بعد أن بيّن الله -تبارك وتعالى- إحصاء الأعمال، وأن كل أحد من الناس سيلقى عمله، وما قدمت يداه يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [آل عمران:30]، فهنا لما ذكر لهم هذا التحذير بيّن لهم طريق النجاة، والمخرج الذي به يوصل إلى مرضاته -تبارك وتعالى-، ومحبته، فقال: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران:31].
يأمر الله -تبارك وتعالى- نبيه ﷺ أن يُبلغ الناس أجمعين إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ محبة صادقة حقيقية فَاتَّبِعُونِي، وآمنوا بي ظاهرًا، وباطنًا يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ، يتجاوز عنها، ويسترها عليكم، ويقيكم التبعات الحاصلة من جراء هذه الذنوب، والله -تبارك وتعالى- كثير الغفر، كثير الرحمة على كثرة العباد، وكثرة جناياتهم وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
فهذه الآية أيها الأحبة! قد تضمنت أصولاً عظيمة، فهي حاكمة على كل من ادعى محبة الله -تبارك وتعالى-، وليس متبعًا للنبي ﷺ، الذي يدعي محبة الله سواء كان من أهل الكتاب، ولا يتبع الرسول صلوات الله وسلامه عليه، أو كان ممن ينتسب إلى هذه الأمة، ويدعي محبة الله، ولكنه بعيد عن اتباع نبيه، وصفيه من خلقه ﷺ فهذا لم يصدق في دعواه، لأن قوله -تبارك وتعالى- قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي فهذا شرط، وجزاء، وهو برهان على صدق المحبة إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ هذا هو الشرط فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ.
فهذه ثلاثة أمور:
الأول: دعوى المحبة لله إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ.
الثاني: فَاتَّبِعُونِي الذي هو شرط الوفاء بما يُصدقها، وهو اتباع النبي ﷺ.
الثالث: زيادة يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ الحديث في دعوى محبة الله ، أن العبد يُحب ربه، فذكر لهم شرط هذه المحبة، وما يُصدقها، وزادهم على ذلك محبته لعباده المتبعين لرسوله ﷺ، فصار عندنا محبة الله للعبد، محبة العبد لربه إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ، والاتباع، وهو بُرهانها، ومحبة الرب للعبد، فهما محبتان بينهما مُلازمة.
فهذه الآية أيها الأحبة! تتلاشى معها الدعاوى الكاذبة، فليست العبرة بما يقوله الإنسان، ويدعيه لنفسه، وما يزعمه، أو يصف نفسه به دائمًا؛ إنما العبرة هي في العمل، في التطبيق، وما يوجد في الخارج مما يُصدق هذه الدعاوى، قد يدعي الإنسان التقوى، والصلاح، والإيمان، وما إلى ذلك، وأفعاله تدل على خلاف ذلك، كما قال الله -تبارك وتعالى-: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ [البقرة:204]، يُشهد الله على ما في قلبه على القولين في تفسير الآية: يُشهد الله يعني أنه يقول، والله يشهد أني أحب الله، وأريد الإصلاح، والصلاح يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ [البقرة:204]، والقول الآخر: أنه بقوله هذا وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا في الوقت الذي يكون فعله مُضادًا لقوله، ومناقضًا له هو مُشهد لله على حال غير مرضية قد انبعثت عن قلب فاسد.
وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ [البقرة:204]، وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ [البقرة:205-206]، فهذا يدعي دعاوى كبيرة، ودعاوى عريضة، ولكن فعله يُكذبها، فهذه الآية الكريمة من سورة آل عمران قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31]، تضمنت معيار المحبة أن المحبة الحقيقية تكون باتباع النبي ﷺ ظاهرًا، وباطنًا، فيما يتصل بالقضايا الإيمانية، والاعتقاد.
وكذلك ما يتصل بالعمل، فيكون مقتديًا به ﷺ على اعتقاد صحيح بعيدًا عن الإشراك، ودعاء غير الله -تبارك وتعالى-، وبعيدًا عن الضلالات، والأهواء، والبدع، والمُحدثات، فكيف يصح دعوى محبة النبي ﷺ، والمُقتدى به غيره، يُترك قوله، وفعله، وهديه، وسنته، ثم يدعي الإنسان أنه يُحب ربه، ويُحب رسوله ﷺ.
