الثلاثاء 15 / ذو القعدة / 1446 - 13 / مايو 2025
ذُرِّيَّةًۢ بَعْضُهَا مِنۢ بَعْضٍ ۗ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

"إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ۝ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [سورة آل عمران:34] يخبر تعالى أنه اختار هذه البيوت على سائر أهل الأرض، فاصطفى آدم خلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وعلمه أسماء كل شيء، وأسكنه الجنة، ثم أهبطه منها؛ لما له في ذلك من الحكمة.
واصطفى نوحاً ، وجعله أول رسول إلى أهل الأرض، لمَّا عبد الناس الأوثان، وأشركوا في دين الله ما لم ينزل به سلطاناً، وانتقم له لما طالت مدته بين ظهراني قومه يدعوهم إلى الله ليلاً، ونهاراً سراً، وجهاراً، فلم يزدهم ذلك إلا فراراً، فدعا عليهم فأغرقهم الله عن آخرهم، ولم ينج منهم إلا من اتبعه على دينه الذي بعثه الله به، واصطفى آل إبراهيم، ومنهم سيد البشر، وخاتم الأنبياء على الإطلاق محمد ﷺ.
وَآلَ عِمْرَانَ، والمراد بعمران هذا هو والد مريم بنت عمران أم عيسى ابن مريم عليهما السلام، فعيسى - من ذرية إبراهيم كما سيأتي بيانه في سورة الأنعام إن شاء الله تعالى، وبه الثقة".

في قوله تعالى: وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ [سورة آل عمران:33] يقول الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: يخبر تعالى أنه اختار هذه البيوت على سائر أهل الأرض، يحتمل أن يكون المقصود بآل إبراهيم، وآل عمران هو عمران نفسه، وإبراهيم ﷺ نفسه، وهذا معنىً معروف في القرآن، وفي كلام ا لعرب، فإن "آل" قد تطلق، ويراد بها نفس الشخص، وقد يراد بها أهله، أو من يسبون إليه من قومه الذين هم على دينه، وملته، أو نحو ذلك، فالله يقول: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [سورة غافر:46]، فهذه الآية تحتمل هل المقصود أدخلوا فرعون أشد العذاب، أو المقصود إدخال أتباع فرعون، والموافقين له على دينه؟ فالآية تحتمل هذا، وهذا.
ومن أهل العلم من يقول: المقصود به فرعون، وهنا: إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا [سورة آل عمران:33]، فذكر آدم، ونوحاً - عليهما الصلاة، والسلام -، ولم يقل:، وآل نوح مع أن نوحاً اتبعه من اتبعه، وإن كانوا قلة.
قال: وَآلَ إِبْرَاهِيمَ، وَآلَ عِمْرَان هل المقصود به إبراهيم، وعمران كما ذكر نوحاً، وآدم - عليهما السلام - ؟ فهذا تحتمله الآية، أو أن المقصود أوسع، وأعم من ذلك كأن يكون المراد أهل الإيمان ممن ينتسبون إليهم، يعني المؤمنين منهم.
وهنا لم يتكلم على قوله: ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ [سورة آل عمران:34]، لكن معنى قوله : ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ يحتمل أن يكون المراد متناسلة متشعبة، ويمكن أن يكون المراد أي في الإيمان، والتوحيد، وطاعة الله ، والإخلاص له، أي ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ في الإيمان، والعمل، والنية، والإخلاص، والتوحيد، هذا تحتمله الآية.
ويمكن أن يكون المراد بقوله: ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ [سورة آل عمران:34] أي في التناصر، والموالاة، كما قال الله عن المنافقين: الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ [سورة التوبة:67] فالله قال في أهل الإيمان: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ [سورة التوبة:71]، وذكر أهل النفاق فقال: الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ [سورة التوبة:67].
ابن جرير - رحمه الله - يقول: ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ [سورة آل عمران:34] يعني في الموالاة في الدين، والتناصر فيه، ويضيف إلى ذلك بأن دينهم واحد، وطريقتهم واحدة كما في قوله: الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ [سورة التوبة:67] فطريقتهم واحدة، ودينهم واحد. 

