لما نهى الله -تبارك وتعالى- عن اتخاذ الكافرين أولياء وحذر من ذلك قال بعده: قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران:29]، فوجه الارتباط وهو ما يُعرف بالمناسبة بين هذه الآية الكريمة والتي قبلها ظاهر؛ وذلك أن المرء قد يصدر منه فِعالٌ في الظاهر لا يُقال: إنها من الموالاة بمجردها، ولكنه قد يقصد بها هذا المعنى، كالهدية والهبة العطية ونحو ذلك من الإحسان والمعاملة بالمعروف فهذا لا إشكال فيه، لكن قد يفعله على سبيل الموالاة فهذا يعلمه الله، وقد لا يصدر عنه شيء في الظاهر ولكن قلبه يميل إليهم ويُحبهم محبة لا تصلح للكافرين، ويفرح بظهورهم وانتصارهم وغلبتهم، ويتمنى لهم الظفر والفلاح والقوة والتمكين وما إلى ذلك، فهذه الأمور القلبية هي من الموالاة ولو لم يفعل شيئًا في الخارج.
فالموالاة قد تكون بفعل القلب بمجرده، وقد تكون بشيء من أعمال الجوارح بمجرده، وقد تكون بهما بفعل الجوارح مع مواطأة القلب على ذلك، فلما كانت هذه الأمور قد تخفى مآخذها ومقاصدها ودوافعها لدى الناس حذر الله -تبارك وتعالى- عباده بأنه يعلم ما تُكنه الصدور، وما تنطوي عليه الضمائر لا يخفى عليه خافية مع أن هذا المعنى أعني قوله -تبارك وتعالى-: قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ لا يختص بموضوع الموالاة وإنما ذكرت ذلك؛ لأنه به أعلق لما ورد قبله من ذكر النهي والتحذير من اتخاذ أعداء الله أولياء، وإلا فهذا عام: قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ فهذا سواء كان مما يتصل باتخاذهم أولياء، أو كان مما يتعلق بأمور الكفر، أو الإيمان، أو النفاق، أو الخوف، أو الرجاء، أو المحبة، أو التقوى، أو غير ذلك مما يقع في قلب الإنسان ويُخفيه أو يُبديه.
والمعنى: قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أمر للنبي ﷺ بإعلام الأمة بأن الله -تبارك وتعالى- مُطلع على السرائر والضمائر: إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ يعني: تكتموا ما استقر في قلوبكم سواء كان من موالاة الكافرين، أو كان ذلك من غيره، أو تُظهروه فإن ذلك لا يخفى على الله منه شيء.
وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فعلمه محيط بخلقه لا يخفى عليه خافية، وله القدرة الكاملة من كل وجه.
يؤخذ من هذه الآية الكريمة من المعاني والهدايات أن قوله -تبارك وتعالى-: قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ، هنا عبر بالصدور: تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ ولم يقل ما في قلوبكم، ولا شك أن القلب وهو موضع العقائد والإيرادات والأفكار والخواطر وما إلى ذلك، وهو مبعثها، ولكن جاء ذلك على طريقة العرب حيث يُعبرون بالصدر عن القلب، وذلك أن القلب في الصدر فهو مُستودع فيه فصار يُعبر بالصدر عنه ويُقام مقامه.
والمقصود "بما في الصدور": يعني البواطن وما يقع في نفس الإنسان ويُضمره فذلك يرجع إلى القلب، ويتحرك في الصدر، ولهذا قيل للقلب: الفؤاد؛ لكثرة تفؤده يتفأد يتحرك يتوقد بالخواطر والإيرادات والأفكار لا يتوقف، وقيل له: قلب؛ لكثرة تقلبه وهو يتقلب، ولاحظوا هنا أنه قدم الإخفاء على الإبداء قُلْ إِنْ تُخْفُوا.
