لما كان هذا السياق في صدر هذه السورة الزهراء -سورة آل عمران- في الحديث عن أهل الكتاب وعلى وجه الخصوص عن النصارى، كانت الآيات التي مر الكلام عليها في الدرس الماضي وما قبله تتحدث عن معانٍ ربما تضمنت إشارة إلى اليهود، وقد جاء ذلك صراحة قبله في قوله -تبارك وتعالى-: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [آل عمران:24]، فهذا كلام من قول اليهود ودعواهم المعروفة.
قال الله -تبارك وتعالى- بعد ذلك وبعد أن قرر أنه له الملك الكامل: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران:26]، وذكر كمال القدرة والتصرف في هذا الكون: تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [آل عمران:27]، قال الله -تبارك وتعالى- بعد ذلك: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ [آل عمران:28]، فهذا نهي من الله -تبارك وتعالى- جاء بهذه الصيغة: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ فهو في ظاهره نفي؛ ولكنه مُضمن معنى النهي، وذلك بكونهم أولياء، أي: ما يقتضي النصرة وإيثار هؤلاء على المؤمنين، وإطلاع هؤلاء على دواخل أمور المسلمين وأسرارهم، ونحو ذلك من صور الموالاة.
لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ، فقوله: مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ، يعني: هذا القيد: مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ يعني أنهم يوالون الكافرين من غير أهل الإيمان، يعني: من دون المؤمنين يوالونهم مع الإعراض عن المؤمنين وترك موالاتهم، فهذا قيد ذُكر هنا لكنه ليس له مفهوم.
ومعلوم أن الكلام يُستخرج منه المعاني بأنواع الدلالة، دلالة المنطوق: بالمطابقة، والتضمن، والالتزام، من إيماء وتنبيه وإشارة، وكذلك أيضًا بالمفهوم: وهو المسكوت عنه بأنواعه، مفهوم الموافقة بنوعيه: الأعلى والمساوي، ومفهوم المخالفة بأنواعه: من مفهوم شرط، وصفة، وغير ذلك.
هذه أنواع الدلالة التي تُنزل على النص فتُستخرج المعاني، منها ما يُستخرج بدلالة المنطوق، ومنها ما يُستخرج بدلالة المفهوم، وبحسب الأنواع الداخلة تحت كل قسم.
فهنا: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ، لا مفهوم له، مفهوم المخالفة حجة عند الأصوليين، لكن هنا لو أعملنا مفهوم المخالفة: مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ يعني: أنه يجوز اتخاذ الكافرين أولياء لكن مع المؤمنين، ليس ضد، أو ليس بالتخلي عن المؤمنين، أو بعض المؤمنين، هذا مفهوم المخالفة لو طُبق في الآية، لكن هل يجوز أن يفهم الإنسان هذا الفهم: أنه يجوز موالاة الكفار مع موالاة المؤمنين؟
هذا لا يقول به أحد، إذن هذا المفهوم غير مُعتبر هنا، طيب لماذا خالفنا الأصل والقاعدة وهي أن مفهوم المخالفة حجة عند الأصوليين، وهذا صحيح، يُقال: مفهوم المخالفة حُجة لكن يُستثنى من ذلك مواضع نص عليها العلماء، كما قال صاحب مراقي السعود في أصول الفقه:
"دع إذا الساكت"، دع من مفاهيم المخالفة "إذا الساكت منه خاف"، هذا في كلام الناس وليس في كلام الله لأن الله لا يخاف من أحد، لكنه يتكلم عن المفهوم، لأن المفهوم يُطبق في كلام الناس أيضًا، "أو جهل النُطق"، يعني: جهل الحكم المنطوق، فأُخبر بحكم المنطوق فقط، "أو النُطق جلب للسؤل"، يعني: جواب على سؤال، جاء المنطوق جوابًا على سؤال فيكون بقدره بصرف النظر عن المفهوم.
"أو جرى على الذي غلب، أو امتنانًا"، يكون له الامتنان، إما جريًا على الغالب، أو على سبيل الامتنان.
"أو امتنانًا أو وفاق الواقع"، هذا هو الشاهد هنا هذه الجملة "أو وفاق الواقع" ما معنى وفاق الواقع؟
يعني: أن تنزل الآية تتحدث عن أمر من الأمور بحسب الواقع الذي وقع وحصل وجرى، فهنا لا يُعتبر مفهوم المخالفة، بمعنى هنا مثلاً: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ يوجد بعض المؤمنين تولوا بعض الكفار ضد بعض المؤمنين، أو مع التخلي عن بعض المؤمنين، فجاءت الآية تتحدث عن هذه الواقعة.
