لما حذر الله -تبارك وتعالى- عباده بقوله: قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ [آل عمران:29]، وهذا يقتضي المحاسبة -كما ذكرنا- فإذا كان يعلمه، فقد أحصاه، وسيجازيكم عليه؛ ولهذا قال الله بعده: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران:30]، فعلمه المحيط بخلقه يعلم الخفايا، والخبايا، ويعلم المُظهر، والمُعلن سيجد العبد ذلك جميعًا في صحيفة عمله، يَوْمَ تَجِدُ يعني في يوم القيامة، يوم الجزاء، يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا تجده موفرًا ينتظرها لتُجزى به، وما عملت من عمل سيء فإنه يكون أيضًا في انتظارها فتتمنى لو أن بينها وبينه أمدًا بعيدا، تتمنى لو كان هذا العمل السيء لو أن بينها، وبينه زمنًا بعيدا، فهذا بمعنى الحث على التقوى، والمراقبة، والاستعداد لهذا اليوم.
وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ يخوف الله -تبارك وتعالى- عباده من بأسه، وشدته، وسطوته، وانتقامه، وعقابه، وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ، والرأفة هي أخص من مُطلق الرحمة، فهي رحمة رقيقة، رحمة خاصة، وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ، وهذا يحتمل أعني قوله: بِالْعِبَادِ هل ذلك للعموم؟، فيكون قد جمع لهم بين الخوف، والرجاء، -وكما سيأتي- أن من مقتضيات رحمته أن حذرهم من مساخطه، وما يوجب عقابه، ويحتمل أن يكون المقصود بـ "أل" في "العباد" للعهد، وليست للجنس، جنس العباد يعني كل العباد: المؤمن، والكافر، ويحتمل أن تكون "أل" هذه عهدية بالعباد يعني: المتقين، المؤمنين، الصالحين، ونحو ذلك، فهو رؤوف بهم، لكن الرأفة قد تكون للعموم فالله -تبارك وتعالى- رؤوف بجميع الخلق، إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحج:65].
يؤخذ من هذه الآية من الهدايات يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا هنا العموم نص في هذه الآية صريح، حيث جاءت كل التي هي أقوى صيغ العموم يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ، وجاء بعدها التنكير للنفس "كل نفس" على سبيل الانفراد والاستقلال، تجد ما عملت من خير محضرا، كل نفس، يعني: هذه الآية تصدق على جميع الخلق البر، والفاجر، والمؤمن، والكافر، لا يخرج من ذلك أحد؛ لأن ذلك عام جاء التعميم فيه بأقوى صيغ العموم.
يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ، ولفظة "تجد" تدل على الوجود، وهو حاصل، وواقع، وحاضر، وموجود يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا، و"ما" هذه أيضًا تدل على العموم مَا عَمِلَتْ سواء كان ذلك كثيرًا، أو كان قليلاً، ولو كان شيئًا مما لا يعبأ به الإنسان وإن الرجل ليتكلم بالكلمة -يعني من رضوان الله تعالى- ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت -وفي الرواية الأخرى- يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم أن يلقاه، وفي الرواية الأخرى: يرفعه الله بها في الجنة، كلمة، فكيف بما هو أعظم من ذلك.
وكما سبق بأن الموازين عند الله -تبارك وتعالى- يوزن بها مثاقيل الذر فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه [الزلزلة:7]، وهنا يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ كل ما عملت حتى لو كان بمثاقيل الذر، ولهذا قال النبي ﷺ: لا تحقرن من المعروف شيئًا، ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق، وقال: وتبسمك في وجه أخيك صدقة وقال: الكلمة الطيبة صدقة، وأخبر عن من دخل الجنة، فقال: غُفر لامرأة مومسة، مرت بكلب على رأس ركي يلهث، قال: كاد يقتله العطش، فنزعت خفها، فأوثقته بخمارها، فنزعت له من الماء، فغفر لها بذلك .
وكذلك الذي أزال الأذى عن طريق المسلمين غُصن شوك، أعمال يسيرة، وقد ذكرت شيئًا كثيرًا من هذا بتتبع الروايات الصحيحة، والأحاديث الصحاح، والحسان في مجلس خاص بعنوان "أيكم يعجز عن هذا؟" أعمال يسيرة يمكن أن يدخل الإنسان بها الجنة، فهنا يجد الإنسان كل الأعمال الطيبة، أعمال الخير حاضرة، وكذلك أعمال الشر، قال: وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا يعني: أنه يجد أيضًا ما عمل من السوء.