وجاء بالأمر هنا: قُلْ إِنْ تُخْفُوا باعتبار أن النبي ﷺ مُبلغ عن الله، فهذا هو دوره عليه الصلاة والسلام البلاغ المُبين، فهو عبد لله -تبارك وتعالى- يأمره ويُبلغ عنه، فقدم هنا الإخفاء على الإبداء، وأن ذلك جميعًا يعلمه الله -تبارك وتعالى-، وفي سورة البقرة: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ [البقرة:284]، فقدم الإبداء هناك في البقرة وقد مضى الكلام عليه.
فهنا يحتمل أن يكون ذلك باعتبار أن مثل هذه الأمور مما يتعلق بتولي أعداء الله مما يحرص الإنسان على إخفاءه وكتمه، يحتمل هذا، يعني: بحسب السياق هنا، فقدم الإخفاء على الإبداء، ولا شك أن تقديم الإخفاء باعتبار أن ذلك أدل على قدرة الله ، فإذا كان يعلم الخفيات فمن باب أولى أنه يعلم الجليات، لا يخفى عليه خافية.
قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ هذا يدل على الاستواء، استواء العلم المتعلق بالرب -تبارك وتعالى- فيما يكون مما أخفاه العبد أو أظهره، فيما يُخفيه ويُبديه، الحال عند الله -تبارك وتعالى- سواء لا فرق فقدم الإخفاء؛ لأن ذلك أيضًا أدل على القدرة وإحاطة العلم، وإذا كان يعلمه -تبارك وتعالى- وقُدم فيه الذي يُخفيه الإنسان مما قد ينطلي على الناس لكن الله -تبارك وتعالى- يعلم الخفي كما يعلم المُظهر الجلي، فيعلم خفايا النفوس وخبايا الصدور كما يعلم المُظهرات المُخرجات مما تلوكه الألسُن أو ينبعث فيظهر على الجوارح، كل ذلك يعلمه، فهذا لا شك أنه يدعوا إلى تطهير القلوب، إذا كانت الحال سواء عند الله -تبارك وتعالى- فينبغي أن تكون حال العبد سواء في الخلوة والجلوة؛ لأنه لا فرق، الذي تتعامل معه يعلم حالك في الخفاء كما يعلمها في الجلاء، لا فرق، وقدم الخفاء لئلا يسبق إلى الأذهان أن الخفي قد يخفى، فهنا إذا استقر ذلك في قلب العبد وآمن أن ربه يعلم الخفيات كما يعلم الجليات، وأن ذلك سواء عنده فتستوي حاله في السر والعلانية، فلا يكون كأولئك الذين وصف النبي ﷺ وهم أصحاب أعمال صالحة وحسنات كجبال تهامة البيضاء لكن إذا خلو بمحارم الله انتهكوها.
فهذا إنما يكون حينما يضعف يقين العبد بأن الله مُطلع على سره، ولذلك انظروا في هذه الأوصاف الكاملة التي يذكرها الله لأهل التقوى والإيمان: لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ [ق:32-33]، هذه الآية نص صريح في هذا الموضوع: مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ [ق:33]، خشي الرحمن بالغيب يعني في حال الاستتار عن الناس، إذا غاب عن الناس، إذا أغلق عليه بابه، أو باب حجرته، إذا كان في خلاء من الناس لا يرونه ولا يطلعون عليه، ماذا يفعل! ولهذا ذكرنا في الكلام على الحياء في مناسبة مستقلة بأن هناك حياء مع الله، وهناك حياء مع النفس، فيستحي العبد من ربه حق الحياء حتى في أمور قد لا تصل إلى المحظور المحرم، يستحي من ربه، ومن اطلاعه عليه فهو يشهد ذلك بقلبه، وحقيقة الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، هذه أعلى المراتب أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم يكن العبد على هذه الحال فليتذكر أن الله -تبارك وتعالى- يراه ويطلع على خفايا النفس، وما يُخفيه عن الناس.