مثال آخر في قوله -تبارك وتعالى- في سورة النور: وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ البغاء -أعزكم الله- الزنا بأُجرة، وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا [النور:33]، فهذا القيد لو أحد أعمل مفهوم المخالفة إذا كانت هي لا تريد التحصن هي تريد الزنا هل يجوز أن يؤذن لها فضلاً عن إكراهها بالزنا؟
الجواب: لا، لا قطعًا، إذن: ما معنى هنا إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا؟
يُقال: هذا القيد لا مفهوم له، لا يُعتبر فيه مفهوم المخالفة؛ لأنه جاء على وفق واقع معين، عبد الله بن أُبي رأس المنافقين كان عنده جاريتان أسلمتا فكان يُكرههن على البغاء، ويضربهن على ذلك الزنا بأجرة، يتكسب من وراء هاتين الجاريتين يعني مملوكتين، فكان يُكرههن على البغاء -الزنا- ويأخذ الأجرة فنزلت الآية: وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ، يعني المماليك الإماء، عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا، كُن يردن التحصن في هذه الواقعة، لكن لو فُرض حالات أخرى، هي لا تريد التحصن، هي تريد الزنا فلا يجوز أن يُسمح لها بحال من الأحوال، فمفهوم المخالفة لا يُحتج به في مواضع سبعة أو ثمانية حددها وذكرها ونص عليها الأصوليون، منها: أن تكون الآية نازلة على وفاق واقع معين تحكيه فيكون القيد بحسب ذلك، فهنا لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ هذا القيد: مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ جاء لأن بعض المؤمنين وقعوا في مثل هذا، والوا بعض الكافرين على حساب موالاة المؤمنين، فجاء النهي عنه، لكن في الحالات الأخرى التي لا يحصل فيها مثل هذا وإنما يقول: بأنه يوالي المشركين، ويوالي المؤمنين يُقال: هذا لا يجوز، فهذا القيد في هذه الآية غير مُعتبر؛ لأنه جاء على وفق واقع معين، هذه قاعدة معروفة.
إذن: وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ، يعني: ليس من الله في شيء فقد برأ الله -تبارك وتعالى- منه، إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً، يعني: أن تكونوا ضعفاء فتصانعوهم بالقول، هذا معنى اتقاء هؤلاء بالقول على وجه المصانعة، يعني: أن يُحسن إليهم القول، يتكلم معهم بكلام لطيف، بكلام لبق، بكلام فيها مصانعة لا مُداهنة، والفرق بين المُداهنة والمُداراة: أن المُداهنة تكون بإسقاط حق وتضييعه، أو ارتكاب باطل، المُداهنة أن يُداهن الإنسان في دينه معناها أنه يتكلم بما لا يحل، ويفعل ما لا يحل من باب المُداهنة؛ ليُرضي صديقه أو نحو ذلك، أو يترك الحق الذي هو عليه، أو بعض الحق طلبًا لمرضاة الخلق، هذه مُداهنة.
أما المُداراة فهي المُصانعة بالقول، وقد قال عنها بعض أهل العلم بأنها نصف العقل، نصف العقل في المُداراة، والعاقل يُداري الناس لكن بمُداراة لا تبلغ به حد الملق والنفاق والكذب، يعني: يُبالغ في ذكر المدح والثناء بما ليس في هذا الممدوح، أو نحو ذلك مما يُصانعه به من القول فهذا لا يجوز، لكن أن يتكلم بالكلام الحسن، بالكلام الطيب الذي يكون سبيلاً لامتصاص الغضب، أو دفع الشر، أو في لربما تحصيل مصالح ودفع مفاسد، فهذا لا إشكال فيه، بل هذا هو اللائق عند العقلاء، لكن بالنسبة للكفار فكما قال الله : يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [التحريم:9]، فهنا لا مُصانعة ولا مُداراة، لكن متى؟
هذا في وقت القوة، ولذلك فإن الراجح أن آية السيف، وهي الآية الخامسة من سورة براءة، وهي قوله -تبارك وتعالى-: فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ [التوبة:5]، هذه الآية بعض العلماء يقولون: إنها نسخت مائة وأربعة وعشرين آية من القرآن، يقولون: كل آية فيها إعراض عن المشركين، والصفح والدفع بالتي هي أحسن، والصبر واحتمال الأذى من المشركين كله هذه الآيات يقولون: نُسخت بآية السيف، هذا قول لطائفة من أهل العلم.