مرات الإستماع: 0

"ذُرِّيَّةً بدلٌ مما تقدم، أو حالٌ، ووزنه: فُعلية، منسوبٌ إلى الذر؛ لأن الله تعالى أخرج الخلق من صلب آدم كالذر، وغُير أوله في النسب، وقيل: أصل ذرية: ذرورة، وزنها: فعولة، ثم أٌبدل من الراء الأخيرة ياء، فصار: ذُرويةً، ثم أُدغمت الواو في الياء، وكُسرت الراء، فصارت: ذرية".

قوله: "ذُرِّيَّةً بدلٌ مما تقدم" المقصود: آدم، وما عُطف عليه إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ [آل عمران:33] فيكون بدلًا منه، أو يحتمل أن يكون من نوح، باعتبار أن نوحًا  هو آدم الثاني، أو آدم الصغير، كما يقولون، فإن كل من جاء بعده فهو من ذريته وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ [الصافات:77] ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ [الإسراء:3] وبعضهم نظر إلى هذا، فقال: إن ذرية هو بدلٌ من نوح، ولكن الأول أظهر منه - والله تعالى أعلم -.

ويحتمل أن يكون من آل إبراهيم، وآل عمران، فتكون آل إبراهيم، وآل عمران ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ [آل عمران:34] فيكون بدلًا منه، يقول: "أو حال" يعني منهم أيضًا، حال كونهم ذرية، والتقدير: اصطفاهم حال كونهم متناسلين، بعضهم من بعض.

يقول: "ووزنه فُعلية منسوبٌ إلى الذر" هذا أحد الأقوال في وزنه، وفي نسبته، أو اشتقاقه، الذرية من أين اشتُق؟ نسبة إلى ماذا؟ قال: "لأن الله تعالى أخرج الخلق من صلب آدم كالذر، وغُير أوله في النسب" يعني بضم أوله: ذُرية، ذَر مفتوح الأول، ذُرية مضموم الأول، فغُير في النسب، يعني النسبة إلى الذَر تقول: ذُري، وذُرية، فالياء للنسب، تقول: في النسبة إلى مكة مكي، فيقول: "وغُير أوله في النسب" يعني بضم أوله، وقيل: "أصلُ ذرية ذرورة" - هكذا قال بعضهم - "ووزنه فعولة، ثم أُبدل من الراء الأخيرة ياءً فصارت: ذروية، ثم أُدغمت الواو في الياء، وكُسرت الراء فصارت: ذرية" فهذان قولان في وزنه، وقيل غير ذلك، فبعضهم يقول: مشتقٌ من ذروت، ووزنها: فُعُّولة، والأصل ذرورة، يقولون: اجتمع، واوان: الأولى: زائدة للمد، والثانية: لام الكلمة، يعني الحرف الأخير في الكلمة، وقُلبت لام الكلمة ياء تخفيفًا، فصار اللفظ: ذرية، قبل ذلك: ذروية، فاجتمع واو، وياء، وسُبقت الأولى بالسكون، فقُلبت الواو ياءً، وأُدغمت الياء في الياء، وكُسر ما قبل الياء للمناسبة.

أو يكون، وزنها: فُعيلة، والأصل: ذريوة، فأُعلَّت إعلال ما تقدم، وبعضهم يقول: مشتقة من ذريت، الأول: ذروت، والثاني: ذريت، ووزنها: فُعُّولة، أو فُعِّيلة، فإن كانت: فُعُّولة، فالأصل: ذروية، فأُعلَّت، وإن كانت: فُعِّيلة، فالأصل: ذريْيَة، بياءين، الأولى ساكنة، والثانية مفتوحة، فأُدغمت الياء الزائدة في لام الكلمة: ذرية.

وبعضهم يقول: إنه مشتق من ذرأ الله الخلق، ووزنها: فُعِّيلة، والأصل: ذريئة بالهمز، من ذرأ، فخففت الهمزة، فأُبدلت ياءً، ثم أُدغمت الياء الزائدة في الياء المُبدلة من الهمزة.