ونحن في هذا الوقت أحوج ما نكون إلى تربية المراقبة -مراقبة الله - في نفوسنا ونفوس من تحت أيدينا؛ بأن نكون في حال نتقي ربنا -تبارك وتعالى- فيها إذا خلونا، وكنا بعيدًا عن أنظار الناس ومُلاحظتهم، فالتقي النقي هو الذي يكون حاله مستوية في السر والعلانية: إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ [الملك:12]، وهكذا هو أحد الأقوال بآية البقرة أعني التي في صدرها، وذلك في قوله تعالى: هُدًى لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة:2-3]، قال بعض المفسرين: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ يعني ليسوا كالمنافقين يؤمنون في العلانية وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون، يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ فإذا كانوا يؤمنون في حال الغيب يعني إذا غابوا عن الناس فمن باب أولى أنهم على حال من الإيمان حينما يُخالطونهم، فهذا معنى، وإن كان الظاهر المُتبادر في آية البقرة هو أن المقصود بالغيب ما غاب عن الحس، الإيمان بالله والملائكة والكتب والرسل وما إلى ذلك، الجنة والنار وحقائق الآخرة يؤمن بالغيب.
فهنا: قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ فيستحضر العبد علم الله -تبارك وتعالى- في كل وقت وحين، ويستحي من ربه -تبارك وتعالى- أن يراه على حال لربما يتوارى من الناس إذا أراد فعلها، فلا يليق بحال أن يكون الله -تبارك وتعالى- هو أهون الناظرين إليه، لربما يستخفي من الصغير والكبير ومن لا شأن له ممن لا يُبالي به، أو قد لا يُبالي به من الخدم ونحوهم، يستخفي عن الناس جميعًا إذا أراد أن يعصي معصية لربما يستحيي من الناس إذا أراد أن يُقارفها، فهذا هو السبيل إلى حفظ القلوب فلا يقع فيها شيء يكرهه الله ، وهو السبيل إلى حفظ الألسُن بنوعيها اللسان الناطق، واللسان الآخر الكاتب حينما يكتب، وقد يكتب بأسماء مستعارة وقد يكتب من غير اسم، وقد ينشر بمعرفات وهمية فينشر ما لا يرضاه الله -تبارك وتعالى- من الشبهات، أو الشهوات أو قالة السوء بين المسلمين والوقيعة في أعراضهم، وهو يعتقد أنه إن فعل ذلك من غير رقم اسمه أنه قد سلم والواقع أنه لم يسلم، وإنما الله -تبارك وتعالى- مُطلع عليه، ونظر الله أسبق من نظر العبد إلى هذا المحرم الذي ينظر إليه، فإذا دعته نفسه إلى مشاهدة ما لا يحل من هذه المشاهد التي يُبتلى بها المرء لربما وهو يتتبع مقاطع من القرآن والتراتيل أو المواعظ أو الحكم فيصل إليه ما لا يطلبه، فهنا يكون الابتلاء والاختبار الحقيقي حينما يكون العبد مراقبًا لربه جل جلاله وتقدست أسمائه، وهذا يُذكر بقول الله -تبارك وتعالى- في سورة المائدة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ [المائدة:94]، تناله اليد والرماح، قريب الصيد قريب المنال اختبارًا وابتلاء.