والراجح -والله أعلم- أن هذه الآيات لم تُنسخ بآية السيف، وإنما يكون ذلك بحسب حال الأمة من القوة والضعف، فإذا كانت في أزمنة الفترات وأوقات الضعف فإن الأمة لا يجوز لها بحال من الأحوال أن تستعدي الناس عليها بتصرفات تستفز هؤلاء الأعداء الأقوياء فيجتاحوها، ويحصل بسبب ذلك من المفاسد والقتل والقهر والتسلط، ويجد هؤلاء الكفار الذرائع التي تُقدم لهم مجانًا، من أجل التوصل بها والتذرع إلى مزيد من قهر الأمة ودحرها وابتزازها والتسلط عليها، وأخذ ما في أيديها، فهذا لا يجوز، وليس من العقل في شيء، ولهذا في مكة قيل للناس: كفوا أيديكم هكذا صراحة: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ [النساء:77]، فالقائل هنا الشارع، بُني الفعل للمجهول هنا أُبهم؛ لأنه معلوم الذي يأمر وينهى، كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ، ولما بايعوا النبي ﷺ أعني الأنصار بيعة العقبة قالوا للنبي ﷺ وكان ذلك في مِنى قالوا: "إن شئت يا رسول الله ملنا على أهل مِنى بأسيافنا" الذين كانوا في مِنى كانوا من المشركين، والنبي ﷺ قبل الهجرة كان المسلمون في حال من الاستضعاف، فهؤلاء يقولون: نحن على أتم الاستعداد من أجل التضحية فنميل عليهم بأسيافنا، نقتل هؤلاء المشركين في مِنى، فالنبي ﷺ نهاهم عن هذا، وأنه لم يؤمر بقتال، فمضت المرحلة المكية مرحلة الضعف ولم يحصل فيها أي اشتباك مع المشركين، ولا استفزاز بقتل أو نحو ذلك، فهذا هو المنهج الشرعي في سياسة الأمة في أوقات الضعف أنه لا يجوز بحال من الأحوال أن يصدر عن بعضها أو عن كلها مجموع الأمة ما يكون سببًا لتسلط الأعداء عليها، وهم ضعفاء أعني المسلمين لا يستطيعون دفع عادية هؤلاء الأعداء، فهذا يُنظر فيه إلى العواقب ومآلات الأمور وهي معتبرة شرعًا، ولهذا قال النبي ﷺ: من الكبائر شتم الرجل والديه، قالوا: يا رسول الله، وهل يشتم الرجل والديه؟! قال: نعم، يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه، يعني: لما كان مُتسببًا بسب أبيه وأمه بسب آباء الناس وأمهاتهم كان ملعونًا، هو لم يسب أباه، ولم يسب أمه، وإنما سب أبا فلان وأم فلان فذاك لن يسكت سيرد عليه بالمثل، فكان ذلك الفعل تسببًا منه بسب أبويه، فقال النبي ﷺ: لعن الله من لعن والديه، ليس معناه أنه مُباشرة، هذا من باب أولى لو أن إنسان وجه اللعن إلى والديه مُباشرة يلعن أبا نفسه -نسأل الله العافية-، لكن الحديث ليس في هذا، الحديث فيمن يتسبب في ذلك بسب آباء الناس.
فمن فعل فعلاً ينشأ عنه مفاسد ومضار وويلات تُجر إلى الأمة، تدفع الثمن الأمة، لا يدفع هو وحده لو كان هو الذي يدفع الثمن وحده لا شأن لنا به يتحمل نتيجة فعله، لكن الذي يدفع الثمن هي الأمة بكاملها، ويبدأ هؤلاء الأعداء في حال من النشوة ويُسلط آلة إعلامية ضخمة على الأمة، فإن كان في تلك البلاد في بلاد الكفار بقي الأقليات من المسلمين في حال يُرثى لها، كالغنم الذليلة في الليلة الشاتية المطيرة، لا يدرون ما الذي سينزل بهم بسبب فعل هذا السفيه الذي ما جر على المسلمين خيرًا ولا نفعًا ولا نصرًا، وإنما جر عليهم شرًا من كل وجه، فلا تسأل عن حالهم في خوفهم في بيوتهم، وخوفهم من خروجهم في الطريق وإلى مصالحهم ومدارسهم وجامعاتهم وأعمالهم، وما إلى ذلك، يُضيق عليهم، وتوجه إليهم أصابع الاتهام إلى غير ذلك مما تعلمون، وإذا كان ذلك أيضًا بالنظر إلى بلاد المسلمين فالحال يُشاهدها الجميع.
