الإثنين 14 / ذو القعدة / 1446 - 12 / مايو 2025
فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّى وَضَعْتُهَآ أُنثَىٰ وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ ٱلذَّكَرُ كَٱلْأُنثَىٰ ۖ وَإِنِّى سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّىٓ أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ ٱلشَّيْطَٰنِ ٱلرَّجِيمِ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

"ولم تكن تعلم ما في بطنها أذكراً أم أنثى،  فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى [سورة آل عمران:36]".

قوله: وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ بضمير الغائب هذه قراءة الجمهور، والقراءة الثانية قراءة ابن عامر، وأبي بكر، وهي قراءة متواترة: وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ بضمير المتكلم، وعلى هذا يلاحظ افتراق المعنى، فعلى القراءة الأولى تكون هذه جملة اعتراضية من كلام الله ، وسط كلامها، فهي تقول: إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ۝ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى [سورة آل عمران:36]، فجاءت جملة اعتراضية من كلام الله: وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتِْ، ثم يأتي كلاماً آخر بعده يحتمل أن يكون من كلامها، وهو: وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى [سورة آل عمران:36] فهذه الجملة يحتمل أن تكون من كلامها ليكون كلام الله فقط هو قوله: وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ [سورة آل عمران:36]، ويحتمل أن تكون هذه الجملة من كلام الله أي أنه يقول: وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى [سورة آل عمران:36]، وقوله تعالى: وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ [سورة آل عمران:36] هذا من كلامها قطعاً، فتبقى الجملة الاعتراضية هل هي فقط: وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ [سورة آل عمران]36،، أو أنها أطول من هذا: وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى [سورة آل عمران:36].
وقوله على القراءة الثانية: وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى [سورة آل عمران:36] يكون كله من كلامها، وعلى القراءة الأولى: وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ [سورة آل عمران:36]، هذه الجملة الاعتراضية المتبادر أن هذا التعقيب في غاية المناسبة هنا، وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ [سورة آل عمران:36]؛ باعتبار أنها أخبرت أنها وضعتها أنثى، فالله لم يزد في علمه من هذا الإخبار شيء، فعلمه هو هو.
ومن أهل العلم من يقول: إن قوله: وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ [سورة آل عمران:36] جاء على سبيل التعظيم، والتفخيم لشأن هذا المولود، فهي كأنها تقول: إن هذه البنت لا تستطيع أن تقوم بما يقوم به الذكر من عبادة الله ؛ لأنه يعتورها ما يعتورها مما يمنعها من الصلاة، وما إلى ذلك، فقال: وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتِْ [سورة آل عمران:36] أي أن هذه البنت لها شأن عظيم، وسيولد منها مولود يكون آية للعالمين، ويفترق بسببه بنو إسرائيل إلى مؤمنين، وكفار، وسيكون أهل الإيمان لهم العلو، والرفعة، فيكونون فوق الذين كفروا من الإسرائيليين.
وعلى كل حال هذا قال به جماعة من أهل العلم، والمتبادر، - والله أعلم - أن ذلك جاء تعقيباً على إخبارها لدفع التوهم؛ لأن الاعتراض، أو التعقيب بأتي في القرآن أحياناً لدفع توهم، أو إجابة سؤال قد يرد، فهنا لما قالت: إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى [سورة آل عمران:36] كأنها تخبر ربها - تبارك، وتعالى -، وهو العالم بكل شيء فقال: وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ [سورة آل عمران:36].
وقولها: وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى [سورة آل عمران:36]، قيل: لأن النذر في شريعتهم في من نذر ولداً لم يكن يقبل منه إلا الذكر فقط، فلما وضعت البنت قالت ما قالت، ويمكن أن يكون وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى - وهو المتبادر، والله أعلم - أنه ليس الذكر كالأنثى، فالذكر يقوم بأمور لا تقوم بها المرأة، وهو أقوى منها على العبادة، والعمل.
"وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى أي: في القوة، والجلد في العبادة، وخدمة المسجد الأقصى.
وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ [سورة آل عمران:36] فيه الدلالة على جواز التسمية يوم الولادة".