فهذه الشهوات القريبة ليس بينه وبين النظر إليها إلا ضغطة واحدة لا يراه الناس ولا يطلعون عليه، ولكن الله مُطلع يراه ويعلم ما يتحرك في نفسه من الرغبات والأهواء وما يتمناه كل ذلك يعلمه، وما يقع في قلبه من الخوف من ربه -تبارك وتعالى- في مثل هذه المقامات: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [الرحمن:46]، فهنا يأتي مقام الخوف والمراقبة، لكن ذلك يتأتى هنا: يَعْلَمْهُ اللَّهُ بالإيمان بأن الله عليم، ولذلك دراسة معاني الأسماء الحسنى في غاية الأهمية في تربية المراقبة في النفوس لاسيما الأسماء التي تتعلق بهذا المعنى تعلقًا مُباشرًا -أعني المراقبة- مثل: العليم، الرقيب، المُحيط عند من عده من الأسماء، السميع البصير الخبير يعني الذي يعلم الخفايا والبواطن، اللطيف من معانيه الذي يعلم الدقائق دقائق الأشياء الشيء الدقيق يعلمه لا يخفى عليه سبحانه، الشهيد فهذا فيه علم وزيادة، فهذا كما قال الله : وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ [يونس:61].
فهذا المقام إذا استحضره العبد وأنه لا يُفضي إلى أمر إلا والله مُطلع عليه، فهذا يزجره ويردعه عن الفتك والوقوع فيما لا يليق، ولا يكون له حالان: حال في الجلوة، وحال في الخلوة، هو في الجلوة تقي، وفي الخلوة فاجر، كيف تكون حاله مع الله وهو كذلك؟! يتعامل مع الله بهذه الحال.
وما يكون للعبد من أحوال في العبادة فإذا استشعر أن الله يعلمه الله يعلم خشوعه، ويعلم محبته للطاعة، ويعلم محبته لله ولرسوله ﷺ ويعلم ما يقع في قلبه من خوف ورجاء وما إلى ذلك لا حاجة لإظهار هذا للآخرين الله يعلمه وهو شهيد -تبارك وتعالى- على عباده في أعمالهم لا يخفى عليه خافية.
يَعْلَمْهُ اللَّهُ ومن هنا فيكون العبد مُنقيًا مُنظفًا لقلبه فلا يقع فيه من الخواطر الردية والأفكار العمية والأحوال المشينة، ويكون القلب محلاً لكل أذى وقذر فهو مجمع السوء هذا لا يكون، فإن هذا القلب لا يكون محلاً قابلاً للموعظة والتذكير والانتفاع بالقرآن، وإنما يحتاج إلى تنقية: يَعْلَمْهُ اللَّهُ فيكون في قلبه إرادة الخير ومحبة الخير وأهله والإيمان بالله ورسله -عليهم الصلاة والسلام-، والتقوى التي تعمر القلب، أما أن يكون القلب تعج فيه الآفات بأنواعها من الكبر والصلف وحب الشهوات، أمراض من حب الشهرة والرئاسة والرياء والسمعة فهذا يضره كثيرًا، ولكن لجهله تجد العبد لربما لا يلوي على شيء في طلب هذه المطالب الدنية، والموفق من وفقه .
قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران:29]، ذكرنا جملة من الفوائد التي تُستخلص وتُستخرج من صدر هذه الآية الكريمة، وقلنا: إن قوله -تبارك وتعالى-: يَعْلَمْهُ اللَّهُ أن هذا يدعوا إلى تطهير القلوب وتنقية النفوس، فالله -تبارك وتعالى- مُطلع على البواطن كما أنه مُطلع على الظواهر، وتقديم قوله -تبارك وتعالى-: قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ، فقدم الإخفاء على ما يُظهر ويُعلن ويُبدى أن ذلك يدل على أنه يستوي علمه -تبارك وتعالى- بالظواهر كما يستوي بالبواطن فهذا يدعو إلى إشغال القلب بعد تنقيته بمحاب الله -تبارك وتعالى- من الإيمان والأعمال القلبية من الخوف والرجاء والمحبة والتوكل وما إلى ذلك.