فالمداراة هي مصانعة بالقول، الأصل الإغلاظ على الكفار، كما قال الله : وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [التوبة:73] لكن هذا في وقت القوة، لكن في وقت الضعف، وهذه الآية وهي سورة مدنية نازلة في المدينة وهذا صدرها نزل متأخرًا لما جاء وفد نجران إلى النبي ﷺ كما عليه إطباق المفسرين، وإن كان من حيث الرواية لا يصح، فهذا متأخر في أواخر العهد المدني ومع ذلك: إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً فدل ذلك على أنها لم تُنسخ هذه الآيات، وقل مثل ذلك في التعامل مع المسلمين، بعض الناس يتعامل بطريقة فيها من الصلف والشدة والوقاحة، فيُقابل الناس بما يكرهون في وجوههم محتجًا ومعتذرًا بأنه صريح، يقول: أنا صريح، أنا لا أجامل، هذا يقوله أنا أحبك في الله يقول: أنا أُبغضك في الله، لا حول ولا قوة إلا بالله، يعني: ما هذا الصنيع؟! من الناس من يفعل هذا، لماذا؟ فيسرد عليه قائمة مما ينقم عليه عبر دهر كان يرصد ما بدر منه، هذا غير مطلوب، ولا يفعله العاقل، وإنما العاقل يُداري الناس ويُلاطف ولا يستفز نفوسهم ويستعدي هؤلاء فهو لا يربح، ولا يكسب شيئًا إطلاقًا من هذا الاستعداء هذا ليس من فعل العقلاء، فيصير الناس لا يدرون ما الذي يبدر منه نحوهم، يتوقعون هذه السهام والرشق لأدنى مُلابسة، يعني حتى لو قالوا له كلامًا طيبًا لو قال له إنسان: أنا مُعجب بك وبأدبك وذوقك وأخلاقك، قال: لكن أنت على العكس من هذا، هذا لا يليق، ويعتذر ويقول: أنا صريح، ليست هذه صراحة هذه وقاحة، والنبي ﷺ لم يكن بالفظ ولا الغليظ ولا الجافي.
فهذا من الجفاء فمقابلة الناس بمثل هذا وجرح مشاعر الناس، وهذا الصلف هذا أمر غير جيد، قد يكون الإنسان في حال غير مُهيأ معها بأن يتكلم ويُلاطف ونحو ذلك؛ لألم ومرض يُعانيه أو هم يُكابده أو غير ذلك، فلا أقل من أن يسكت لا يؤذي الآخرين، لكن من الناس من يكون ذلك سجية له، يلقى الناس بمثل هذا فيكثر أعداءه وشانؤه ومُبغضوه وذلك لا ينفعه بل يضره، فاستجلاب الود والكلام اللبق والكلام الطيب الذي لا يوقع الإنسان في الإثم لا شك أنه مطلوب: إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ أي: يُحذركم ذاته، فالنفس بمعنى الذات، وهي صفة يعني النفس ثابتة لله ، وفسرها أهل العلم ممن هم على اعتقاد السلف بالذات، وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ يعني: المرجع والمآب.
لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ [آل عمران:28]، هذه الصيغة: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ هذه الصيغة صيغة خبرية، فهذا نفي لكنه مضمن معنى الإنشاء النهي، وهذه الصيغة تدل على التحريم.
وقد ذكر الحافظ ابن القيم -رحمه الله- في كتابه "بدائع الفوائد" جملة من الألفاظ الدالة على الوجوب، والألفاظ الدالة على التحريم، فمن الألفاظ الدالة على التحريم هذا: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ لاسيما أنه قال بعده: وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ، وهكذا كما في قوله -تبارك وتعالى- في صيغ أخرى: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى [التوبة:113]، فهذا يدل على التحريم، مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ [التوبة:120]، فهذا يدل على التحريم.
وهنا: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ هذا التركيب الفعل مع (لا) هذه النافية يدل على العموم لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ يعني: في أي حال من الأحوال، الموالاة لا تجوز أبدًا، وكذلك في أي زمان من الأزمنة، وكذلك في أي مكان، وكذلك يعم جميع الأفراد، إذ العموم يتوجه إلى هذه الأربع، فهذا لا يجوز في أي حال وفي أي زمان وفي أي مكان ولكل فرد من أهل الإيمان، وهنا قيد في قوله: إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً فهذا القيد المراد به المداراة والمصانعة بالقول وليس الموالاة، وعليه فهذا الاستثناء من قبيل المُنقطع وليس المتصل؛ لأن المقصود بقوله: إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً هذا ليس من جنس الموالاة لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ فهذا ليس من الموالاة وإنما هو شيء آخر، يعني بمعنى لكن، لكن حينما تتقون شرهم وأذاهم بالمصانعة بالقول والملاطفة والكلام الجميل فهذا لا إشكال فيه.
ثم أيضًا في قوله -تبارك وتعالى-: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ التعبير بلفظ الإيمان، ولفظ الكفر، يدل على أن هذه القضية لا يمكن أن تجتمع مع الإيمان، فهؤلاء كفروا بالله وكفروا بالنبي ﷺ، ويرون أنكم لستم على شيء، كفروا بالإسلام.
