الأربعاء 21 / ذو الحجة / 1446 - 18 / يونيو 2025
تُولِجُ ٱلَّيْلَ فِى ٱلنَّهَارِ وَتُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِى ٱلَّيْلِ ۖ وَتُخْرِجُ ٱلْحَىَّ مِنَ ٱلْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ ٱلْمَيِّتَ مِنَ ٱلْحَىِّ ۖ وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

"وقوله تعالى: تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ [سورة آل عمران:27] أي تأخذ من طول هذا فتزيده في قصر هذا فيعتدلان، ثم تأخذ من هذا في هذا فيتفاوتان، ثم يعتدلان، وهكذا في فصول السنة ربيعاً، وصيفاً، وخريفاً، وشتاء".
هذا القول هو المتبادر، فالإيلاج هو الإدخال، فقوله: تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ [سورة آل عمران:27] أي تدخل هذا في هذا، وهذا في هذا، بمعنى أنه يطول الليل فيأخذ من النهار، ويطول النهار فيأخذ من الليل، وينتج عن ذلك، ويتأثر عنه أيضاً ما يتعلق بتحول الفصول، وانتقالها من صيف إلى شتاء إلى ربيع إلى خريف، فكل ذلك يحصل فيتفاوت في ذلك الليل، والنهار تفاوتاً ظاهراً كما هو مشاهد، فهذا هو القول المتبادر، كما تحتمل الآية معنىً آخر، وهو أن المقصود بذلك التعاقب حيث ينسلخ النهار من الليل كما قال الله ﷺ: وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ [سورة يــس:37]، فتعاقب الليل، والنهار يمكن أن يكون هو المراد بقوله: تُولِجُ اللَّيْلَ فالآية تحتمل هذا، لكن المعنى الأول أقرب؛ وذلك لأنه عبر هنا بلفظ الإيلاج، تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ أي تدخل، وإدخال الليل في النهار معنى ذلك أنه يأخذ منه، - والله تعالى أعلم -، وهذا من كمال تصرفه - سبحانه، وتعالى -، وتدبيره بشئون هذا العالم، فهو دليل على قدرته، وهو جزء من ملكه - جل، وعلا - .
وهذا المعنى الذي ذكره الحافظ ابن كثير - رحمه الله - معنى أن الليل يأخذ من النهار، والنهار يأخذ من الليل - هو الذي ذهب إليه كثير من السلف، وهو اختيار كبير المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله -.
"وقوله تعالى: وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ [سورة آل عمران:27] أي تخرج الحبة من الزرع، والزرع من الحبة، والنخلة من النواة، والنواة من النخلة، والمؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن، والدجاجة من البيضة، والبيضة من الدجاجة، وما جرى هذا المجرى من جميع الأشياء".
هذا الكلام الذي ذكره الحافظ - رحمه الله - هو من أحسن ما تفسر به الآية؛، وذلك أنه جمع فيها أقاويل السلف ، فالسلف عند تفسير هذه الآية منهم من يفسرها بالحقيقة، ومنهم من يفسرها بالمجاز - وهذا إن قسمنا الكلام حقيقة، ومجازاً - فعلى الحقيقة بهذا الاعتبار - عند من رآه - يكون بإخراج الحبة، أو الثمرة من الشجرة، أو الحبة من الزرع، وكذلك بإخراج البيضة من الدجاجة، والنطفة من الإنسان، فهذا كله يقال له: ميت؛ لأنه أخرج من حي هو النبات، والإنسان.
وقوله: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ [سورة الأنعام:95] مثل إخراج الشجرة من الحبة، والإنسان من النطفة، والدجاجة من البيضة، وهكذا.
والمعنى المجازي - عند القائل بالمجاز - يكون بإخراج المؤمن من الكافر، فالمؤمن حي أخرج من الميت، والميت من الحي أي إخراج الكافر من المؤمن، وبغض النظر عن هذا التقسيم للكلام، وما فيه من المعارضة، لكن يقال: كل هذه المعاني داخلة في الآية؛ لأن الله لم يخص شيئاً دون شيء، وإنما يدلل على قدرته - سبحانه، وتعالى -، فمن ذلك أنه يخرج الإنسان من النطفة، والبيضة من الدجاجة، والشجرة من الحبة، والمؤمن من الكافر، فهذا كله يقال له: حي، والسلف قد يعبرون بالمثال، ولا يقصدون به الحصر، أي لا يقصدون تخصيص المعنى بهذا الذي ذكروه، فقوله مثلاً: الحبة من الشجرة، والشجرة من الحبة لا يقصد تخصيص هذا، وإنما يذكرون مثالاً يوضحه فقط، فالحافظ ابن كثير - رحمه الله - من فهمه، وفقهه لطريقة السلف جمع هذه الأقوال، فهي تشمل ذلك جميعاً.
"وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ [سورة آل عمران:27] أي تعطي من شئت من المال ما لا يعده، ولا يقدر على إحصائه، وتقتر على آخرين لما لك في ذلك من الحكمة، والإرادة، والمشيئة، والعدل.