فالعبد إذا آمن بصفة العلم، أن الله عليم بالعباد وبأحوالهم لا يخفى عليه منهم خافية فإن ذلك يحمله على التقوى، فيجتنب مساخط الله -تبارك وتعالى- فلا يواقع شيئًا من ذلك فيفر منها فلا يجده حيث نهاه، ثم يكون مُقبلاً على الطاعات فلا يُفقد حيث أُمر، هذا إذا تقرر ذلك في القلب واستيقنه العبد، وإنما يحصل التقصير والتفريط والجراءة على الله -تبارك وتعالى- وعلى حدوده إذا ضعُف اليقين، كلنا يتيقن ويعلم أنه سيموت، ولكن هذا اليقين كما روي عن عمر بن عبد العزيز –رحمه الله-: "ما رأيت يقينًا أشبه بالشك" من نظر إلى حالنا وإلى أعمالنا واستعدادنا للقاء الله والموت فإن ذلك كأنه مُستبعد، كأنه ليس بيقين، فكيف بما وراء ذلك من الجزاء والحساب ودخول الجنة أو النار -أعاذنا الله وإياكم وإخواننا المسلمين من النار-.
فاليقين هو الذي يحمل العبد على العمل الجاد، والإقبال إقبال العبد بقلبه وجوارحه أن يُقبل بكليته على ربه ومولاه، وهو الذي يجعله يحسب ألف حساب قبل أن ينطق وقبل أن يمد يده للحرام، وقبل أن يمشي إلى الحرام، اليقين إذا رسخ في قلب العبد، ولذلك انظروا في مثل هذه الأيام -أيام العشر من ذي الحجة- فقد دخلت وحالنا فيها كحالنا في غيرها، هذه العشر من ذي الحجة هي كغيرها من الأيام بالنظر إلى أحوالنا وأعمالنا، هي أحب الأيام، العمل الصالح أحب إلى الله -تبارك وتعالى- في هذه الأيام من غيرها من أيام العام، وهي أفضل أيام الدنيا، وكلنا يعرف الأحاديث المصرحة في ذلك ومع ذلك انظر إلى الحال، في رمضان وهذه الأيام أفضل من رمضان كما تعلمون إلا أنك تجد في رمضان من الإقبال وامتلاء المساجد وجلوس الناس بعد الصلوات يقرءون القرآن، ويذكرون الله -تبارك وتعالى- مع حرصهم على البذل والصدقات في رمضان، أما هذه العشر فكغيرها من أيام العام، ما هو السبب؟
رمضان له مزيتان ليلة القدر لكنها ليلة واحدة، والمزية الأخرى وهي مزية مؤثرة غاية التأثير، وهي أن المردة من الشياطين تُصفد في رمضان، فمنذ أول ليلة من رمضان يُقبل الناس؛ لأنه قد انعتقوا من هؤلاء المردة الذين يحجزونهم عن كثير من الخيرات، ويدفعونهم إلى كثير من الشرور، ويغرونهم بالمعاصي، ولذلك تجد هؤلاء المردة من الجن يوكلون المهمة قبل رمضان إلى أولياءهم من الإنس من شياطين الإنس، ولذلك تجد الاستعداد استعداد شياطين الإنس لرمضان على أشُده بأنواع المُلهيات والصوارف مما يشغل الناس عن ما هم بصدده من عبادة الله -تبارك وتعالى- والتقرب إليه في هذا الشهر الكريم شهر رمضان، ولكن في ذي الحجة لا يحتاج المردة إلى هذا؛ لأنهم حضور فيبقى عمل أولياءهم على حاله كما كان من غير استعداد خاص فهم يسعون في الأرض فسادًا ولكن ليس بالقدر الذي يتضاعف إبان دخول شهر رمضان، هذا هو الفرق بين العشر من ذي الحجة ورمضان كما نُشاهد.
فالمقصود أن ضعف اليقين هو الذي يجعلنا نقعد عن ما قد علمنا من محاب الله ، وكذلك هو الذي يوقعنا في مواقعة مساخط الله ونحن نعلم أنه يسخطها، فهذه نتيجة لضعف العلم واليقين في القلب.