ولهذا قال الله -تبارك وتعالى-: وَوُضِعَ الْكِتَابُ، يعني: كتاب الأعمال، كتاب كل إنسان، فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ، والإشفاق لفظة تدل على خوف لكنه خوف خاص، يعني: هو أخص من مطلق الخوف، إشفاق مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا [الكهف:49]، كما قال بعض السلف: "ضجوا إلى الله من الصغائر قبل الكبائر" مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً، وقدم هنا الصغيرة؛ لأن الناس يتساهلون بها، ويقولون هذا شيء يسير لا تُشدد لا تُدقق، لا تُنقر، وقد مثل النبي ﷺ الصغائر بالحطب يجمعه القوم، هذا يأتي بعود، وهذا يأتي بعود، ثم بعد ذلك يوقدون، فأنضجوا طعامهم، فهذه النار التي أوقدوا عليها، وأنضجوا هي عبارة عن عود مع عود فيتكون منها نار، يمكن أن يحصل بها مقصودهم ومطلوبهم من إنضاج الطعام، فهنا بآية الكهف وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا [الكهف:49]، أيضًا للعموم مَا عَمِلُوا حَاضِرًا كل ما عملوا من الخير، والشر، ويضجون وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا [الكهف:49]، الإحصاء هنا يدل على الاستقصاء، فلا يذهب، ولا يفوت منه شيء.
وكذلك أيضًا في قوله -تبارك وتعالى-: أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ [المجادلة:6]، فهذا يدل على جميع ما صدر عن الإنسان مما يحصل به الحساب، والجزاء، فذلك لا يفوت منه شيء، قد ينساه الإنسان لكثرته، أو لقلة اكتراثه، أو لطول العهد به، فينسى هذه الأعمال: تلك الكلمة، وتلك الغمزة، وتلك اللمزة، وتلك الكذبة، ولكن الله قد أحصى ذلك جميعًا، فالملَك يكتب، والله شهيد مطلع على أعمال العباد، وأحوالهم فهنا في ذلك اليوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا، فهذا يوجب الحذر، والمحاسبة أن الإنسان يُحاسب نفسه؛ لأنه سيُحاسب على هذه الأعمال، سيُحاسب على كل شيء، وانظر إلى السلف كيف كان، ورعهم، وكيف تساهلنا.
أحدهم قالت له امرأته: لو أنك مشيت خطوات بعد العشاء، فأجابها بأنه لا يجد لذلك نية، يعني: يُحاسب نفسه على خطوات، مع أن هذا أمر مُباح، وآخر دُعي إلى صلاة الجنازة فجأة، قيل له: جنازة، فقال: مهلاً حتى أُحضر نية، يعني: حتى لا يكون الذهاب مجرد إثبات حضور، إلقاء حرج اجتماعي، أو نحو ذلك، حتى أُحضر نية.
فكان الواحد يُحاسب نفسه على إراداته، ومقاصده، ونياته، وأعماله جميعًا، أما أن يبقى الإنسان في حال من الانفلات، ويصدر عنه من الأقوال، والأفعال، والتصرفات ما لا خطام له، ولا زمام، فلسانه يسبق فكره، وعقله، يُلقي الكلمة قبل أن يتمهل، ويتروى، ويُفكر هل هذه الكلمة صحيحة، أو فاسدة؟ هل هذه الكلمة في موضعها، أو ليست كذلك؟ هل هذه في وقتها المناسب؟ هل هؤلاء الذين يستمعون لهذه الكلمة يُنزلونها تنزيلاً صحيحًا، أو أنها تكون لبعضهم فتنة؟ يفكر العاقل بهذا، ليس فقط أن الكلام صحيح لكن هل هذا له فائدة؟ مثل هذا النشر الذي ننشره الآن، ونتداول الرسائل وبكثرة، يضغط الإنسان على هذه الرسالة دون أن يقرأ المحتوى، قد يكون المحتوى فيه منكرات، فيه محاذير، فيه أشياء لا يحسبها، فيها إغراء بالجريمة، إغراء بالفاحشة، إغراء بالمنكر، تؤدي إلى مفاسد، قد تكون معلومات غير صحيحة، قد تكون من قِبل بعض ضعفاء النفوس، يصطادون بها سواء كان ذلك في باب الأعراض، أو كان ذلك في الأموال، والحيل، في هذا كثير، أو التحذير أحيانًا لتشويه زيد، أو عمرو، أو المؤسسة الفلانية، أو الشركة الفلانية، أو البائع الفلاني، في أمور لا تدري هل هي صحيحة، أو لا؟
ثم تجد الناس يُسارعون في نشر هذه الأشياء، لو سألوا عنها، وقيل لهم: أثبت هذا الكلام، أنت حذرت من هذا المتجر، حذرت من هذه المؤسسة، حذرت من هذه الشركة، وأرسلت هذه الرسالة، يقول: أنا أرسلت ما جاءني، طيب هذا الذي جاءك هل تعلم صحته؟ أحيانًا تُكتب فيها أرقام هواتف، وينهال الناس على هذا المسكين الذي لربما قد ظُلم، وافتُري عليه ينهال الناس عليه بالذم، والعيب، والشتم، والدعاء عليه، ولربما الذي كتب هذا ضعيف نفس، مُغرض، وهكذا.