مرات الإستماع: 0

"وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ [آل عمران:27] قال عبد الله بن مسعود: هي النطفةُ تخرج من الرجل ميتةً، وهو حي، ويخرج الرجل منها حيًا، وهي ميتة، وقال عكرمة: هي إخراجُ الدجاجة من البيضة، والبيضة من الدجاجة، وقيل: تُخرج المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن، فالحياةُ، والموتُ على هذا استعارةٌ، وفي ذكر الحي من الميت [- وفي النسخة الخطية: وفي ذكر الحي مع الميت -] المطابقة".

الحي مع الميت أحسن؛ لأنه لم يذكر لفظ الآية هنا، ففي ذكر الحي مع الميت مطابقة.

"وفي ذكر الحي مع الميت المطابقة، وهي من أدوات البيان، وفيه أيضاً القلبُ؛ لأنه قدَّم الحي على الميت، ثم عكس".

هنا في تفسير إخراج الحي من الميت، وإخراج الميت من الحي ما ذكره ابن مسعود قال: "النطفة تخرج من الرجل ميتة، وهو حي"[1] باعتبار ما ذكرته في بعض المناسبات بأن النطفة ميتة؛ لأنه في لغة القرآن، وكلام النبي ﷺ وفي عرف المُخاطبين بالقرآن، وهو أيضًا عرف الفقهاء: أن الميت ما لا روح فيه، فهذا الميت عندهم، فلا يقولن قائل: بأن النطفة فيها حيوانات منوية تسبح، وتلقح البويضة، ونحو هذا، هذا ليس بمراد عندهم، النطفة هذه ليس فيها روح، والجنين إلى أن يكتمل له أربعة أشهر يعتبر ميت، الأطباء يقولون فيه نبض، وكذا، هذا لا يُنكر، لكن الكلام في الحياة، والموت شرعًا، فتُنفخ فيه الروح إذا اكتمل له أربعة أشهر، فبهذا يكون خلقًا آخر، وإسقاطه يترتب عليه أحكام، فهو نفس، وبهذا الاعتبار فإن النطفة ميتة تخرج من الرجل، وهو حي، والسلف كثيرًا ما يفسرون بالمثال، فيكون هذا من قبيل التفسير بالمثال.

يقول: "وقال عكرمة: هي إخراج الدجاجة من البيضة"[2] الدجاجة حية، والبيضة ميتة، "والبيضة من الدجاجة" هذا ميت من حي، وكذلك ما يذكرون من إخراج الحبة، والنواة، هذا على ظاهره، الحياة، والموت حقيقةً.