ثم قال الله -تبارك وتعالى-: وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ هو ذكر الخاص أولاً، يعلم ما أخفته الصدور وما يُبديه العباد ثم قال: وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ فهذا عام يشمل ما ذُكر قبله، فإن مما في السموات والأرض ما يُخفيه العباد في صدورهم، وكذلك ما يُبدونه ويُعلنونه بألسنتهم أو يواقعونه بجوارحهم، لكن علم ما في السماوات وما في الأرض أوسع من هذا، فيعلم كل حركة في هذا الكون ما يقع شيء إلا بعلمه وإرادته ، ما تسقط ورقة إلا بعلمه، ولا تحصل تحريكة ولا تسكينة إلا بعلمه، وما تحمل من أنثى إلا بعلمه، ولا تضع إلا بعلمه، يعلم ما في قعر البحر، وما تحت الأرض وما فوقها، وما في بطن الصخرة الصماء يعلمه، علمه أحاط بكل شيء.
فهذا تقرير وتأكيد لما قبله، لما ذكر علمه بما يُخفيه العباد وما يُظهرونه ذكر علمه الشامل المحيط بكل شيء، ولكن ذكر بعض أنواع العام على سبيل الإفراد يدل على أهميته وعِظم شأنه وخطره، فلا شك أن ما يتصل بالحساب والتكليف والجزاء كل ذلك مما يرجع إلى أعمال العباد مما يكون من أعمال قلوبهم أو أعمال جوارحهم فذكره أولاً، ثم ذكر ما هو أعم من ذلك؛ ليستيقن العبد أن هذا الكون من أوله إلى آخره محاط بعلم الله وبمراقبته، وأن بصره نافذ في جميع ذراته، لا يخفى عليه من ذلك قليل ولا كثير، يعلم مقادير حبات الرمل، ويعلم دبيب الذر ولا أقول: النمل في الليل البهيم المُظلم كل ذلك لا يخفى عليه منه خافية، يعلم ما تنقص الأرض من أجساد الناس حينما يتحللون في باطنها، ويعلم ما يزداد وينمو في الأرحام من الأجنة، ويعلم ما سيكون في المستقبل، فهذا ربنا الذي نتعامل معه، فهذا لا شك أنه يتضمن غاية التحذير، فإذا كان لا يخفى عليه شيء فأين يذهب العبد حينما يواقع مساخطه، كما أنه أيضًا يتضمن الترغيب، كما أنه يدعو إلى الإخلاص، يتضمن الترغيب من جهة أن هذه الأعمال الطاعات قُربات يعملها لا تضيع عند الله ، وهو يدعوا في الوقت نفسه إلى الإخلاص، وذلك أن العبد يتعامل معه وحده ويوجه نظره إليه وحده لا يلتفت إلى أحد سواه ولا ينتظر من الناس عائدة، أو شكرًا، أو ثناء وإطراء، يتجمل للخلق بعمله بحجه وبعباداته، لا يحتاج إلى أن يلتقط الصور وهو مُحرم أو يطوف، ولا يحتاج أن يلتقط الصور أو يجلس يتحرى الجلوس أمام الكاميرات وهو يدعو أو يقرأ القرآن، أو نحو ذلك الله يعلم ذلك جميعًا، يعلم حينما يُطيل العبد السجود ماذا يُريد، وحينما يُحرك شفته بالذكر ماذا يريد، هل يريد ما عند الله أو يلتفت للناس؟! هو عابد ذاكر أم ماذا؟!
فإذا كان الأمر كذلك فهذا داعٍ إلى التجرد الكامل من كل العلائق والعوائق والصوارف التي تصرف عنه ، أعمالنا قليلة لضعف يقيننا ومخالفاتنا كثيرة، وما نعلمه من طاعات لا يخلو من تقصير يُلابسه، وحين ما نُقيم هذه الصلاة فيها ما فيها من النقص والتقصير، وشرود الأذهان، وضعف الخشوع مع اضطراب النيات، وقل مثل ذلك في سائر الأعمال.