هذه الآية أيها الأحبة! تتحدث عن محبة الله ، فإذا كانت محبة الله منوطة باتباع النبي ﷺ فمن باب أولى أن محبة النبي ﷺ منوطة باتباعه ظاهرًا، وباطنًا، ولهذا كان التسليم الكامل من أهل الإيمان، والاتباع من أصحاب النبي ﷺ فمن بعدهم في كل شيء، يُقبل الحجر الأسود اتباعًا للنبي ﷺ، وانقيادًا، وامتثالاً، وفي الوقت نفسه نرمي الجمار امتثالاً بالعدد، والصفة التي ورد فيها ذلك، ونعلم أن هذا حجر، وهذا حجر، فنحن لم نُقبل الأول من عند أنفسنا، وإنما لأن النبي ﷺ قبّله، فاقتدينا به، ولم نرمِ الجمار من عند أنفسنا، ولم نُحقر هذا الموضع لذاته، وإنما كان ذلك على سبيل الاقتداء.
وإلا فمعلوم أن الناس حينما يرمون الجمار لا يكون الشيطان موثقًا في هذا المكان، إنما هو الاتباع في التقبيل، والاتباع بالرمي فهذا شأن أهل الإيمان، وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36]، إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [النور:51]، فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65]، الانقياد الكامل، والاستسلام، والتسليم هذا الذي يثبت معه الإيمان، وتكون الدعوى صادقة، دعوى محبة الله ، ومحبة رسوله ﷺ.
قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ، ومن الذي يقول أنا لا أحب الله، ولاحظ هنا قال: فَاتَّبِعُونِي ما قال إن كنتم تحبون الله فاجتهدوا بعبادته، على أي وجه كان بالمخترعات، والمُحدثات، والبدع هذا لا يكون، ولا يكون ذلك أيضًا بالإشراك معه أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته، وشركه، إنما هو التوحيد الكامل، والعناية بالتوحيد، والإخلاص للمعبود ، والاتباع لسنة رسوله ﷺ، لكن حينما يأتي من يخرم هذه الأصول الثلاثة فهو يدعوا غير الله من أصحاب القبور، والأضرحة، ويستغيث بهم.
وكذلك أيضًا يتقرب إلى الله -تبارك وتعالى- بما لم يشرع، ثم يدعي بعد ذلك أنه يُحب الله، ورسوله، ويرمي أتباع الرسول ﷺ حقًا بالألقاب القبيحة، بل يُخرجهم من السنة، وأهلها، فإن هذا عين العمى، والضلالة، ومثل هذه الدعاوى العريضة ادعاها أقوام كثير عبر التاريخ، ولكن لم يكن لهم نصيب يُصدقها في الواقع، فكان ماذا؟
كانوا في جملة أهل الضلال، والبدع، والأهواء، وتلاشت تلك الدعاوى، ولربما وجدوا من يقف معهم من الخلفاء، ونحو ذلك كما وقف المأمون، واثنان بعده من خلفاء بني العباس المعتصم، والواثق كل هؤلاء كانوا مع المعتزلة، فحصل ما حصل من فتنة القول بخلق القرآن، وامتحن الناس، والعلماء، وفرض ذلك على الكتاتيب، الصبيان الصغار، وما كان يُطلق الأسير حتى يُمتحن في هذا، ثم ماذا؟
بقي هؤلاء من أهل الضلال، والبدع، وتلاشت تلك الأهواء، وذهب أهلها بها لا يُذكرون بخير، من منكم يعرف ابن أبي دؤاد شيخ المعتزلة، ورئيس، وكبير القضاة في ذلك العهد، ولّى، وقد رأى ما يسوؤه قبل موته، فهذه سنة الله في خلقه.
وهكذا في كل زمان أيها الأحبة! يخرج على الناس أعناق من أهل الضلالة قد انغمسوا بها، ثم بعد ذلك يدعون هذه الدعاوى العريضة، ويُضيفون إلى أهل السنة والجماعة أسوء الأوصاف، والواقع أن أولئك المُبتدعة أحق بها وأهلها، فلا تبتأسوا، ومثل هؤلاء يموتون، ويموت ذكرهم، هكذا علمنا التاريخ، وهكذا دلت نصوص الكتاب، والسنة، والموفق من وفقه الله -تبارك وتعالى-.