يقول: "وقيل: تخرج المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن، فالحياة، والموت على هذا استعارة" والاستعارة يُدخلها كثيرٌ منهم في المجاز، فهي نوعٌ من المجاز، وبعضهم يجعلها قسمًا قائمًا بذاته، فيقولون: مجاز يتضمن تشبيهًا، وإن كانوا يختلفون كثيرًا في معناها، وحقيقتها، وتعريفها، لكن يقولون: بأنها إدعاء معنى الحقيقة في الشيء مبالغةً في التشبيه، إلى غير ذلك مما يذكرونه، فالمقصود أن المعنيين المذكورين:

الأول: على اختلاف الأمثلة المذكورة فيه أن المقصود الموت حقيقةً، والحياة حقيقةً، الدجاجة من البيضة، وإلى آخره، وأن ذلك الذي يذكرونه هو من قبيل التمثيل فحسب، يعني لا يقتصر عليه.

المعنى الثاني: أن الحياة، والموت عند أرباب المجاز: أن المقصود حياة الإيمان، والقلب، والروح، تخرج المؤمن من صلب الكافر، وتخرج الكافر - مثل ابن نوح - من المؤمن، فهذا مجاز، الحياة غير الحياة الحقيقية المعروفة المتبادرة، فهو استعمالٌ ثانٍ عند من يقولون بالمجاز، والكلام في المجاز معروف، لكن هذا عند القائل به.

الحافظ ابن كثير - رحمه الله - وبعض المحققين حملوا الآية على الجميع[3] وهذا هو الأحسن تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ فيدخل فيه إخراج البيضة من الدجاجة إلى آخر الأمثلة المذكورة، ويدخل فيه إخراج المؤمن من الكافر؛ لأن ذلك يصدق عليه جميعًا أنه حي، أو ميت، والله - تبارك، وتعالى - ذكر في القرآن في مواضع الحياة، والموت للإيمان، والكفر.

يقول: "وفي ذكر الحي مع الميت المطابقة" يسمى الطباق، والتضاد أيضًا: وهي الجمع بين معنيين متقابلين، مثل: وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ [الكهف:18] فجمع بين اليقظة، والرقاد، فهنا الحي، والميت معاني متقابلة، هذا الذي يسمونه الطباق، والمطابقة، وهي من أدوات البيان.

"وفيه أيضًا القلب؛ لأنه قدَّم الحي على الميت، ثم عكس" تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ فقدَّم الميت في الجملة الثانية، فهذه الاستعمالات البلاغية متنوعة، والقرآن جاء بلغة العرب، فهذا الذي يسمونه بالقلب، والقلب أنواع عند البلاغيين، بعضهم يذكر له خمسة أنواع، أو خمسة أوجه، منها الذي يعنينا هنا ما يسمى بالتبديل، والقلب ليس على سَننٍ واحد، وإنما هو على أنواع، هذا النوع الذي يكون فيه ما ذُكر، من ذكر الجملة الأولى، ثم ذكره ثانيًا في الجملة الأخرى، يعني مؤخرًا، هذا الذي يسمى التبديل، عكس الكلمات في نظامها، وترتيبها، كما في هذه الآية، وكما في قولهم - كلام العرب -: كلام الملوك، ملوك الكلام.

"بِغَيْرِ حِسَابٍ بغير تضييق، وقيل: بغير محاسبة".

"بِغَيْرِ حِسَابٍ بغير تضييق، وقيل: بغير محاسبة" بغير تضييق يعني بسعة، وكثرة من غير تضييق بغير حساب؛ لأن القليل يُعد، والعرب يُقال إنهم يقولون: بأن ما زاد على الأربعين فإنه لا يُعد، وما كان دونه فهو قليل يُعد دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ [يوسف:20] فالقليل يُعد، والكثير لا يُعد، يُحثى حثوًا، وقالوا في صفة النبي ﷺ كما في يوم حنين، وما بعدها: فإنه "يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة"[4]

وابن كثير - رحمه الله - يقول: أي تعطي من المال ما لا يعده، ولا يقدر على إحصائه[5] يعني الكثرة تَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَاب

  1.  تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (5/307).
  2.  تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (1/418).
  3.  تفسير ابن كثير ت سلامة (2/29).
  4.  أخرجه مسلم في كتاب الفضائل باب ما سئل رسول الله ﷺ شيئا قط فقال لا، وكثرة عطائه برقم: (2312).
  5.  تفسير ابن كثير ت سلامة (2/29).