وهكذا أيضًا ختم هذه الآية الكريمة بقوله: وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ هو مُحيط بكل شيء علما، ويعلم ما في السماوات وما في الأرض، فهذا العلم الكامل المحيط الشامل، من الذي بقي؟
بقي القدرة الكاملة على كل شيء قدير، فبذلك يكون قد وسع كل شيء علمًا وقدرة، فإذا كان قد أحاط بالعباد علما وأحاط بهم قدرة فالمُحسن هو الذي يستطيع أن يوصل إليه الجزاء في الدنيا وفي الآخرة، وحينما يتخلف شيء من مطالبه الدنيوية فليس ذلك عن نسيان أو عجز وليس عن ذهول أو جهل أنه لم يعلم بمكانه أو بحاله أو بحاجته، لا لا، الله يعلم ذلك جميعًا، وهو قادر على إيصاله؛ فتخلف هذا المطلوب الدنيوي لحكمة قد علمها، والعبد نظره قصير، وعلمه قليل، والله عليم حكيم، وهكذا في الانتقام قد أحاط بكل شيء علما، فهو يعلم هذا الذي يتحرك في الظلام حينما يختلس أو يسرق ولا يطلع عليه الناس، أو يعصي الله بأي لون من ألوان المعصية فالله عالم به، وكذلك قادر على إنزال العقوبة به وأخذه متى شاء، فهو على كل شيء قدير، وهذا غاية الكمال؛ لأن العلم وحده لا يكفي، قد يعلم الإنسان بمخالفات واختلاسات وانحرافات وسرقات في جهة قد يرأسها ولكنه عاجز عن مؤاخذتهم وإيقافهم عند حدهم لسبب أو لآخر، الله علمه محيط بكل شيء، وهو قدير.
وقد توجد القدرة ويتخلف العلم، قادر على الأخذ لكن يكون الإنسان أحيانًا غير عالم بتلك المزاولات المشينة، ثم بعد ذلك لا ينال هؤلاء العقاب الرادع؛ لأنه لم يعلم بهم، أما إذا اجتمع العلم والقدرة فذلك الكمال، فهذا يدعو إلى الحذر والخوف والمراقبة، ويدعو إلى الرجاء بالنسبة للمحسنين، وأن الله -تبارك وتعالى- لن يُضيع أعمالهم، كما يدعو الإنسان إلى التعلق بالله -تبارك وتعالى- وحده، فيلتجأ إليه في حاجاته، ومطالبه، وفقره؛ لأن الله عليم بحاله وهو القادر وحده على أن يُحقق رجاءه، فإن كان فقيرًا أغناه، وإن كان معتلاً شفاه، وإذا كان ضعيفًا قواه، وإذا كان مكروبًا رفع عنه الكرب وأزاح عنه الهم والغم، فيلجأ العبد إلى الله دائمًا، ومن تعلق بالمخلوقين خُذل، ومن تعلق بالله أفلح.
وهكذا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، قدير فيما يتعلق بالثواب والعقاب، فيما يتعلق بالخلق والإيجاد والإعدام، فيما يتعلق بالنصر والتمكين، فيما يتعلق بالخذلان، فيما يتعلق بالأخذ والمحق، على كل شيء قدير، ومن هنا فلا يأس.
وقد يصل الإنسان إلى أحوال يقنط فيها وييأس لاجتماع الأسباب الموجبة في نظره إلى القنوط، ولكن لا قنوط من رحمة الله -تبارك وتعالى- فهو على كل شيء قدير، بيده النفع والضر، خزائن السماوات والأرض، فيلجأ العبد إليه فيُغير ما به من حال، ويدعوه فهذا الدعاء هو من أعظم المطالب، إذا وفّق إليه العبد وتحقق بشروطه وآدابه فإن الله -تبارك وتعالى- يُجيب دعاء الداعيين ويُعطي السائلين: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60]، وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186].