يقولون - والله أعلم بهذا - : إن معنى مريم في لغتهم، يعني خادمة الرب،، أو خادم الرب.
وهذا المعنى الذي استنبطه الحافظ ابن كثير - رحمه الله - : وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ [سورة آل عمران:36] معنىً صحيحاً، ويدل عليه أيضاً أدلة من السنة، حيث يسمى المولود يوم الولادة، ويمكن أن يسمى في اليوم السابع كما دلت السنة على ذلك أيضاً.
"فيه دلالة على جواز التسمية يوم الولادة، كما هو الظاهر من السياق؛ لأنه شرع من قبلنا".

هذا باعتبار أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد في شرعنا ما ينسخه، وقد جاء في شرعنا ما يقرره، حيث سمى النبي ﷺ ابنه إبراهيم حين ولد كما جاء في الصحيحين، وكذلك سمى غيره كأخي أنس سماه عبد الله، وغير هؤلاء ممن سماهم النبي ﷺ، حينما جيء بهم بعد الولادة.
"وقد حُكي مقرراً، وبذلك ثبتت السنة عن رسول الله ﷺ حيث قال: ولد لي الليلة ولد سميته باسم أبي إبراهيم [أخرجاه] [1].
وكذلك ثبت فيهما أن أنس بن مالك ذهب بأخيه حين ولدته أمُّه إلى رسول الله ﷺ فحنَّكه، وسماه عبد الله، وكذلك ثبتت تسميت الآخرين يوم الولادة.
فأما حديث قتادة عن الحسن البصري عن سمرة بن جندب أن رسول الله -ﷺ قال: كل غلام رهين بعقيقته يذبح عنه يوم سابعه، ويسمى، ويحلق رأسه[2]، فقد رواه أحمد، وأهل السنن، وصححه الترمذي بهذا اللفظ،، ويروى ويدمى[3]، وهو أثبت، وأحفظ، - والله أعلم -".

يقول: ويدمى، وقال: وهو أثبت، وهذا غريب أن الحافظ ابن كثير - رحمه الله - يرى أن ويدمى أحفظ، وأثبت من ويسمَّى، مع أن هذه الرواية ردَّها كثير من الحفاظ، ومنهم أبو داود - رحمه الله - لما أخرجه في السنن عقبه بما يدل على هذا.
ومعنى يدمى: أي أنه حينما يعق عنه يؤخذ من صوف العقيقة، وتوضع على أوداج الذبيحة حينما تذبح فيصيبها الدم، ثم بعد ذلك تجعل فوق رأسه بحيث يسيل الدم منها كالخيط، فيصيب رأسه على يافوخه، ويصيبه الدم على كل حال.
وبعض أهل العلم يرى أن هذا من علم أهل الجاهلية، وأنه لا يجوز، وبعضهم أثبته بناء على هذه الرواية، إلا أن أكثر أهل العلم على أن ذلك لا يشرع، ولا يجوز، وأن الرواية المحفوظة ويسمَّى.
وابن القيم - رحمه - ذكر كلام أهل العلم في هذه المسألة، ويمكن يكون من المفيد قراءته.
وسماع الحسن عن سمرة فيه كلام أنه لم يسمع منه لكنه يستثنى من ذلك حديث العقيقة هذا، مثل حديث سكتات الإمام فهو من رواية الحسن عن سمرة، وضعف بأنه لم يسمع منه.
"قال الحافظ ابن القيم - رحمه الله تعالى -:
الفصل الثالث في أدلة الاستحباب:
فأما أهل الحديث قاطبة، وفقهاؤهم، وجمهور أهل العلم فقالوا: هي من سنة رسول الله ﷺ، واحتجوا على ذلك بما رواه البخاري في صحيحه قال: قال رسول الله ﷺ: مع الغلام عقيقة فأهريقوا عنه دماً، وأميطوا عنه الأذى[4]"
هو الآن يتكلم على العقيقة، وليس على التدمية.
"وعن سمرة قال: قال رسول الله ﷺ: كل غلام رهينة بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه، ويسمى فيه، ويحلق رأسه[5] [رواه أهل السنن كلهم، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح]".