مرات الإستماع: 0

لما قرر -تبارك وتعالى- قدرته الكاملة على تدبير شؤون الخليقة والتصرف فيهم، وبين ملكه التام، وأنه يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويُعز من يشاء، ويُذل من يشاء، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير، ذكر بعد ذلك قدرته الكاملة على تدبير أمور هذا الكون مما لا يدخل تحت قدرة المخلوقين ولو اجتمعوا: تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [آل عمران:27]، فهذه أمور لا يقدر عليها إلا الله فهي من دلائل قدرته الكاملة.

تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ تُدخل الليل في النهار، وتُدخل النهار في الليل، فيطول هذا، ويقصر هذا، ويحصل من جراء ذلك كما هو معلوم في سنته -تبارك وتعالى- بهذا الخلق أن تتبدل الفصول فيحصل الشتاء والصيف وما بينهما، فهذا الخلق يتقاصرون دونه، وهم لا يستطيعون أن يدفعوا عنهم ذلك، أو أن يؤخروه أو يقدموه قبل وقته، يؤذيهم الحر كثيرًا ويتطلعون إلى برد الهواء وتغير الأجواء، ولكنهم يقفون جميعًا من أولهم إلى آخرهم وقوف العاجز المُعلن عجزه الذي ينتظر مجرد انتظار ما يقع من تدبير الله -تبارك وتعالى- وتحويل ما هم به من حر إلى برد، وإذا جاءهم برد الشتاء وأزعجهم ذلك وأضر بهم بقوا في حال من العجز ينتظرون تحوله عنهم، وهكذا فالخلق في غاية الضعف والرب -تبارك وتعالى- في غاية القوة والاقتدار.

تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ الذي لا حياة فيه، ويدخل في ذلك الحي الحياة المعروفة الحقيقية التي تتبادر الأذهان إليها عند الإطلاق: وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ فيُخرج الإنسان من النُطفة، ولا يقولن قائل بأن الحيوانات المنوية حية، الكلام في لغة القرآن ولغة العرب الذين خوطبوا بالقرآن أنهم يقولون لما لا روح فيه ميت، وإنما الحي عندهم ما فيه روح، فالنطفة لا يكون فيها الروح، فيُخرج الإنسان من النطفة وهي ميتة، ويُخرج الدجاجة أو الفرخ للطائر من البيضة وهي ميتة، وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ.

وكذلك أيضًا يُخرج الزرع من الحب، وكذلك أيضًا في الحياة المعنوية فيُخرج المؤمن من صُلب الكافر، فكل ذلك داخل فيه، والسلف منهم من فسره بهذا، ومنهم من فسره بهذا، وكل ذلك صحيح، وإنما يُفسرون بما يُقرب المعنى من المثال ونحوه، فكل ما يصدق عليه الحياة والموت فالله يُخرج هذا من هذا، وهذا من هذا، هكذا يُخرج الميت من الحي فيُخرج البيضة من الدجاجة أو الطائر، والنطفة من الإنسان.

وكذلك أيضًا يُخرج الحب من الزرع، وكذلك أيضًا يُخرج الكافر من صُلب المؤمن: وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ من خلقك، بِغَيْرِ حِسَابٍ رزقًا واسعًا، فالله يرزق من يشاء يوسع له في الرزق ويمنع من شاء، يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ [القصص:82]، ويُضيق الرزق على آخرين، كُلاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا ۝ انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ [الإسراء:20-21]، في الرزق، هذا التفاضل الذي يوجد بين الناس في أرزاقهم ومعايشهم كل ذلك من عطاء الله -تبارك وتعالى- فهو يرزق من يشاء بغير حساب.