فأقول: هذا سيُحاسب؛ لأن هذا الذي ينقل الكذب هو أحد الكاذبين، ولا تبرأ ذمة الإنسان بمثل هذا، كيف إذا كان أيضًا فوق ذلك يُحرف كلام الناس، ويُقطعه، ويبتره من سياقه؛ ليتغير المعنى، ويتحول بالكلية؟! أحيانًا يُرسل بعض الناس بعض المقاطع من الكلام الذي نقوله هنا على مسامعكم في هذه المجالس، كلام يُحذر منه، ثم يأتي به في سياق كأنه يُرغب فيه، هذا من جنس أفعال اليهود الذين يُحرفون الكلِم عن مواضعه، وفيه تضليل للناس، فهذا كل من يضل بسبب هذا الكلام له نصيب، وكفل من هذه الضلالات، تنشر بعد بتر، يعني: مثل الذي يقول لا إله إلا الله فيبتر الجزء الآخر، ويُبقي على كلمة لا إله عين الإلحاد، فهذا من الإجرام، والعدوان على الخلق، والتضليل، والتلبيس عليهم.
يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا، وهذا يدل على كمال علم الله ، وإحاطته، وقدرته حيث جميع الأعمال، وجميع العباد من أولهم إلى آخرهم، كل الأعمال قد أُحصيت، الآن لو قيل لإنسان فقط يُحصي أعمال نفسه هو فقط ما يصدر عنه من كل التصرفات لتعب، وكل، وانقطع من مصالحه، ماذا يُحصي، وماذا يترك، وماذا يكتب من خواطره، وإيراداته، ومقاصده، ونياته، ونظراته، وحركاته، وسكناته فضلاً عن الأقوال، والأفعال، ماذا يكتب؟ وماذا يترك؟ وما مقدار هذه السجلات التي ستُكتب؟ لو كُلف الإنسان بمثل هذا لربما بقي لا يتحرك فقط يُصلي في مكانه يركع، ويسجد، وينتظر الصلاة إلى الصلاة، ولا يلتفت، ولا يُحرك شفتًا، ولا يدًا، ولا غير ذلك، هذا كله يُكتب، والإنسان في حال من السهو، والغفلة، والإعراض.
فإذا استشعر المؤمن مثل هذا لا شك أنه يخاف، ويحذر، ويُراقب نفسه، يُراقب قلبه، يُراقب عمله، يُراقب لسانه، فلا يصدر عنه إلا ما يجمُل؛ لأنه سيلقى ذلك جميعًا، سيُحاسب عليه وحده، العامة أحيانًا عندهم بعض العبارات الصحيحة، وقد تُستعمل في معنى غير صحيح، من المعاني التي يُعبرون بها أحيانًا يقولون: "كل شاة معلقة بعرقوبها"، هذه عبارة صحيحة، يعني: كل إنسان سيُحاسب على عمله بنفسه، كل شاة معلقة بعرقوبها، هو الذي سيُحاسب على عمله، سيجد غِب عمله وحده، لكنهم قد يستعملون هذا في معنى آخر أنه لا شأن لك بالناس، تأمرهم بالمعروف، وتنهاهم عن المنكر، وتنصحهم، سيُحاسبون هم عن أعمالهم، دعهم، هذا غير صحيح، سأُحاسب أنا إن لم أنصح الآخرين، ولم آمر بالمعروف، ولم أنه عن المنكر.
فالمقصود أن هذا يوجب الحذر، والالتفات إلى العمل، وإصلاح القلب، واللسان، والجوارح.