معنى الرهينة في قوله: مرتهن بعقيقته، قيل: يكون ذلك انعتاقاً له من الشيطان، وعلى ذلك إذا مات فإنه لا يعق عنه.
وبعضهم يقول كالإمام أحمد - رحمه الله -: إن ذلك يكون حبساً له عن الشفاعة لأبويه إذا ما عق عنه، ومعنى ذلك إذا مات حين ولادته فإنه يعق عنه لتحصيل هذا المعنى في الآخرة، هذا سبب الخلاف، فربما يحتمل هذا، وهذا، والأحوط أن يعق عنه، لكن هذا مأخذ الخلاف في المسألة، هل يعق عنه إذا مات، أم لا.
فإذا قلنا انعتاق له من الشيطان فإذا مات فلا عقيقة، وإذا قلنا: إنه يشفع فإن ذلك لا يتخلف بموته في حال الصغر، وكذا إذا ولد ميتاً بعد نفخ الروح، فقد ثبت عن النبي ﷺ أنه يشفع، فأحكام العقيقة، وما يتعلق بذلك من الميراث، وما أشبه هذا يقولون: إذا استهل صارخاً بعد خروجه حياً ثبتت له، لكن إذا خرج ميتاً، فإنها لا تجري عليه أحكام المولود، لا عقيقة، ولا ميراث، وأما الشفاعة فهي ثابتة بأحاديث أخرى.
وعن عائشة قالت: قال رسول الله ﷺ: عن الغلام شاتان مكافئتان، وعن الجارية شاة[6].
قوله: مكافئتان يعني يكون بينهما شبه في الحجم، والهيئة الظاهرة، واللون، والقرون، تكون إحداهما مشابهة للأخرى، في سعرها، وفي السمن، والهيئة الظاهرة.
"رواه الإمام أحمد، والترمذي، وقال: حديث صحيح، وفي لفظ: أمرنا رسول الله ﷺ أن نعق عن الجارية شاة، وعن الغلام شاتين [رواه الإمام أحمد في مسنده].
وعن أم كرز الكعبية أنها سألت رسول الله ﷺ عن العقيقة، فقال: عن الغلام شاتان، وعن الأنثى واحدة، ولا يضركم ذكراناً كن، أو إناثاً [رواه الإمام أحمد، والترمذي، وقال: هذا حديث صحيح] [7].
وقال الضحاك بن مخلد: أنبأنا أبو حفص سالم بن تميم عن أبيه عن عبد الرحمن الأعرج عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: إن اليهود تعق عن الغلام، ولا تعق عن الجارية فعقوا عن الغلام شاتين، وعن الجارية شاة [ذكره البيهقي].
وعن ابن عباس أن رسول ﷺ عق عن الحسن، والحسين كبشاً كبشاً، رواه أبو داود، والنسائي، ولفظ النسائي: بكبشين كبشين.
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله ﷺ أمر بتسمية المولود يوم سابعه، ووضع الأذى عنه، والعق. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.
وعن بريدة الأسلمي قال: كنا في الجاهلية إذا ولد لأحدنا غلام ذبح شاة، ولطخ رأسه بدمها فلما جاء الله بالإسلام كنا نذبح شاة، ونحلق رأسه، ونلطخه بزعفران. [رواه أبو داود].
وروى ابن المنكدر من حديث يحيى بن يحيى أنبأنا هشيم عن عيينة بن عبد الرحمن عن أبيه: أنا أبا بكرة ولد له ابنه عبد الرحمن، وكان أول مولود ولد بالبصرة، فنحر عنه جزوراً، فاطعم أهل البصرة، وأنكر بعضهم ذلك، وقال: أمر رسول الله ﷺ بشاتين عن الغلام، وعن الجارية بشاة".