يؤخذ من هذه الآية الكريمة من الهدايات: تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ يدل على كمال القدرة، القدرة الإلهية فإن هذه الأكوان وإدارتها أمر يقف الخلق كما ذكرت عاجزين أمامه، مُعلنين ضعفهم وعجزهم، حينما تأتي موجة برد أو حر أو رطوبة أو غبار أو مطر أو قحط أو غير ذلك هذا يعمهم، يعم هؤلاء الذين نزل بهم، ولا يستطيع أحد منهم أن ينفرد بحمام دافئ في هذا الكون فلا يُصيبه ما أصاب الناس، يعني: أن يكون له استثناء بإرادته هو، وإذا نزل المطر لا يستطيع أن يُحدد أرضًا لا ينزل بها هذا المطر، أو إذا نزل الجدب لا يستطيع أن يُحدد قطعة أو رقعة لا يُصيبها ما أصاب الناس، وإذا نزل الغبار لا يستطيع أن يُشير إليه بكل ما عنده من قوى وإمكانات حتى يتوقف بل يغشاه كما يغشى غيره، وترى المدن الكبار أمام هذه الموجة من الغبار الذي كأنه الجبال يزحف وهؤلاء تحته كالذر بمساكنهم وطرقهم ومصانعهم وغير ذلك، هذا ضعف الخلق، لا يوجد كبير أو قوي أو غني يستطيع أن يوقفه، فهذا لكمال قدرة الخالق وفي الوقت نفسه يُبين عن ضعف المخلوقين.

ويؤخذ من هذه الآية الكريمة من الهدايات أن هذا الكون بأسره مُسخر لربه -تبارك وتعالى- يُدبره كيف شاء، فلم يوجد عبثًا، وليس فيه اضطراب، وليس هناك شيء يرد على سبيل الصدفة وإنما هو بتدبير العزيز الحكيم، فينبغي على العبد أن يوقن بهذا، وأن يرضى ويُسلم، يعني: الأقدار التي لا مدفع لها هذه يجب على العبد التسليم الكامل والرضا والصبر، يرضى عن ربه -تبارك وتعالى- ويصبر على ما أصابه، هذا فيما لا مدفع له مثل: الحر والبرد ونحو ذلك، مثل: الموت إذا نزل، فهذا لا يمكن أن يندفع ولو اجتمع أمهر الأطباء الذين على أرجاء المعمورة لما استطاعوا أن يدفعوا الموت عُشر ثانية، لا يمكن عُشر ثانية، مهما تطور الطب -تخيل ما شئت- لن يستطيع أن يدفع الموت عن الإنسان إذا جاء الأجل عُشر ثانية ولا أقل من هذا، فإذا نزل القدر يجب على العبد التسليم الكامل فيما لا مدفع له، ولهذا كان بعض السلف يكره أن يدخل الإنسان ويقول: اليوم حر، اليوم رطوبة، اليوم برد، ولهذا كان بعضهم يرد عليه حينما يقول: اليوم برد، يقول: هل استدفئت الآن؟ يعني: حينما قلتها هل استدفئت؟ هل انتفعت؟ هل تغير من الأمر شيء؟ يعني: كأنه يقول بأن هذا نوع من التذمر على قدر الله وتصريفه لأمر هذا الكون، ماذا تستفيد حينما تتكلم بمثل هذا، حر رطوبة برد، يدخل الإنسان بيته متذمرًا، ماذا يُغير من الواقع؟ وإنما العبد يحمد ربه -تبارك وتعالى- على السراء والضراء ويصبر ويرضى عن ربه -تبارك وتعالى-.

النوع الثاني من القدر: وهو الذي يمكن مدافعته بالقدر، فالجوع يُدفع بالأكل، والعطش يُدفع بالشرب، وكل هذا بقدر الله ، المرض الذي يمكن أن يُعالج يُدافع بالأدوية والطب الذي يمكن مدافعته به، وذلك بقدر الله ، هذا لا إشكال فيه، فالإيمان بالقدر لا يُنافي تعاطي الأسباب؛ لكنه لا يعتمد عليها، ولا يركن إليها، وإنما يركن إلى الله -تبارك وتعالى-؛ لأن الله  هو الذي خلق الأسباب، وهو الذي يقدر على سلب أثرها الذي أودعه فيها، فكل شيء بيده.

تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ، الإنسان قد يكون عنده إمكانات قد يكون عنده قدرات، قد يكون عنده أموال وأملاك ونحو ذلك، ولكن هل يستطيع أن يُدبر هذا التدبير أو ما هو أيسر من ذلك؟

الجواب: لا، الليل إذا جاء يغشى الجميع لا يوجد استثناء لأحد، وإذا جاء النهار يعم الجميع في البلد المعين الكل في هذه الساعة في الليل لا أحد يستطيع أن يُغيرها لتكون صباحًا بالنسبة إليه لعمل أو ظرف أو فرح أو ترح، وإذا جاء الصباح فهو على الجميع، وإذا ارتفع الضحى واشتد الحر على الجميع الكل خاضعون مستسلمون، يجري عليهم أمر الله -تبارك وتعالى-، فإذا كان الأمر كذلك فينبغي على العباد أن يستسلموا لأحكامه الشرعية فهو الواحد القهار الذي بيده النفع والضر، الذي يُدبر هذا الكون ويجري هذا الكون جريًا في غاية الدقة لا يتعاصى عليه من ذلك شيء، فينبغي أن يكون هذا الإنسان الذي هو الوحيد في هذا الكون يعصي الله ، الإنس والجن وباقي الكون كله خاضع لربه ومالكه ، كله ساجد، كله مُسبح: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء:44]، فحبات الرمل تُسبح، الحصى يُسبح، الشجر يُسبح، الطير تُسبح، الحيوانات البهيمة تُسبح، وهكذا، كل ذرات هذا الكون مُسبحة خاضعة، ويبقى هذا الإنسان هو الذي يشمخ بأنفه، وهو أضعف ما يكون، فينبغي للعبد أن يكون سائرًا بهذا الاتجاه في طاعة ربه ومليكه ، وهكذا أيضًا فإن خلقه هذه الأضداد الليل والنهار، الحي والموت، مع التصرف فيها وتقليبها وإخراج الضد من ضده، هذا كله يدل على كمال قدرته ، وذلك مما يزيد القلب خضوعًا وإخباتًا وخشوعًا لله .

وهكذا في قوله: وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ فالرزق أيضًا بيده، إذا كان هو الذي يُدبر أمر هذا الكون ويُقلبه فهو الذي يملك أيضًا الأرزاق، وَتَرْزُقُ وعُبر بالفعل المُضارع الذي يدل على الاستمرار والتجدد "ترزق"، فهو يرزق في كل لحظة ولا ينفك العباد أبدًا عن رزقه، فهم كما نُشاهد ونحن منهم أرزاق متنوعة من الأموال المطعوم والمشروب والملبوس والمركوب والمنازل والأثاث والرياش، وقل مثل ذلك أيضًا في أرزاقهم، يرزقهم البنين والبنات، ويرزقهم -تبارك وتعالى- من ألطافه ألوان الهدايات، ويرزقهم من العلوم النافعة والهدايات والمعاني التي يحصل بها غذاء الأرواح، فهذا من رزقه -تبارك وتعالى-، وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ وهنا عُلق بالمشيئة، وهذا يدل على كمال التفرد والغنى والقدرة والإرادة، وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ومن هنا فإن العبد يتوجه في رزقه وطلبه إلى مولاه ، هو الذي يملك الرزق، الرزق لا يملكه أبواك، ولا يملكه العشيرة والقبيلة، أو يملكه أحد من الناس كائنًا من كان، الذي يملكه هو الله وحده وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ، فإذا أيقن المؤمن بهذه الحقيقة فإنه لا يخاف على رزقه، أكثر ما يُقلق الناس، القلق يدور على محورين اثنين:

الأول: الأجل يخاف الإنسان من الموت فيتحسس الأمراض ويتوهم الأوجاع.