والسنة -كما قال بعض السلف-: سفينة نوح، من ركبها سلم، وأما إذا أوى إلى غيرها من طُرق الضلالة، والسُبل المعوجة فإن ذلك لا يودي به إلى هدى بحال من الأحوال، فما قد يُثار هنا وهناك من مثل هذه الفِرى، والأكاذيب، ومن ينفخ في مثل هذا، هؤلاء كلهم خيل الشيطان، ورجله، فلا تبتأسوا، ولا تكترثوا بهم، فمصيرهم إلى الاضمحلال، والزوال، والسنة هي التي لها الظهور، والعاقبة، ولأهلها من العواقب الحميدة في الدنيا والآخرة، فهي دين الله حقًا الذي جاء به رسوله ﷺ، فهذا محفوظ، لا يمكن أن يزول.
ولكن هؤلاء، ومن ورائهم من أعداء الإسلام يحاولون أن يعوقوا المسير، ويحاولون أن يُضيقوا الخناق، ولكنهم في الوقت نفسه يعلمون -كما قال أحد كبار قادة الغرب- أن هذا الخط الممتد عبر التاريخ منذ بُعث رسول الله ﷺ إلى اليوم هو الإسلام الحقيقي الذي يخافه الغرب، وأما بُنيات الطريق، والسُبل، والفرق فمنذ أن جاء الاستعمار، وهو يدعمها، والكتب التي نشرها المستشرقون، عامة هذه الكتب هي من كتب المعتزلة، وأهل الفلسفة، والعلوم الكلامية، والزندقة من الصوفية الفلسفية، للزنادقة أمثال: الحلاج، وابن عربي، وإخوان الصفا، وأمثال هؤلاء، بالإضافة إلى فرق أخرى كالقاديانية التي اخترعوها، وأنشأوها في القارة الهندية، ثم بعد ذلك نشروا لها فروعًا في بلادهم، وغير بلادهم.
فهنا قال: إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي، ولاحظ هنا ما قال: فارجعوا إلى عقولكم، وحكموها، وإنما قال: فَاتَّبِعُونِي فالطريق هو الاتباع للنبي ﷺ، هذا الطريق إلى محبة الله فَاتَّبِعُونِي فالفاء تدل على ترتيب على ما بعدها على ما قبلها، بُرهان محبة الله فاتباع النبي ﷺ هذا هو الطريق، وكذلك أيضًا يُقال: بأن هذه الآية تدل دلالة واضحة في كل زمان، ومكان على أن من ادعى دعوى لم يُصدقها بعمله، وواقعه فإن دعواه مرفوضة، ودعواه مردودة.
ثم أيضًا يؤخذ من هذه الآية الكريمة فَاتَّبِعُونِي لما علق ذلك بالاتباع فإن هذا الاتباع لا يمكن أن يتحقق إلا بمعرفة سيرته ﷺ، وسنته فهذا يحتاج إلى تعلم، فإنه قد جاء عنه ﷺ في سيرته، وسنته القولية، والعملية أمور كثيرة في حال إقامته، وسفره، وحربه، وسِلمه، ومع أزواجه، ومع أصحابه، ومع المؤمنين، ومع غيرهم، كل هذا وغيره يحتاج العبد إلى معرفة ماذا جاء عنه في العبادة فعلاً وتركًا، قولاً وعملاً، فإذا عرف العبد مثل هذا فإنه يستطيع أن يتبع النبي ﷺ فهذا لابد منه، وإلا فإن العبد إذا كان جاهلاً فإنه لا يمكن أن يكون مُتبعًا، يتبع على أي أساس؟!
هو لا يعرف تفاصيل سنة النبي ﷺ فلربما يتقرب إلى الله بأمور لا أصل لها ولا أساس، فمن هنا يتبين لنا أهمية دراسة السنة النبوية، ومعرفة السيرة النبوية، وأما أن يقول العبد أنا أُحب رسول الله ﷺ، وهو لا يعرف سيرته، ولكنه يعرف من سير الناس من اللاعبين، وغيرهم أعظم وأكثر مما يعرف من سنة رسول الله ﷺ فهذه دعاوى غير صحيحة.
قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران:31]، وذكرنا بأن محبة الله -تبارك وتعالى- ليست دعوى مجردة، بل لا بد لها من بُرهان يُصدقها، وهذا ما طالبهم الله -تبارك وتعالى- به من اتباعه ﷺ، قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ، والاتباع هنا الذي أمرهم به جاء مُطلقًا فَاتَّبِعُونِي ما قال: فاتبعوني فيما يتعلق بالسلوك، والآداب، أو اتبعوني فيما يتعلق بالاعتقاد، أو اتبعوني في الأمور العملية، وإنما أطلق ذلك، فدل ذلك على أن المطلوب هو اتباع النبي ﷺ في كل شيء مما يُطلب فيه الاقتداء، فيدخل في ذلك الأمور العملية من أنواع العبادات، فالنبي ﷺ صلى على المنبر ليراه الناس، وقال: صلوا كما رأيتموني أصلي.