وبعضهم يقول: مشتقة من الذر - كما ذكر المؤلف، لكن على القول: بأنها مشتقة من الذر اختلفوا في، وزنها، فبعضهم يقول، وزنها: فُعِّيلة، والياء للنسب، وغيروا الذال من الفتح في "ذَرَّ" إلى الضم "ذُرية" أو تكون الياء لغير النسب: كقُمرية، ذرية منسوب إلى الذر، وتكون الياء للنسب، لكن "قُمرية" هذا اسمها، وهو الطائر المعروف، قُمرية، ليست منسوبة إلى القمر، أو نحو ذلك، وإنما هذا اسمها مرتجل، فبعضهم يقول: يحتمل أن تكون الياء هذه لغير النسب، وبعضهم يعني ممن يقولون: بأنها من الذر يقول: وزنها فُعِّيلة، الأول: فُعلية، والثاني: فُعِّيلة، ويقولون: إن الأصل ذريرة، قُلبت الراء الأخيرة ياءً لتوالي الأمثال، فصار: ذرية.

وبعضهم يقول: هي على وزن فُعُّولة، والأصل: ذرورة، قُلبت الراء الأخيرة ياء لتوالي الأمثال، فصار: ذروية، فأُعِلَّ الإعلال المتقدم، وبعضهم يقول: على وزن فعلولة، والأصل: ذرورة، قُلبت الراء الأخيرة ياءً لتوالي الأمثال، فصار: ذروية، وأُعلَّ الإعلال المتقدم، فتلاحظ كثرة هذا الاختلاف في اشتقاق هذه اللفظة، وفي وزنها، لكن على كل حال الذرية لا تخفى، لكن لما ذكر هنا الوزن، والاشتقاق ذكرت ذلك، والمقصود بقوله: ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ قال ابن عطية: أي متشابهين في الحال، والدين[1] وهذا أصبح يُستعمل استعمال الأمثال المرسلة، يعني أصبحت هذه الجملة تستعمل استعمال المثل، فتجري على الألسن، فتجد الناس يقولون هذا في المناسبات إذا رأوا صلاحًا في الأولاد قد تبع صلاح الآباء قالوا: ذرية بعضها من بعض، يعني أنهم يتشابهون في الحال، والدين.

  1. تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (1/423).

مرات الإستماع: 0

ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، هؤلاء الأخيار، الأطهار، الأبرار هم سُلالة طُهر وفضل وخير، وزكاء متواصلة متصلة بالصلاح، والإخلاص، والخيرية، والتوحيد لله -تبارك وتعالى-، والتقوى، والعمل بمرضاته، ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، فهنا فيه بيان أن الله -تبارك وتعالى- سَمِيعٌ يسمع كلام العباد، ويسمع دعاءهم، وسيأتي دعاء امرأة عمران، ودعاء أيضًا عمران نفسه، فالله سامع لأقوال العباد، سامع لسؤالهم، ودعائهم، وحاجاتهم، وهو عَلِيمٌ بهم، عليم بما في قلوبهم، عليم بأعمالهم، عليم بأحوالهم لا يخفى عليه منهم خافية.

فهذا يؤخذ منه هذه الآية الكريمة ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، فهنا ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ فـ "مِنْ" هذه للاتصال، وليست للتبعيض، ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، يعني: بينهم اتصال القرابة ذرية بعضها من بعض، وكذلك فيما يتعلق بالأحوال، والزكاء، والصلاح، والطُهر، وما أشبه ذلك.

ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ، وهذا الجزء من الآية صار يُذكر كالمثل، وهذا الذي يُسميه بعض العلماء بالأمثال المُرسلة، المقصود بالأمثال المُرسلة يعني: الأمثال التي لم تُذكر على أنها مثل؛ لكنها ذُكرت عبارات، وجُمل في القرآن، فصارت تُستعمل استعمال الأمثال، يعني هي لا تتضمن في معناها مثل، ليست كقوله تعالى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ [البقرة:17].