وكذلك أيضًا يصدر منهم أنواع الأذى لأهل الإيمان، وانظر إلى الأمور المنفرة منهم التي ذكرها الله -تبارك وتعالى- في صدر سورة الممتحنة، ذكر جملة من الأمور من تأملها عرف مقصود الشارع بالمُباعدة، مباعدة المؤمنين من الكافرين، وهذه تُمثل سياجًا على الإيمان بحيث لا يقع من المؤمن شيء من التنازلات، والتراجع، والذوبان مع هؤلاء الكفار؛ وإنما يبقى محفوظ الإيمان، فهو يُجافي أعداء الله -تبارك وتعالى-.
لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ والموالاة تعني: النصرة وإيثار هؤلاء على غيرهم، تقريب هؤلاء، إطلاع هؤلاء على أسرار المسلمين، إلى غير ذلك من الصور.
فالموالاة لها صور كثيرة جدًا، الموالاة كلها بجميع صورها محرمة بنصوص القرآن الواضحة والأحاديث الصريحة، لكنها تتفاوت، فمنها ما يكون معصية، منها ما يكون كبيرة، منها ما يكون كفرًا مُخرجًا من الملة، ولهذا تجدون في كلام الفقهاء -رحمهم الله- حينما يتحدثون عن هذه الصور يذكرون أشياء دقيقة أحيانًا يعدونها من الموالاة، كَبري القلم للكافر، وتعبئة الدواة له بالحبر، أشياء يسيرة يدعونها من قبيل الموالاة، فالموالاة قد تكون بأشياء من هذا القبيل، وقد تكون بما هو أكبر وأعظم من ذلك، فهي لا تأخذ حكمًا واحدًا، ومن ثَم فإن الحكم المرتب عليها يختلف باختلاف الأنواع والصور، وكذلك أيضًا لابد فيه من النظر في الفاعلين، وذلك أن الشروط والموانع مُعتبرة في هذا كله.
انظر إلى ما وقع من حاطب ، وهي موالاة بنص القرآن، أفشى سر رسول الله ﷺ إلى المشركين، ونزلت فيه صدر صورة الممتحنة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ [الممتحنة:1]، لاحظ صريحة بأنها موالاة، لكن لم يكفر حاطب حينما وقع منه ذلك، مع أن هذه في المقاييس المعتبرة إلى يومنا هذا عند المسلمين وغير المسلمين تعتبر خيانة عظمى، فكيف إذا كان هذا بإفشاء سر رسول الله ﷺ والكتابة للمشركين يُخبرهم أن النبي ﷺ قد جهز لهم جيشًا كالليل يسير كالسيل، والنبي ﷺ كان قد عمى عليهم الأخبار ومع ذلك، ثم يؤخذ بهذا العمل فيبعث النبي ﷺ عليًّا والمقداد والزبير إلى روضة خاخ أخبرهم عن ظعينة -امرأة- معها كتاب لحاطب، فذهبوا فوجدوا المرأة متجهة إلى مكة في هذا المكان، وصلت إلى هذا المكان وجدوا معها الكتاب، قالوا: أخرجي الكتاب، فلما أنكرت وقالت: ما عندي كتاب، فقال علي -رضي الله عنه-: والله ما كذبنا ولا كُذبنا، يعني: النبي ﷺ أخبرنا، "لتخرجن الكتاب أو لنجردنكِ من الثياب"، هذا خبر مؤكد، فأمرتهم أن يتنحوا فأخرجتها من عقاصها -ضفائر الشعر- من شدة الإخفاء، فأخرجت هذا الكتاب فأتوا به النبي ﷺ وإذا به من حاطب إلى فلان وفلان، يعني: من زعماء المشركين يخُبرهم بما عزم عليه النبي ﷺ وكان ذلك سرًا قد أسر به النبي ﷺ إلى نفر من أصحابه منهم حاطب ، فعمر رضي الله عنه مُباشرة استئذن النبي ﷺ في أن يضرب عنقه، فنهاه عن النبي ﷺ ووجه السؤال إلى حاطب ما حملك على ذلك؟ فاعتذر إلى النبي ﷺ أنه لم يشك بعد إسلامه، وأن أصحاب النبي ﷺ لهم قرابة في مكة، يعني لهم عشيرة يحمون ذويهم وهو رجل مُلحق بقريش، لم يكن منها كان من أهل اليمن له حِلف في بعض بطون قريش اعتذر بهذا، وأن قرابته بمكة لا يوجد من يحميهم فأراد أن يتخذ يدًا عند المشركين، فالنبي ﷺ لم يحكم عليه بالكفر وقال لعمر : أما علمت أن الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم قد غفرت لكم .