ولاحظ هنا يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ قلنا: "ما" تفيد العموم، و"كل" تدل على العموم، فكل في النفوس، وما في الأعمال، "ما عملت".
ثم قال: مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا، وخير نكرة في سياق "ما عملت من خير محضرا" "من خير" خير هنا نكرة سُبقت بمن فهي نص صريح في العموم، "من خير" أي خير مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا.
هنا قال: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا لاحظ هنا قُدم الظرف "يوم" على "تود" يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا فذلك اليوم الذي فيه الأهوال، والأوجال هو اليوم العظيم، ولذلك جاء تنكيره للتهويل، والتعظيم، قال الله : وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا [البقرة:48]، واليوم لا يُتقى، لكن ما الذي يُتقى؟ ما يقع فيه، يعني: من الأهوال، والأوجال، فهنا قدم يوم في هذه الآية يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا فالكلام في التحذير من هذا اليوم، وما يقع فيه من الحساب، والجزاء، فجاء مقدمًا لأهمية ذلك.
يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران:30] فقوله -تبارك وتعالى-: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ مضى الكلام على ذلك في آية قبلها، فأعاده هنا ربما -والله أعلم- لأنه قال بعده وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ يعني أن هذا التحذير يحذركم نفسه؛ نتيجة لكونه متصفًا بالرأفة بالعباد، يُحذركم نفسه؛ لكونه رؤوف بالعباد، فمن رأفته -تبارك وتعالى- بعباده أن حذرهم من أسباب عذابه، فذُكرت ثانية بهذا الاعتبار، وذلك أنه -تبارك وتعالى- قد بين للعباد ما يحتاجون إليه، وحذرهم من أسباب الشر، والهلاك، والعقوبات في الدنيا والآخرة، ويكون ذلك أيضًا جمعًا لهم بين الترغيب، والترهيب.
وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ هذا تحذير، ثم قال: وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ فهذا فيه رجاء، فيكون العبد بين الخوف، والرجاء، وهما كالجناحين للطائر لا يطير إلا بهما، فلا يصح أن تُبسط نصوص الرجاء الدالة على سعة رحمة الله ، وعفوه، ثم بعد ذلك يجرأ الناس على مساخطه اتكالاً على سعة عفوه، ورحمته، كما أنه لا يصح أن يُقنط الناس من رحمة الله -تبارك وتعالى- فيُذكر لهم نصوص الوعيد دون غيرها، وإنما يُذكر لهم هذا، وهذا كما هي طريقة القرآن، فالله -تبارك وتعالى- أعلم عباده أنه شديد العقاب، وأنه غفور رحيم، وهنا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ.
فالترهيب يحجز العبد عن مواقعة الذنب، وترك ما أمره الله -تبارك وتعالى- به، والترغيب يكون سائقًا إلى الجد، والاجتهاد، والعمل بطاعة الله رجاء الفوز الأكبر، والنعيم المقيم، فهو يُحسن الظن مع إحسان العمل، أما أن يُسيء العمل، ويُحسن الظن بالله -تبارك وتعالى- فهذا لا شك أنه مذموم.
وكذلك أيضًا فهذا يدل على أن رأفته -تبارك وتعالى- بهم وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ لا تمنع من إنزال العقوبة بمن يستحقها؛ لأنه قد سبق منه الإنذار، والبيان، والتحذير، فهو مع رأفته، وسعة رحمته إلا أنه يُعذب من شاء من عباده، من أهل الجراءة على حدوده، ومعصيته، وكما هو معلوم في نصوص الوعيد، ومن يدخل النار من أهل التوحيد فذلك ثابت لا شك فيه، أما الكفار فذلك أبين من أن يُنبه عليه أنهم يدخلون النار، وأن الله حرم عليهم الجنة، وأنهم يُخلدون أبدًا في نار جنهم.
فهذا التحذير، والوعيد ينبغي أن يُجمع مع الرجاء، فيكون العبد على حال من الاعتدال، لكن العلماء يقولون من كان مقصرًا فهو بحاجة إلى زاجر من التخويف، ولا يُرجى بنصوص الوعد لئلا يجترئ، ويُهمل، ويدع التوبة، ومن كان مجدًا في طاعة الله فهذا يحتاج إلى نصوص الرجاء، وبعض أهل العلم قالوا إنه عند الاحتضار، عند الموت ينبغي أن يُذكر للإنسان ما يُنمي الرجاء في قلبه؛ لأن النبي ﷺ قال: لا يموتن أحدكم إلا وهو يُحسن الظن بربه، فقالوا إحسان الظن في هذا المقام مطلوب، والذي يوجبه هو نصوص الرجاء، ولهذا تعرفون ما جاء عن السلف في مثل هذه المقامات عن عبد الله بن عمرو بن العاص مع أبيه عند الاحتضار.