لا يشرع في العقيقة أن تكون من البقر، أو الإبل، والنبي -ﷺ من فعله، ومن أمره ذكر الشاة، ولم يذكر غيرها، وهذا بخلاف الهدي فالأفضل فيه الإبل.
"وعن الحسن عن سمرة أن النبي ﷺ قال في العقيقة: كل غلام مرتهن بعقيقته تذبح عنه يوم سابعة، ويحلق، ويدمى[8].
قال: إذا ذبحت العقيقة أخذت منها صوفة، واستقبلت بها أوداجها، ثم توضع على يافوخ الصبي حتى يسيل على رأسه مثل الخيط، ثم يغسل رأسه، ويحلق، قال أبو داود: وهذا وهم من همام بن يحيى يعني: ويدمى، ثم ساقه من طريق أخرى، قال: كل غلام رهينة بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه، ويسمى[9]، قال أبو داود: ويسمى أصح، وأخرجه الترمذي، والنسائي، وابن ماجة، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
وهذا الحديث قد سمعه الحسن من سمرة، فذكره البخاري في صحيحه عن الحبيب بن الشهيد، قال: قال لي ابن سيرين سئل الحسن ممن سمع حديث العقيقة، فسألته فقال: من سمرة بن جندب.
وقد ذكر الترمذي عن سلمان بن شرحبيل: حدثنا يحيى بن حمزة قال: قلت لعطاء الخرساني ما مرتهن بعقيقته؟ قال: يحرم شفاعة ولده، وقال إسحاق بن هانئ: سألت أبا عبد الله عن حديث النبي ﷺ: الغلام مرتهن بعقيقته ما معناه؟ قال: نعم، سنة النبي ﷺ أن يعق عن الغلام شاتان، وعن الجارية شاة، فإذا لم يعق عنه فهو محتبس بعقيقته حتى يعق عنه.
وقال الأثرم: قال أبو عبد الله: ما في هذه الأحاديث أوكد من هذا، يعني في العقيقة: كل غلام مرتهن بعقيقته[10]".

قوله: "ما في هذه الأحاديث أوكد من هذا": يقصد من ناحية الدلالة على أكدية العقيقة، هل هي واجبة؟ يقول: هذا أشد شيء في العقيقة أي قوله: مرتهن بعقيقته؛ لأنه توقف في مسألة الوجوب، فيقول: هذا آكد ما ورد فيها، أي أقوى ما ورد فيها.
"وقال يعقوب بن بختان سئل أبو عبد الله عن العقيقة، فقال: ما أعلم فيه شيئاً أشد من هذا الحديث: الغلام مرتهن بعقيقته.
وقال حنبل: قال أبو عبد الله: ولا أحب لمن أمكنه، وقدر أن لا يعق عن ولده، ولا يدعه؛ لأن النبي ﷺ قال: الغلام مرتهن بعقيقته، وهو أشد ما روي فيه، وإنما كره النبي ﷺ من ذلك الاسم، فأما الذبح فالنبي ﷺ قد فعل ذلك".