فحاطب كان من أهل بدر لو كان فعله هذا مُخرجًا من الملة فإن جهاده في بدر يحبط، الله يقول عن الرسل الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- الذين ذكرهم في سورة الأنعام: وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:88]، لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر:65]، فلو كان فعله مُخرجًا من الملة لحبط عمله في بدر، فدل على أن فعله هذا لم يخرج به من الإسلام، إذًا ما كل موالاة تُخرج من الإسلام، وهذا العمل بلا شك هو من الموالاة كما سبق بنص القرآن، وإذا كان الأمر كذلك فإن مثل هذه المسألة لا يصح الحكم فيها بحكم واحد، فهي تختلف ولها صور وأحوال، ولابد من تحقق شروط وانتفاء موانع فطريقة القرآن والسنة والنصوص وطريقة السلف هي التحذير مما حذر الله منه أن لا يقع المُسلم فيه، أما مُلاحقة الناس فعل زيد أو عمرو هل هو موالاة أو ليس بموالاة، خرج من الملة أو لم يخرج من الملة، وأكثر من هذا، أن يحمل الإنسان على عاتقه تنفيذ الأحكام وهو لم يوكل ذلك إليه، ليس من شأنه أن يُنفذ في هؤلاء بزعمه حكم الله فيقتل، ويصدر عنه من الأعمال والمزاولات ما قد يذهب بآخرته، فهذا خطير، الطريقة الشرعية أن يُحذر الناس مما حذر الله منه، يُقال لهم موالاة الكفار لا تجوز.
ينبغي على الإنسان أن يحذر، وتُذكر النصوص في هذا، أما أن يشتغل الناس بما وراء ذلك بالتنقير عن ما في قلوب الناس؛ من أجل الحكم عليهم بالكفر والردة ونحو ذلك فهذا منهج منحرف، يؤدي في النهاية ونحن نعلم ذلك جيدًا، وقد وقع يؤدي في النهاية إلى قتل الأم والأب بالسواطير والسكاكين، وهذا من أوضح مفاسد هذه المسالك المنحرفة، وإذا دخل في هذا الأغمار والجهال ومن لا بصر له ولم ترسخ قدمه في العلم كانت النتائج هكذا؛ لأنها تتسلسل إلى أن يصل إلى أبيه وأمه، وسيصل إلى مستويات فمن لم يُكفر الكافر فهو كافر عنده، وأي كافر الذي لم يُكفر؟! هو يُكفر الآخرين ويُكفر من لم يُكفرهم، طيب هؤلاء كفار في نظرك أنت، فكيف تحكم على من لم يُكفرهم بعد أن حكمت عليهم بالكفر؟! فيصل إلى أقرب الناس إليه الأب والأم، أن هؤلاء كفار ومن ثَم فهو يرى أنه يقوم بأفضل الجهاد فلا يأخذه في الله لومة لائم، فلو كان أقرب قريب فهو يُبادر إلى قتله بأسوأ الطُرق وبأشرف الأوقات في العشر الأواخر، وقل مثل ذلك في أشرف البقاع ولو كان ذلك في المساجد، ولو كان في مسجد رسول الله ﷺ.
هذا طريق نهايته تعاسة، وهو من أعظم الشقاء -نسأل الله العافية- والخسران والضلال الذي يصير الإنسان فيه إلى غربة منتهى الغربة، الغربة المذمومة، وهنا نهي: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ.
لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ [آل عمران:28].
فقوله -تبارك وتعالى-: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ يدل على أنه لا يجوز أن يولى الكافر على شيء من أمور المسلمين، وكذلك أيضًا أن موالاة المشركين محرمة بجميع أنواعها، كما يدل عليه هذا التركيب في هذه الآية: لا يَتَّخِذِ وذلك مُضمن معنى النهي والأصل أن النهي للتحريم، إضافة إلى قوله -تبارك وتعالى-: وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ، فهذا لا يكون إلا لأمر محرم، هذا إضافة إلى النصوص الأخرى من الكتاب والسنة فهي مُصرحة بذلك.
وقد قال الألوسي -رحمه الله- في ضابط ما يكون من قبيل الموالاة: بأن ما عده العُرف تعظيمًا وحسبه المسلمون موالاة فهو منهي عنه، يقول: "ولو مع أهل الذمة لاسيما إذا أوقع شيئًا في قلوب ضعفاء المؤمنين" يعني: ما كان في العُرف من قبيل التعظيم والتقديم لهم، والإيثار لهم على المسلمين ونحو ذلك، فهذا داخل فيه.
وهكذا فإن قوله -تبارك وتعالى-: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ فهنا: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ فأظهر في موضع يصح الإضمار، يعني: ما قال لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دونهم، وإنما قال: مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ فكل ذلك لإبراز هذا اللفظ "المؤمنين" يدل على أن مُتعلق الولاية هو الإيمان، وإذا كان ذلك هو متعلقها فهذا يقتضي أن يكون الموالاة بحسب الإيمان، يعني: حتى لأهل الإيمان، فإن الولاء عند أهل السنة والجماعة الموالاة تتفاوت زيادة ونقصًا، فإذا كان الإيمان أكمل كانت الموالاة أعظم وأتم، وإذا ضعُف الإيمان فإن ذلك يكون سببًا يوجب ضعف الموالاة، فالحب في الله والبُغض في الله كما قال النبي ﷺ أوثق عُرى الإيمان لأن الإيمان الحي النابض هو المُحرك والدافع الذي يدفع صاحبه من أجل أن يُقرب أو يُباعد، إيمانه هو الذي يحكمه وليس الذي يحكمه أهواءه وذوقه ومواجيده وما إلى ذلك ما قد يستحسنه من غيره.