وهكذا أيضًا فإنه يؤخذ من هذا التذييل: وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أن الله -تبارك وتعالى- حينما يُمهل فليس ذلك عن عجز، يعني: لا يغتر الإنسان بالإمهال، وقد يكون مُسيئًا والنِعم تُغدق عليه فلا يغتر، فالله قادر على أخذه؛ ولكنه أمهله وليس ذلك عجزًا عن معاقبته، فكل هذا مع قوله: قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ كل هذا يتضمن التحذير والتهديد ويبعث على خشية الله ومراقبته وتقواه، وإظهار هذا الاسم الكريم في مقام يصح فيه الإضمار: قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ، ولم يقل: يعلمه، وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ولم يقل: وهو على كل شيء قدير، فأظهر الاسم الكريم وهذا لا شك أنه أدعى إلى تربية المهابة والتعظيم في النفوس حيث كرره وأظهره في موضع الإضمار.
هذا ما يتصل بهذه الآية الكريمة، وهذا العموم في قوله: وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ كما ذكرت في بعض المناسبات أنها طريقة القرآن، حينما يذكر قدرته -تبارك وتعالى- يذكرها عامة: وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وهكذا في سنة رسول الله ﷺ النصوص الواردة في القدرة على كل شيء قدير، لكن هل يُقال: والله على ما يشاء قدير؟
هذا منع منه بعض أهل العلم باعتبار أن الوارد في القرآن والسنة والله على كل شيء قدير، ولكن من أجازه فإنهم يحتجون بآية من كتاب الله، وحديث من سنة رسول الله ﷺ، أما الآية فهي قوله -تبارك وتعالى-: وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ [الشورى:29]، فذكر هذه القيد: إِذَا يَشَاءُ، والذين منعوا قالوا بأن ذلك يرجع إلى الجمع وليس إلى القدرة، فالجمع فعل من أفعاله -تبارك وتعالى- يفعله متى شاء: وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ [الشورى:29]، وليس ذلك بقدير، في القدرة قالوا القدرة مُطلقة "قدير" مطلقًا، لكن الجمع يحشرهم يجمعهم هذه الخلائق إذا يشاء جمعهم.
وأما الحديث فهو الحديث الطويل الذي نعرفه في آخر من يدخل الجنة، وفيه أنه قال: ولكني على ما أشاء قادر، فذكر بهذا القيد، هذه الرواية المشهورة، والذين منعوا من ذلك قالوا يوجد في رواية أخرى الإطلاق من غير تقييد "بما أشاء" من غير ذكر هذا القيد، لكن الرواية المشهورة فيها هذا القيد وهو حديث ثابت صحيح كما هو معلوم.
والحديث له روايتان لكن يبقى الجادة في النصوص الكثيرة المتضافرة الإطلاق، والذين يمنعون كأنهم نظروا إلى فعل بعض المتكلمين وقولهم واعتقادهم الفاسد أولئك يذكرون قضايا فلسفية وجدلية، هل الرب -تبارك وتعالى- قادر على ما لا يشاء، هذه قضية جدلية فلسفية، فالله على كل شيء قدير ولا نضع هذه الافتراضات، هل هو قادر على ما لا يشاء فافترضوا هذه القضية وتجادلوا فيها واختلفوا فبعضهم يقول: لا يقدر على ما لا يشاء، نحن في الأصل لا نطرح مثل هذا السؤال، ومن هنا قالوا: بأن الله على ما يشاء قيدوها فقابلهم من قابلهم من أهل العلم فقالوا: بأنه لا يُقال على ما يشاء، وإنما يُقال: على كل شيء قدير كأنه من قبيل المخالفة والرد على هؤلاء، هذا من جهة، جهة أخرى النصوص التي في الباب مطلقة سوى ما ذكرت والجواب عنه ما ذُكر، -والله أعلم-.