وكذلك أيضًا فإن النبي ﷺ حج، وركب راحلته ﷺ ليراه الناس، ويقتدوا به، وقال: ﷺ: خذوا عني مناسككم، وهكذا في سائر التعبدات، فهو الأسوة الكاملة ﷺ، وهو القائل: من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد.
وقل مثل ذلك فيما يتعلق بالسلوك والأخلاق، فكان خلقه القرآن ﷺ، وهكذا أيضًا فيما يتعلق بالهدي الظاهر، وقد كان بعض أصحاب النبي ﷺ يُتابعه في أمور مما كان من قبيل الجِبلة، أو أمور العادة مما لا يتصل بالتشريع، أو التعبد، فكان ابن عمر -رضي الله عنهما- يُنيخ راحلته في المكان الذي ناخ النبي ﷺ راحلته فيه، فكان يتتبع آثاره ﷺ حتى إنه لربما بال في المكان الذي بال فيه النبي ﷺ.
وكان بعض أصحابه كأنس يتتبع بعض ألوان المطعوم؛ لأنه رأى النبي ﷺ يتتبعها كالدُباء، وهذه أمور، وإن لم تكن مقصودة للشارع، ولكن لشدة متابعتهم كانوا يقتدون به ﷺ فيها، فكيف بما طولبوا به؟!
فَاتَّبِعُونِي فالأصل بقاء المُطلق على إطلاقه، والعام على عمومه، فهنا حُذف المُتعلق ما قال: اتبعوني في الشأن الفلاني، أو الباب الفلاني، وإنما أطلق ذلك، فينبغي أن يُحمل على الإطلاق، فمن أراد محبة الله -تبارك وتعالى- فليتبع النبي ﷺ في كل شأن من شؤونه، مما يُطلب الاقتداء به فيه ﷺ، وبذلك يحصل له ما بعده من قوله قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ، ويكون ذلك سبيلاً لمحبة الله للعبد.
قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ هذه الآية تضمنت وجوب محبة الله -تبارك وتعالى-، وهذه كل أحد يدعيها، وكذلك علامات هذه المحبة، ونتيجة هذه المحبة، والثمرة الحاصلة من جرائها يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ، وبهذه الآية قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ يوزن جميع الخلق فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ، والقاعدة أن الحكم المُعلق على وصف يزيد بزيادته، وينقص بنقصانه، فيُفهم من ذلك أنه بقدر ما يكون للعبد من الاتباع للنبي ﷺ يكون له نصيب من الوصف المذكور، الحكم المعلق على وصف، الوصف: إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ، ومحبة الله فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ فيكون للعبد من محبة الله -تبارك وتعالى- بقدر ما يكون من اتباع النبي ﷺ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ يعني: على قدر الاتباع تكون محبة الله للعبد، ويكون نقص حظ العبد من هذه المحبة بقدر ما يكون عنده من التقصير، والتفريط، والتضييع بالاقتداء برسول الله ﷺ، ومتابعته.
كذلك في قوله -تبارك وتعالى-: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ هذا يدل على صحة المطالبة بالبُرهان، من ادعى دعوة فيمكن أن يُطالب بما يُصدقها ببرهانها، وهذه الآية واضحة، وصريحة في ذلك، ثم إن هذه الآية عامة، يعني لا تختص بهذه الأمة، وكما ذكرنا أن هذا السياق في بضع وثمانين آية في صدر سورة آل عمران، هي تتحدث عن أهل الكتاب، لاسيما النصارى، فهو -تبارك وتعالى- يحتج عليهم، فيدخل في ذلك سائر أهل الأديان من أهل الكتاب، وغيرهم ممن يدعون محبة الله -تبارك وتعالى-، ويدخل فيه أيضًا هذه الأمة بطوائفها المختلفة، فإن هذه الدعوى إنما يكون تصديقها باتباعه، والاقتداء به، فأصدق الناس في ذلك هم أعظمهم اتباعًا، وهم أحقهم بمحبة الله فهم الذين يحبونه حقا، وهو الذي يُحبهم لاتباعهم لرسوله ﷺ.