الرابطة الإيمانية هي التي تجمع بين أبي بكر القُرشي وبلال الحبشي، وسلمان الفارسي، بل هي التي تربط بين أهل السماء والأرض، فالله أخبر عن الملائكة من حملة العرش: وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا [غافر:7]، فهذا الاستغفار للذين آمنوا باعتبار الإيمان: لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ [غافر:7]، فهذا دعاء الملائكة -عليهم السلام- لأهل الإيمان والتوبة والاستقامة واتباع سبيل الرب -تبارك وتعالى-، فهذه الوشيجة والرابطة الإيمانية هي التي تجتمع: إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا [آل عمران:103]، هذه نعمة الإيمان: وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا، فكل الذهب والفضة والمال، مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ [الأنفال:63]، ألف بينهم بالإيمان، فهو معقد الولاء، وإذا كان ذلك هو معقد الولاء فإن الإيمان يزيد وينقص، ومن ثَم فإن الموالاة تنقص وتزيد بحسب نقص الإيمان وزيادته، فإذا كان العبد مُكملاً للإيمان كان له من الولاء أكمله، وإذا كان ناقص الإيمان مجترئًا على حدود الله -تبارك وتعالى- فله من الولاء ما يليق بمثله، بخلاف الخوارج والمعتزلة فإن الولاء عندهم لا يتجزأ؛ لأنه إما أن يوالى موالاة كاملة، وإما أن يتبرأ منه براءة كاملة، وهذا مذهب أهل البدع، أهل السنة يقولون: يتفاوت فقد يكون المؤمن على حال من الصلاح والاستقامة، وقد يكون مقصرًا عاصيًا فلا ينتفي عنه الولاء لكن لا يكون كموالاة ذاك الذي قد كمل الإيمان.
ومن هنا فإن ما قد يقع من الأخطاء في هذا الباب وذلك أننا قد نُحب من نُحب فنعطيه المحبة والموالاة الكاملة، وإذا أبغضنا أحدًا من أهل الإيمان لخطأ توهمناه أو لغير ذلك مخالفة في اجتهاد جعلناه شيطانًا رجيمًا، ولا يكون له شيء من الولاء ولا حقوق المسلمين، هذا مذهب أهل البدع، أهل السنة يُحبون الإنسان بقدر ما فيه من الإيمان ولو كان بينهم وبينه خصومة، أو خلاف، أو نحو ذلك، طالما أنه لم يخرج من دائرة الإيمان، ويتبين بذلك أيضًا خطأ آخر، وهو أننا لربما نُحب من نُحب لا لأمر إيماني وإنما لتعلق عاطفي أحيانًا يظن صاحبه أن ذلك من قبيل المحبة في الله، فيُحبه محبة شديدة لربما تُزاحم محبة الله في قلبه، ويظن أنها محبة شرعية.
المحبة الشرعية أولاً لا تُزاحم محبة الله، ثانيًا: المحبة الشرعية تكون بحسب حال المحبوب من الطاعة والإيمان والاستقامة، فإذا حصل له تراجع كان ذلك نقصًا في محبته بحسب ما وقع له من الضعف، أما هذه المحبة والتعلق الذي لا يتأثر بطاعة المحبوب ولا بمعصيته فتلك ليست المحبة الشرعية.
كذلك يؤخذ من هذه الآية الكريمة: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ، وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ فشيء هنا جاءت نكرة في سياق النفي، فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ فهذا يدل على مُباعدته، وعلى أنه في حال من الانحراف والضلال والبُعد عن صراط الله المستقيم، فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ وذلك أنه جمع بين ما يدعيه من محبة الله وولايته ومحبة أعداء الله -تبارك وتعالى-، وهذان لا يجتمعان.