وكذلك أيضًا ابن عباس -رضي الله عنهما- مع عائشة -رضي الله عنها- إلى غير ذلك، فالمقصود أنه لا تكرار هنا في قوله: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ أعني لا تكرار بلا معنى جديد، وإنما ذلك اقتضاه السياق، هناك حذر من موالاة الكافرين، فقال: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [آل عمران:28]، وهنا يُحذرهم من مغبة المعاصي، والجرائر، والجرائم، بحيث إن العبد سيجد ذلك مُحضرا يوم القيامة، فقال: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ.
وهكذا يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران:30]، هنا ما قال، وهو رؤوف بالعباد، وإنما أعاد هذا الاسم الكريم مُظهرًا، مع أن الإضمار هنا يفي بالمعنى الأصلي، ولكنه أظهره، -والله أعلم-، وذلك أبلغ، وأقوى، وأدعى إلى تربية المهابة في النفوس، فهذا مقام تحذير، والعلماء يقولون بأن ذلك إذا كان في جملتين منفصلتين فإنه لا إشكال فيه -كما هنا-: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ، هذه جملة مستقلة وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ هذا جملة أخرى مستقلة، فهو مع التقارب إلا أن كل واحد في جملة مستقلة، لا إشكال في ذلك.
كذلك حينما قال الله : وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ بعد التحذير، فهذا فيه إشارة إلى معنى، وهو أن رحمته سبقت غضبه.
كذلك هنا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ، فهذا أيضًا يدل على الاستغراق، والعموم -كما ذكرنا في الليلة الماضية- وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ كل العباد، وبعضهم جعل "أل" عهدية فقال هذا يختص بالمؤمنين، وحمله على العموم هو المناسب للسياق وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ كل العباد، وهذا تحذير للجميع، وخطاب لعموم الخلق، وإذا خُص ذلك بالمؤمنين جُعلت "أل" عهدية رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ، يعني: المتقين المؤمنين، فيكون ذلك من قبيل البشارة لهم.
وكذلك أيضًا لاحظ هنا وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ رؤوف بنا، هذا الاسم الكريم يدل على المبالغة يعني كثير الرأفة، فالله ليس برحيم فقط، مع أن رحيم صيغة مُبالغة، وكذلك رحمان فهي أبلغ من رحيم، وكذلك أيضًا الرؤوف فهي رحمة خاصة، فهو عظيم الرحمة بل هو أيضًا واسع المغفرة، وهو لطيف بعباده، ومن معاني اللطف: الرفق، وإيصال ألوان البر بطرق خفية، وكذلك أيضًا هو بهم رؤوف أي عظيم الرأفة، والرأفة كما قلنا هي رحمة رقيقة هي أخص من مُطلق الرحمة.
وكذلك أيضًا حينما قال: وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ فهذا لا شك أنه يحمل المخاطب على المُبادرة إلى التوبة إن كان مقصرًا، وكلنا مقصر؛ لأن الله رؤوف، يفرح بتوبة التائب، وكذلك أيضًا يدعو المذنب، والمقصر إلى التوبة، وكلنا مقصر، وكذلك المُحسن يدعوه إلى مزيد من الإحسان؛ لأن الله -تبارك وتعالى- رؤوف، فهو يتعامل مع صاحب رحمة عظيمة -والله تعالى أعلم-.
فهذا ربنا الذي نعبده، وهذا أثر من آثار الإيمان بأسماء الله وصفاته، كما هو اعتقاد أهل السنة والجماعة، فيؤثر ذلك في القلوب خوفًا، ورجاء، ويدفع عنها القنوط، وكذلك أيضًا يدعو النفوس، ويجذبها إلى محبة المالك المعبود المتصف بهذه الأوصاف الكاملة، وفرق بين من يعبد ربًا يعتقد أنه لا يوصف بوصف، ويؤول هذه الأوصاف، فهذا يعبد عدمًا، ثم يكون قلبه خاويًا، خاليًا من مثل هذه المعاني التي ذكرتها -والله تعالى أعلم-.