ثم أيضًا هذا موضع في كتاب الله -تبارك وتعالى- مما يدل على السبب الجالب لمحبته، فهناك مواضع كثيرة في كتاب الله ينبغي أن تُتتبع، وهي جديرة بالعناية، من الذين يحبهم الله -تبارك وتعالى-، يُحب التوابين، يُحب المتطهرين، يُحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص، إلى غير ذلك من المواضع التي ينال أصحابها محبة الله ، وهي لا شك أعظم المطالب، وأجل ما يمكن أن يسعى إليه العبد، الإنسان حينما يُحبه أحد من الناس ممن يُجله، ويُعظمه فإنه يغتبط بذلك، ويفرح، ويُسر، فكيف بمحبة رب العالمين للعبد.
وهكذا أيضًا قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ فإن هذه الآية الكريمة تدل على المُلازمة بين ما يدعوا إليه النبي ﷺ، ومحبة الله ، يعني: إذا كان الاتباع هو بُرهان المحبة، فيدل ذلك على أن كل ما دعا إليه النبي ﷺ أنه مما يُحبه الله، ويُحب فاعله.
وكذلك أيضًا فَاتَّبِعُونِي هنا في هذا الإطلاق لم يُقيد هذا الاتباع بما يتصل بما جاء في أحد الوحيين، كالقرآن مثلاً، فمن الناس من يقول: إنما نأخذ ما جاء في القرآن، أو نأخذ من السنة ما كان موافقًا للقرآن فقط، يعني أنه لا يأخذ ما كان زائدًا على ما في القرآن، والله -تبارك وتعالى- يقول: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ [الحشر:7]، فهذه دعوى لبعض أهل الانحراف، والزيغ، والضلال.
فإن سنته ﷺ شارحة للقرآن، مُفسرة له، ومقيدة، ومخصصة، وتكون قد جاءت بأحكام ليست في القرآن، وإنما جاء في القرآن ما يدل عليها إجمالاً، وهو قوله: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ [الحشر:7]، وأثر ابن مسعود لما ذكر الحديث لعن الله... والنامصات، واعتراض المرأة معلوم لديكم، وذلك أنها قالت بأنها قرأت القرآن، ولم تجد فيه ذلك يعني: لعن النامصات، "لعن الله النامصات، فقالت: قرأت كتاب الله، ولم أجد فيه ذلك، قال: لئن كنتِ قرأتيه لقد وجدتيه"، فلما لم تفهم مراده، ولم تصل إلى الموضع الذي يكون شاهدًا على ذلك من كتاب الله ذكر لها هذه الآية وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7]، فلا يصح لأحد أن يقول: لا نأخذ إلا ما جاء في القرآن، أو ما نأخذ من سنة رسول الله ﷺ إلا ما كان موافقًا للقرآن، ولا نأخذ ما زاد على ذلك، فهذا لا شك أنه سيوقعه في ضلالات، قد تذهب بدينه، وآخرته.
وهكذا أيضًا تدل هذه الآية دلالة واضحة كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: على أن من ادعى محبة الله -تبارك وتعالى-، ولم يتبع النبي ﷺ أنه كاذب" باعتبار أن هذه المحبة ليست لله وحده، وإنما هي محبة فيها دخن، هي محبة شركية كما يُعبر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يقول: "لأنه إنما يتبع هواه، يقول: هذه مثل دعوى اليهود، والنصارى محبة الله، فإنهم لو أخلصوا له المحبة لم يُحبوا إلا ما أحب، فكانوا يتبعون النبي ﷺ فلما أحبوا ما أبغض الله، مع دعواهم حبه؛ كانت محبتهم من جنس محبة المشركين، المشركون الذين بُعث فيهم النبي ﷺ يدعون محبة الله، لكن هذه المحبة ليست محبة صحيحة، ليست محبة إيمانية كما هي محبة أهل التوحيد والإيمان.
ثم أيضًا يؤخذ من قوله -تبارك وتعالى-: فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ التعبير بلفظ الاتباع يدل على التقرب، فهنا من آثار المحبة طلب القُرب من المحبوب، فيكون مُتابعًا له، يسير خلفه إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي، يعني: النبي ﷺ، ثم إن التابع يكون خلف من يتبعه، فدل ذلك أيضًا على الانقياد الكامل، والاقتداء التام، من غير معارضة، ومن غير تردد، ومن غير تخير، ومن غير عرض على العقول -كما يقول بعضهم-.