وقوله -تبارك وتعالى-: إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً، المقصود بذلك المُداراة والمُلاطفة والمُلاينة بالقول من غير أن يهدم حقًّا أو يبني باطلاً، فهذا لا إشكال فيه مع القريب والبعيد والموافق والمُخالف، وقد نُقل ذلك عن الحسن -رحمه الله- بأن المُداراة نصف العقل فهذا من حُسن الخُلق، بخلاف إطلاق اللسان؛ يشتم هذا، وينخس هذا، ويطعن هذا، ويضرب ذاك، فهذا يُتقى مثله، إن من شر الناس من تركه الناس، أو ودعه الناس اتقاء فحشه، فيحتاج العبد إلى أن يضبط ما يصدر عنه أن لا تكون كلمات جارحة مؤذية، وأن لا يواجه الناس بما يكرهون، وإنما يتلطف بالقول ويوصل ما يريد إيصاله إليهم بأحسن عبارة من أجل أن تقبلها القلوب، حتى في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ليكن أمرك بالمعروف بالمعروف، ونهيك عن المنكر بغير منكر، فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّنًا [طه:44]، حتى مع فرعون يدعي الإلهية والربوبية وليس بعد هذا شيء، والقول اللين مطلوب معه.
وهكذا أيضًا تأمل قوله -تبارك وتعالى-: إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً فهذا على سبيل الخطاب، والكلام الذي قبله وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ هذا للغيبة، فالذي واجه به أهل الإيمان الخطاب بالسائغ والجائز وهو المُداراة، وأما ذاك من الموالاة فجاء به على سبيل الغيبة إما تكريمًا لهم، وإما لأن ذلك لا يستحق أن يوجه الخطاب إليه تكريمًا، وإنما كأنه أعرض عنهم فجاء بأسلوب الغيبة: وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ.
وهكذا أيضًا في قوله -تبارك وتعالى-: إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً هذا من رحمة الله حيث لم يُضيق على عباده فوسع عليهم، لم يأمرهم بمجابهة الكفار حتى في أوقات الضعف بالغليظ من الكلام والموحش من الخطاب، وإنما جعل لهم مندوحة لا يحصل معها الموالاة المحرمة، ولا يحصل معها أيضًا الاستفزاز الموجب للأذى لأهل الإيمان، وذلك بالمُصانعة بالقول الطيب والكلام الحسن المعروف، فرحمة الله واسعة بعباده.
وهكذا أيضًا فإن قوله -تبارك وتعالى-: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ بعد هذا الخطاب والنهي من أجل التأكيد على هذا المعنى، ومن أجل المُباعدة من موالاة أعداء الله -تبارك وتعالى-، فهذا الوعيد صادر منه: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ فهو قادر على إنفاذه متى شاء، وذلك أبلغ في التحذير حيث أضافه إلى النفس، والنفس هنا صفة ثابتة لله وهي مفسرة بالذات كما قال ذلك أهل السنة، وإن كان قليلٌ منهم جعلوا ذلك بمعنى مُغاير، يعني: للذات، فلم يقل الله -تبارك وتعالى- ويُحذركم الله سخطه أو عذابه أو غضبه أو نحو ذلك وإنما علق ذلك بالذات فهو أبلغ وأشد، وهذا يدل على شدة قُبح هذا المنهي عنه وهو موالاة أعداء الله .
وكذلك أيضًا يؤخذ من هذه الآية الكريمة بختمها بقوله: وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ، فهذا لا شك أنه مؤكد للتحذير والوعيد، فهو خبر مُضمن معنى التهديد: وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ يعني: إذا كان إلى الله المصير فإنه سيُحاسب عباده ويُجازي المُحسن بإحسانه والمُسيء بإساءته، فيُحسب العبد نفسه قبل أن يصير إلى ذلك المصير ثم يندم ولا ينفعه الندم، وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وهنا استعمال لفظ التحذير من أجل المُباعدة عن هذا الفعل فلا يقترب منه.
وقوله: وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ يدل على الحصر بتقديم الجار والمجرور: وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ولم يقل: المصير إلى الله، وحينما يُقدم ما حقه التأخير فهذا يدل على الحصر والقصر، يعني أن المصير إلى الله وحده دون من سواه، فالناس يصيرون إلى الله جميعًا لا يصيرون إلى غيره، وهذا مُناسب لقوله قبله: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ، فهو الذي قد توعد وتهدد، وهو الذي يتولى الحساب بنفسه والعباد صائرون إليه لا محالة دون ما سواه.
هذا ما يتصل بهذه الآية مع مؤكدات أخرى في ختمها لا تخفى كاستعمال الجملة الاسمية في قوله: الْمَصِيرُ فهذا يدل على الثبات، وكذلك ما يدل عليه "إلى" مع ذكر الْمَصِيرُ فهذا ينتهي إليه ، وهكذا في إظهار لفظ الجلال: وَإِلَى اللَّهِ ما قال: ويُحذركم الله نفسه وإليه المصير، ولذا قال وَإِلَى اللَّهِ فأظهر في مقام يصح فيه الإضمار فذلك أدعى لتربية المهابة، وهذا مقام تخويف وتحذير؛ فاسُتعمل معه ذلك كله، وهكذا من تأمل رأى في هذه الآية من وجوه البلاغة والدلالات الدقيقة الدالة على معانٍ في هذه الآية وهدايات.