بعضهم قال: نفس العقيقة من عمل الجاهلية، وأنه لا يشرع، فأنكر الإمام أحمد على هؤلاء، فهو هنا يقول: الاسم فقط هو الذي يكره؛ لأن فيه معنى العقوق.
"وقال أحمد بن القاسم: قيل لأبي عبد الله العقيقة واجبة هي؟ فقال: أما واجبة فلا أدري، لا أقول واجبة، ثم قال: أشد شيء فيه: أن الرجل مرتهن بعقيقته، وقد قال أحمد في موضع آخر: مرتهن عن الشفاعة لوالديه.
وأما قوله: ويدمى، فقد اختلف في هذه اللفظة، فرواها همام عن يحيى عن قتادة فقال: ويدمى، وفسرها قتادة بما تقدم حكايته، وخالفه في ذلك أكثر أهل العلم، وقالوا: هذا من فعل أهل الجاهلية، وكرهه الزهري، ومالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق.
قال أحمد: أكره أن يدمى رأس الصبي، هذا من فعل الجاهلية، وقال عبد الله بن أحمد: سألت أبي عن العقيقة تذبح، ويدمى رأس الصبي، أو الجارية؟ فقال أبي: لا يدمى، وقال الخلال: أخبرني العباس بن أحمد أن أبا عبد الله سئل عن تلطيخ رأس الصبي بالدم؟ فقال: لا أحبه إنه من فعل الجاهلية، قيل له: فإن هماماً كان يقول: يدميه، فذكر أبو عبد الله عن رجل قال: كان يقول: يسميه، ولا أحب قول همام في هذا.
وأخبرنا أحمد هاشم الأنطاكي قال أحمد: اختلف همام، وسعيد في العقيقة، قال أحدهما: يدمى، وقال الآخر: يسمى، وعن أحمد رواية أخرى: أن التدمية سنة.
قال الخلال: أخبرني عصبة بن عصام قال: حدثنا حنبل، قال: سمعت أبا عبد الله في الصبي يدمى رأسه، قال: هذه سنة، ومذهبه الذي رواه عنه كافة أصحابه الكراهية.
قال الخلال: وأخبرني عصبة بن عصام في موضع آخر: حدثنا حنبل قال: سمعت أبا عبد الله يقول: يحلق رأس الصبي.، وأخبرني محمد بن علي حدثنا صالح، وأنبأنا أحمد بن محمد بن حازم حدثنا إسحاق كلهم يذكر عن أبي عبد الله قال: الدم مكروه، لم يروه إلا في حديث سمرة.
أخبرني محمد بن الحسين أن الفضل حدثهم أنه قال لأبي عبد الله: فيحلق رأسه؟ قال: نعم، قلت: فيدمى؟ قال: لا، هذا من فعل الجاهلية، قلت: فحديث قتادة عن الحسن كيف هو، ويدمى؟ قال: أما همام فيقول: ويدمى، وأما سعيد فيقول: ويسمى.
وقال في رواية الأثرم قال ابن أبي عروبة: يسمى، وقال همام: ويدمى، وما أراه إلا خطأً.
وقد قال أبو عبد الله بن ماجه في سننه: حدثنا يعقوب بن حميد بن كاسب حدثنا عبد الله بن وهب حدثني عمرو بن الحارث عن أيوب بن موسى أنه حدثه عن يزيد بن عبد الله المزني أن رسول الله ﷺ قال: يعق عن الغلام، ولا يمس رأسه بدم[11]، وقد تقدم حديث بريدة: كنا في الجاهلية إذا ولد لأحدنا غلام ذبح شاة، ولطخ رأسه بدمها، فلما جاء الإسلام كنا نذبح شاة، ونحلق رأسه، ونلطخه بزعفران.
وقد روى البيهقي، وغيره من حديث ابن جريج عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة قالت: كان أهل الجاهلية يجعلون قطنة في دم العقيقة، ويجعلونه على رأس الصبي، فأمر النبي ﷺ أن يجعل مكان الدم خلوقاً.
قال ابن المنذر: ثبت أن النبي ﷺ قال: أهريقوا عليه دماً، وأميطوا عنه الأذى[12]، والدم أذى، فإذا كان النبي ﷺ قد أمرنا بإماطة الأذى، والدم أذى، وهو من أكبر الأذى، فغير جائز أن ينجس رأس الصبي بالدم".

الدم الذي يخرج من أوداج الذبيحة، وهي تذبح هو الدم المسفوح النجس، قال تعالى: أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ [سورة الأنعام:145] يعني نجس.
يقول ابن كثير: "وقوله: إخباراً عن أم مريم أنها قالت: وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [سورة آل عمران:36]، أي عوذتها بالله من شر الشيطان، وعوذت ذريتها، وهو ولدها عيسى فاستجاب الله لها ذلك".