وكذلك أيضًا يؤخذ من هذه الآية الكريمة إجابة السائل بأكثر مما سأل، وهذا له نظائر في الكتاب، والسنة.
لاحظ هنا القضية في محبة الله قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي فكان هذا الجواب، لكنه زادهم على ذلك يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ زادهم أمرين هما من ثمار المحبة، فهذه فائدة، ومثل ذلك أيضًا في قول النبي ﷺ حينما سئل عن الوضوء بماء البحر، فقال: هو الطهور ماؤه الحِل ميتته، فكان الجواب: هو الطهور ماؤه، فزادهم على ذلك: الحِل ميتته.
وكذلك أيضًا يؤخذ من هذه الآية كمال إحسان الله -تبارك وتعالى- على عباده.
فلاحظ هنا في هذه الآية في ذكر الجزاء على هذا الأمر: إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ فدل ذلك على أن اتباع النبي ﷺ يكون سببًا لمحبة الله، ويكون سببًا لغفران الذنوب مع أنه أمر واجب، ولازم.
كذلك أيضًا فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ فيه إثبات صفة المحبة لله أنه يُحب، وأنه يُحَب، وهذه لها أثر في قلب العبد، وعمله، وحاله، وسلوكه، الذين يعتقدون بأن الله -تبارك وتعالى- لا يوصف بالمحبة، وأنه لا يُحب، ولا يُحَب، لا شك أن هؤلاء يتعبدون بطريقة جافة، وأنهم قد لا يجدون ما يُحفزهم للعمل الصالح، والإقبال على الله -تبارك وتعالى-.
كذلك أيضًا في قوله تعالى: يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ قدم ما يتعلق بهم، ما قال: ويغفر ذنوبكم، يعني لكم، وإنما قال: وَيَغْفِرْ لَكُمْ لأن هذا هو المعتنى به، هم يريدون لذواتهم ما يكون فيه الخلاص، والنجاة، والسلامة من المهالك، والمعاطب، وما إلى ذلك، وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ فأيضًا هنا الجمع بين الغفر، والغفور، والرحيم وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ فهذا ما يتعلق بالغفور، هذا جانب الوقاية من الفضيحة، والوقاية من جرائر، وتبعات الذنوب؛ لأننا قلنا: بأن الغفر يتضمن معنيين:
المعنى الأول: الستر، ومنه المغفر الذي يلبسه المقاتل فوق رأسه، يستره، والأمر الثاني: الوقاية فإنه يقيه ضرب السلاح، فهذا من جانب الوقاية، فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ، ثم ذكر الرحمة بعده غَفُورٌ رَحِيمٌ فهذا مما يتصل بالعناية -أعني الرحمة- فهذه تكون بنزول الألطاف الربانية، ودخول الجنة لن يدخل أحدا عمله الجنة، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: لا، ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله بفضل، ورحمة.
فالعبد بحاجة إلى أمرين: بحاجة إلى الوقاية من الذنوب، وتبعتها، وجرائرها، كذلك أيضًا هو بحاجة إلى ألطاف الله، ورحمته، وبذلك تتحقق النجاة، فيُيسر لليُسرى، ويُجنب العُسرى.
وعلى كل حال هذه الآية رسمت الطريق الوحيد لمحبة الله ، وذلك يتضمن الخلاص، والنجاة، ودخول الجنة، والسعادة الدنيوية، والأخروية.
والتعبير بهذا التذييل في قوله -تبارك وتعالى-: وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ فيه إثبات صفة الغفر لله ، وإثبات صفة الرحمة على ما يليق بجلاله، وعظمته، وكذلك مجيء هذه الأسماء الحسنى على صيغة المُبالغة غفور على وزن فعول، رحيم على وزن فعيل؛ وذلك لعِظم هذه الأوصاف؛ لكثرة ذنوب العباد، ولكثرة هؤلاء العباد، وكثرة الرحمات النازلة، يعني: هو كثير الغفر، كثير الرحمة، وهنا وَاللَّهُ ما قال: وهو غفور رحيم، فأظهر هذا الاسم الكريم في موضع يصح فيه الإضمار، وهذه لا شك أنه أليق في هذا المقام وَاللَّهُ لإبراز هذه الأوصاف، هذا -والله أعلم- وصلى الله على نبينا محمد، وآله، وصحبه.