الثاني: يخاف على الرزق يقلق، الذي يكتسب ويعمل قلق، قلق إذا ارتفعت الأسعار، قلق من المستقبل، قلق من الخسائر، والذي لا يعمل هو يترقب أين سيعمل؟ وأين سيكون؟ وما مستقبله؟ وهل إذا تخرج سيجد عملاً مناسبًا أو لا؟ أكثر ما يُقلق الناس هذا وهذا، هذا الرزق وهذا الأجل مع أنها محسومة لن تموت نفس[1]، أقوى صيغة من صيغ النفي، لن تموت، ونفس نكرة في سياق النفي فهي للعموم "نفس"، لن تموت نفس، يعني: لا من الإنسان، ولا من الحيوان بأنواعه.

حتى، هذه للغاية، تستوفي الاستيفاء بمعنى أخذ ذلك كاملاً وافيًا من غير نقص، تستوفي رزقها وأجلها، أكثر ما يُقلق الناس، لو نزلت به أوجاع الدنيا لن يتغير من أجله شيء، ولو قيل له: أنت أصح الناس لن يتأخر الأجل لحظة، قد يكون الأجل بعد ساعة، يسقط في مكانه، يخرج من بيته ولا يرجع إلى أهله حادث، الفرق هو أن البعض ينزل به الموت وهو صحيح يعني يموت وهو مُعافى صحيح، بصحة جيدة، وآخرون يموتون في حال من الاعتلال والمرض، هذا الفرق فقط، غير الأجور ورفعة الدرجات وتكفير السيئات بسبب البلاء والمرض، لكن الأجل لا علاقة له، فقط أنت تموت بصحة جيدة أو تموت بصحة معتلة، آجالنا واحدة.

فهذه إذا أيقن المؤمن بها وأن الرزق عند الله -تبارك وتعالى- لا يأتي بحرفة وذكاء ومهارة وحذق وخبرات وإنما هو من الله؛ فقد تجد الرجل يحمل أعلى المؤهلات وله خبرات واسعة في طرق الكسب وتحصيل المال والثروة، ولربما يُدرب ويُقيم الدورات للناس وهو لا يصل إليه إلا القليل من المال، وآخر لا يفقه من ذلك قليلاً ولا كثيرًا هو عامي لم يدرس، ولم يتعلم، ولا يعرف يكتب اسمه وإنما يُبصم، ولا يعرف يستعمل آلة الصرافة ولا يفقه من ذلك قليلاً ولا كثيرًا، ولا يستطيع أن يُحصي ثروته، يعني: ما يكتسبه ذاك الحاذق في العمر كاملاً مع أهله وذويه لربما يكتسبه هذا بصفقة واحدة عن طريق الهاتف، القضية ما هي شطارة وإنما ذلك يرجع إلى رزق الله وعطاءه.

وقد ذكرت في بعض المناسبات بعض الأمثلة، أُذكر ببعضها ذاك الذي سقط في البئر فتداعى الناس وأخرجوه، وإذا به لم يُصب بأذى فلما أجلسوه في مجلسهم وسقوه لبنًا سألوه كيف وقعت؟ فدعاهم ليشرح لهم عند البئر كيف وقع، فزلت قدمه فسقط ثانية، لكنه أصابته جوانب البئر فما وصل إلى قعرها إلا قد فارق الحياة، هو بقي له لحظات من الحياة وبقي له شربة لبن لابد أن يخرج فيشربها، وهذا أمثلته في الواقع معروفة، والناس يعرفون من هذا أشياء.

وقد يبرأ الإنسان من عِلل وأوصاب لم يسع لعلاجها أو لربما يأس الأطباء من علاجها، ونحن نعرف أحوالاً، دكتور يُعالج في العيون نعطيه مثالاً في هذا المجال، امرأة نعرفها تكسر الحطب، عمياء تكسر الحطب بالفأس فطار جزء من ذلك الحطب الذي تكسره بالفأس -وهي عمياء- فأصاب جبينها، عمياء طارت قطعة من الحطب وضربت عينها، فأبصرت، وهذا عندنا، بلا علاج ولا أدوية ولا عقاقير، ولا غير ذلك، ولم يخطر هذا في بالها.