أصل المعاذ هو الملجأ، والموئل، فقوله: وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا كما تقول: أعوذ بالله: أي ألجأ إليه، وألوذ به، وأعتصم به من الشيطان الرجيم.
"كما روى عبد الرزاق عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: ما من مولود يولد إلا مسه الشيطان حين يولد فيستهل صارخاً من مسه إياه إلا مريم، وابنها ثم يقول أبو هريرة : اقرؤوا إن شئتم: وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [سورة آل عمران:36] [أخرجاه][13]".
  1. أخرجه مسلم في كتاب الفضائل - باب رحمته ﷺ الصبيان، والعيال، وتواضعه، وفضل ذلك (2315) (ج 4 / ص 1807).
  2. أخرجه البخاري في كتاب العقيقة - باب إماطة الأذى عن الصبي في العقيقة (5155) (ج 5 / ص 2083)، وأبو داود في كتاب الضحايا - باب في العقيقة (2839) (ج 3 / ص 65).
  3. مسند أحمد (20269) (ج 5 / ص 22)، وسنن أبي داود في كتاب الضحايا - باب في العقيقة (2839) (ج 3 / ص 65) قال أبو داود، وليس يؤخذ بهذا.
  4. أخرجه البخاري في كتاب العقيقة - باب إماطة الأذى عن الصبي في العقيقة (5154) (ج 5 / ص 2082).
  5. أخرجه البخاري في كتاب العقيقة - باب إماطة الأذى عن الصبي في العقيقة (5155) (ج 5 / ص 2083).
  6. أخرجه أبو داود في كتاب الضحايا - باب في العقيقة (2836) (ج 3 / ص 64)، والترمذي في كتاب الأضاحي - باب ما جاء في العقيقة (1513) (ج 4 / ص 96)، وابن ماجه في كتاب الذبائح - باب العقيقة (3162) (ج 2 / ص 1056)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (4105).
  7. أخرجه الترمذي في كتاب الأضاحي - الأذان في أذن المولود (1516) (ج 4 / ص 98)، والنسائي في كتاب العقيقة - باب كم يعق عن الجارية (4217) (ج 7 / ص 165)، وصححه الألباني في المشكاة برقم (4152).
  8. أخرجه أحمد بهذا اللفظ (20206) (ج 5 / ص 17) 
  9. سنن ابن ماجه في كتاب الذبائح - باب العقيقة (3165) (ج 2 / ص 1056)، وصحيح ابن ماجه للألباني برقم (3165).
  10. سبق تخريجه.
  11. أخرجه ابن ماجه في كتاب الذبائح - باب العقيقة (3166) (ج 2 / ص 1057)، وهو في صحيح ابن ماجه للألباني برقم (3166).
  12. سبق تخريجه في الحاشية رقم (5).
  13. أخرجه البخاري في كتاب التفسير - باب تفسير سورة آل عمران (4274) (ج 4 / ص 1655)، ومسلم في كتاب الفضائل - باب فضائل عيسى (2366) (ج 4 / ص 1838).

مرات الإستماع: 0

"فَلَمَّا وَضَعَتْهَا [آل عمران:36] الآية، كانوا لا يحررون الإناث لخدمة المساجد، فقالت: إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى تحسرًا، وتلهفًا على ما فاتها من النذر الذي نذرت".

يعني المقصود أن هذا جوابٌ لسؤالٍ مقدر، هي تخبر الله أنها وضعتها أنثى على هذه القراءة إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى والله يعلم ذلك، فهل كانت مخبرة لله؟ الجواب: لا، وإنما قالته على سبيل التحسر، والتلهف لما قد فات من مأمولها أن يكون المولود ذكرًا، فينهض بهذه الأعمال.

"وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ قُرأ وضعتْ بإسكان التاء، وهو من كلام الله تعظيمًا لوضعها - وفي النسخة الخطية: تعظيمًا لموضوعها - وقُرأ بضم التاء، وإسكان العين - وفي النسخة الخطية -: بسكون العين - وهو على هذا من كلامها".