هذا تقريب المعقول بالمحسوس؛ ليتضح، لكن هنا عبارات اسُتعملت استعمال الأمثال مثل: وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ [الأنفال:42]، ومثل هنا إذا قيل في مناسبته ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ حينما تكون أسرة متسلسلة في الصلاح، والطاعة، والاستقامة، فيُقال ذلك، كما يُقال: المثل المُرسل، وهكذا حينما يقول الناس مثلاً في مناسبة من المناسبات وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ [فاطر:43] في مناسبته، ونحو هذا، هذه يسميها بعضهم بالأمثال المُرسلة، عبارات جاءت في القرآن، فصارت تُستعمل استعمال الأمثال، وإن لم تكن في مضامينها، ومعناها متضمنة لمعنى مثل، يعني: هي ما ذُكرت في القرآن على أنها من قبيل الأمثال، فهي نوع من الاقتباس.

وهناك نوع آخر من الأمثال تُسمى الأمثال الكامنة، هذه غير الأمثال المعروفة في القرآن التي قال: الله : وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ [العنكبوت:43]، هناك بعض الأمثال عند العرب دل عليها، أو يؤخذ مضمونها من بعض الآيات، يعني مثلاً من أمثالهم "خير الأمور الوسط" وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ [الإسراء:29]، فهذا يدل على معنى هذا المثل، "من عز بز، ومن غلب استلب" هذا مثل عند العرب يدل عليه قوله: إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ [النمل:34]، في قول ملكة سبأ، فهذا بمعنى "من عز بز، ومن غلب استلب" إلى غير ذلك.

فالشاهد هنا في هذه الآية الكريمة ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ: أنه انتقل من اصطفاء إبراهيم ، وآدم، ونوح، وآل عمران على العالمين، قال: ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [آل عمران:34]، فمن هذه الذرية مريم، وعيسى ، ليُحاج بذلك النصارى، ووفد نجران الذين جاءوا إلى النبي ﷺ، ودعاهم إلى المباهلة.

وأكثر المفسرين يقولون: صدر سورة آل عمران نازل في وفد نجران حينما جاءوا إلى المدينة، فهذه توطأة؛ ليتحدث عن ميلاد المسيح ، وما جرى له بعد ذلك، وما وقع على يديه من الآيات الدالة على نبوته، وكذلك ما حصل له من الرفع بخلاف ما اعتقده اليهود من صلبه، وروجوا ذلك على النصارى حتى صدقوه، واعتقدوه.

وكذلك في قوله: وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، فيه إشارة إلى أن هذا الاصطفاء الذي وقع إنما هو لتمام علمه، وإحاطته بخلقه، فهذا فيه أن ذلك لم يكن هكذا من غير علم، وإحاطة، كذلك فيه ترغيب لهؤلاء بالاقتداء بهم، فالله سميع لأقوال العباد، إلى آخره.

وفيه أيضًا أن النبوة غير مُكتسبة إذا حُمل هذا على خصوص هؤلاء الأنبياء؛ يعني أن المقصود ذوات هؤلاء، وليس الذرية، أو أن تُحمل الذُرية على الأنبياء منهم، فيكون دالاً على أن النبوة اصطفاء، وهذا هو حق بلا شك تدل عليه نصوص أخرى أن النبوة اصطفاء وليست بكسب العبد، هذا هو الاعتقاد الصحيح في هذا الباب.

كذلك أيضًا يؤخذ من هذه الآية الكريمة قضية الاصطفاء، والاجتباء أنها من الله -تبارك وتعالى- فلا ينبغي على العبد أن يعترض، ويحمله الحسد، ودواعيه إلى إنكار الحق، أو غمط الناس الذين فضلوا، واصطفاهم الله -تبارك وتعالى- على غيرهم، فربك يخلق ما يشاء ويختار، المشركون اعترضوا على اصطفاء النبي ﷺ، وطلبوا أن يكون هذا الوحي قد نزل على أحد العظماء من القريتين، قيل: مكة، والطائف، فرد الله عليهم أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ [الزخرف:32]، يعني: النبوة، فهذه إليه ليس إلى الخلق، ورد على اليهود أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا [النساء:54]، فهذا رد على اليهود حينما حسدوا العرب، وحسدوا النبي ﷺ على هذا الاصطفاء، والاجتباء.