في الرباط رباط يومٍ في سبيل الله؟ فتكون هذه الآية في الرباط وَرَابِطُوا يدخل فيها المرابطة بنحر العدو، ومصابرة العدو في ميدان المعركة، ويدخل فيها مثابرة العدو في ميدان الدعوة، ويدخل فيها أيضًا المرابطة في ملازمة الحق، والثبات عليه، وملازمة الطاعة، والعبادة، فكل هذا يدخل فيه - والله أعلم -.

  1.  أخرجه البخاري، كتاب الجهاد، والسير، باب فضل رباط يوم في سبيل الله، برقم (2892).
  2.  أخرجه مسلم، كتاب الطهارة، باب فضل إسباغ الوضوء على المكاره، برقم (251).
  3.  تفسير ابن عطية (المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز) (1/560).
  4.  أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب فضل الرباط في سبيل الله برقم (1913).
  5.  أخرجه البخاري، كتاب الجهاد، والسير، باب فضل رباط يوم في سبيل الله، برقم (2892).
  6.  أخرجه أبو داود، كتاب الجهاد، باب في فضل الرباط، برقم (2500) وأحمد في المسند، واللفظ له، برقم (23951) وقال محققوه: "إسناده صحيح" وصححه الألباني في تحقيق مشكاة المصابيح، برقم (3823).
  7.  أخرجه الترمذي، أبواب فضائل الجهاد عن رسول الله ﷺ باب ما جاء في فضل الحرس في سبيل الله، برقم (1639) وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (4113).
  8.  أخرجه مسلم، كتاب المساجد، ومواضع الصلاة، باب فضل كثرة الخطا إلى المساجد، برقم (665).
  9.  الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي (الداء، والدواء) (ص:97).
  10.  تفسير الطبري (6/332) وتفسير ابن كثير (2/195).
  11.  تفسير الطبري (6/332).
  12.  تفسير ابن كثير (2/197).
  13.  أخرجه مسلم، كتاب الطهارة، باب فضل إسباغ الوضوء على المكاره، برقم (251).