وهكذا إنسان أعمى ويغتسل، وإذا بالماء الحار هو الذي ينزل عليه على رأسه فأبصر، ولم يخطر هذا على باله.

وتجدون في تراجم بعض العلماء أشياء غريبة وعجيبة من هذا القبيل، هذا في الإبصار، فضلاً عن غيره.

فالإنسان يتعاطى الأسباب لكن قد يأتيه مراد الله من غير سبب، وقد يأتيه من الضد أيضًا، ومما يكرهه أيضًا أو يخافه، رجل مرض في سفر ودخل المستشفى، وبقي مدة ولم يعرفوا له علاجًا، ولما جاء إلى المطار الذي كان يسوق هذه العربة التي يركبها كفأت فيه فسقط هنا، فلما سقط قام كأنما نشط من عقال، ليس به بأس، الألم الذي كان في بطنه ذهب بسقطة.

فهذه أمور قد تقع للإنسان من غير طلب، وقد تقع من أضدادها، الأمر كله بيد الله -تبارك وتعالى-، وإذا كان الله -تبارك وتعالى- يرزق من يشاء بغير حساب، فهذا يحمل المؤمن على ألا يقع في قلبه شيء من الحسد على أحد من إخوانه المسلمين ممن أعطاه الله وأغناه، فالحاسد معترض على قدر الله، على تدبير الله، لماذا أعطيت فلان؟ الله أعلم بخلقه فيرزق من يشاء، فإذا رأى مُفضلاً عليه في المال أو في الصحة أو في العقل أو في العلم أو في الولد أو نحو ذلك، هذا يؤتيه أولاد وهذا لا يأتيه أولاد، هذا يأتيه ذكور عشرة، وهذا كلهم بنات عشر، فهذا كله من الله، فالذي يحسد الآخرين هو معترض على قدر الله ، فهذا لا يصح بحال من الأحوال من المؤمن، وإنما يرضى ويُحب لأخيه ما يُحب لنفسه، ويسأل الله من فضله: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النساء:54].

وقال تعالى في ابني آدم: إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ، اللائق أن يقول الآخر: هذا بذنوبي، هذا بسوء قصدي ونيتي، حُرمت القبول فيتوب إلى الله ويُرجع نيته وقصده، لا، أمعن في الإساءة لَأَقْتُلَنَّكَ، هذا هو الحل في نظره، قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة:27]، فلا يحسد الإنسان الآخرين على عمل آخرته، القبول عند الله -تبارك وتعالى- لكن فيما يظهر من القبول في الدنيا من دلائل القبول وعلامات القبول والمُبشرات وما إلى ذلك، أن الله إذا أحب عبدًا، نادى في أهل السماء، يُنادي جبريل إن الله قد أحب فلانًا فأحبوه؛ فيوضع له المحبة في السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض[2]، بعض الناس إذا رأى أحدًا له قبول أحبه الناس ونحو ذلك تحرك كل شعرة في جسده يُعاديه، وينتقصه، ويُبغضه، ويبحث عن مثالبه، هذا فيه من أخلاق اليهود: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النساء:54]، هذا إنسان فُضل بحفظ القرآن بحفظ السنة بحفظ العلم تدعوا له، وتجتهد لتكون أفضل منه، تسأل الله من فضله، أما ما يتغابط أو يتحاسد به الناس على حطام الدنيا فهذا لا يستحق أصلاً، لكن من كانت نفسه تتوق إلى هذه المطالب فينبغي أن يتوجه للمعطي الرازق ، والله أعلم. 

  1. أخرجه ابن ماجه، أبواب التجارات، باب الاقتصاد في طلب المعيشة، برقم (2144)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (2743).
  2. أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة، برقم (3209)، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب إذا أحب الله عبدا حببه لعباده، برقم (2637)، من حديث أبي هريرة .