 

وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ يقول: تعظيمًا لموضوعها في النسخة الثانية، كذا؟

"نعم لموضوعها".

ايش عندكم شيخ عبود؟

لموضوعها، هي أحسن عدلوها لموضوعها، يعني المولود.

وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ يكون من كلام الله على هذه القراءة، وهي قراءة الجمهور[1] ويكون هذا من قبيل المحترزات، وذكرنا في بعض المناسبات أن المحترزات تأتي في القرآن كل موضعٍ بحسبه وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ فالاحتراز هنا من أجل ماذا؟ إذا كان على هذه القراءة، وأنه من كلام الله ففيه أولًا: دفع توهم أنها تُخبر، وأن الله لا يعلم بذلك، أنها تضيف إليه علمًا جديدًا - سبحانه، وتعالى - وليس كذلك، فقال: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ لينفي هذا الوهم الذي قد يتطرق إلى بعض النفوس، وكذلك أيضًا ما أشار إليه ابن جزي - رحمه الله - قال: "تعظيمًا لموضوعها" تعظيمًا لموضوعها باعتبار أنها وضعت مولودًا عظيمًا، لا تدري ما سيكون من أمره، وشأنه في العاقبة، يعني هذه البنت - التي هي مريم - ستكون آية للعالمين، وسيكون منها هذا الرسول الكريم الذي يكون من غير أب، ويرفعه الله - تبارك، وتعالى - حيًّا إلى السماء، وأظهر على يده هذه الآيات العظام: من إحياء الموتى بإذن الله  وإبراء الأكمه، والأبرص، ونحو ذلك مما قص الله من خبره، وشأنه، فهي وضعت شيئًا عظيمًا، فيكون هذا الاحتراز فيه هذا المعنى.

لكن على القراءة، قراءة ابن عامر[2] فهي لا تخبر، تقول: (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعْتُ) فيكون هذا من قبيل الاحتراز في هذا الموضع لإظهار هذا المعنى، فهي تقول لستُ مخبرة، وإنما متلهفة، كأنها تقول: أنا لا أضيف إليه علمًا جديدًا، وهذا سبق ذكر أمثلة عليه، كما في قوله - تعالى: إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ [المنافقون:1] الاحتراز ما هو؟ وَاللَّهُ يَعْلَمُ فلئلا يتطرق إلى الفهم أن شهادة الله بأن المنافقين كذبة، وقد قالوا: إنه رسول الله، فقال: وَاللَّهُ يَعْلَمُ فهذا هو الاحتراز هنا بين الجملتين، لئلا يُتوهم أن ما قالوه: بأن رسول الله ﷺ هو رسول أن هذا باطل، لا هذا حق، لكنهم غير مؤمنين به، فأكذبهم بهذا، فجاءت هذه الجملة الاحترازية، وهكذا.

"وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى يحتمل أن يكون من كلام الله، فالمعنى ليس الذكرُ الذي طلبتِ كالأنثى الذي، وهبتُ لكِ، أو يكونُ من كلامها، فالمعنى ليس الذكر كالأنثى في خدمة المساجد؛ لأن الذكور كانوا يخدمونها دون الإناث".

وهذا هو المتبادر، والأقرب، والذي يدل عليه ظاهر السياق أنه من كلامها، والأصل في الكلام الاتصال، يعني أن يكون من متكلمٍ واحد وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعْتُ خاصة على هذه القراءة وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ الأصل الكلام أنه متصل، لكن على القراءة الأخرى قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى هذا يحتمل أن يكون من كلام الله باعتبار أن الجملة قبله من كلام الله، يحتمل، فيكون الكلام في هذه القضية مقيدًا بهذه القراءة، فيكون له وجه، يعني على قراءة وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعْتُ فهنا لا وجه للقول بأن قوله: وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى من كلام الله وإنما هو من كلامها، هذا كله كلامها، لكن على القراءة الأخرى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى فهذا يحتمل أن يكون من كلام الله، أو يكون من كلامها، والأقرب أنه أيضًا على هذه القراءة من كلامها، وأنه متصلٌ بما بعده وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا فتكون الجملة الاحترازية هي فقط (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعْتُ) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وعلى القراءة الثانية يكون هذا من كلام الله، لكن ما بعده الأقرب أنه على القراءتين من كلامها.

وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى في خدمة المساجد، يقول: لأن الذكور كانوا يخدمونها دون الإناث" وهذا في خدمة المساجد، وفي غيرها، يعني فيما يليه الذَكر من الأعمال، والأعباء، وما ينهض به من التكاليف أقوى، وأقدر من الأنثى، وهو أكمل كذلك في خلقه، وتدبيره، وما إلى ذلك، والمرأة تنأى بنفسها عن مواطن الرجال، ونحو ذلك، وهي كما قال النبي ﷺ: المرأة عورة[3] والمقصود بالعورة هنا كما قال الله عن المنافقين في سورة الأحزاب: يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ [الأحزاب:13] العورة: الشيء الذي يُحترز له، ويُحتاط له، ويُحفظ، ويُصان، هذا معنى عورة، مثل البلاد المتاخمة للعدو يُقال لها: عورات الثغور، ونحو هذا، عورات البلد يُقال لها: عورة باعتبار أنها يُحترز لها ما لا يُحترز لغيرها، تجد فيها من الحراسات، والحدود، والرباط، ونحو هذا ما لا يكون في البلاد الداخلية، فالمرأة عورة بمعنى: أنه يُحترز لها، وتُصان، وتُحفظ، ويُحافظ عليها، فلا تُضيع، ولا تُهمل.

"سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ إنما قالت لربها: سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ لأن مريم في لغتهم بمعنى العابدة".

هكذا قالوا - والله أعلم - وبعضهم يقول: بمعنى خادم الرب، فنذرتها، وسمتها بالاسم اللائق لحالها، وما نُذرت له العابدة، أو خادم الرب.

"فأرادت بذلك التقرب إلى الله، ويُؤخذ من هذا تسمية المولودِ يوم ولادته".

ويؤُخذ غيره أيضًا من المعاني، والفوائد، والهدايات، ومسألة شرع من قبلنا الكلام فيها معروف، وقد جاء في تسمية المولود من يوم ولادته في شرعنا ما يقرر هذا، وفي الحديث: ولد لي الليلة غلام، فسميته باسم أبي إبراهيم[4] وكذلك في حديث أنس: أنه ذهب بأخيه حين ولدته أمه إلى النبي ﷺ وحنَّكه، وسماه عبد الله[5] بمجرد الولادة أخذوه فسماه النبي ﷺ وكذلك ما جاء في الصحيحين: عن جابر قال: ولد لرجل منا غلام فسماه القاسم، فقلنا: لا نكنيك أبا القاسم، ولا كرامة، فأخبر النبي ﷺ فقال: سم ابنك عبد الرحمن[6] ولم يقل: انتظر إلى سابعه، ولكن ثبت في السنة التسمية في السابع، ولكن ذلك ليس بلازم، وقد يُسمى الولد قبل ولادته أيضًا، يعني يُهيأ له الاسم قبل الولادة، وأصبح الناس عبر هذه الأشعة، ونحو ذلك يعرفون جنس المولود، فيتفق أبواه على اسمٍ، وإن كان الأحق بالتسمية الأب، لكن يؤخذ من هذه الآية أن الأم يمكن أن تسمي، لكن إذا حصلت المشاحة فالأب أحقُ بالتسمية، فالأب هو الذي يلي أمره، ويدبره، وينظر فيما يصلحه، وكذلك يُنسبُ إليه، فلان ابن فلان، فيتخير له الاسم اللائق، وذكرنا في بعض المناسبات بأن قول النبي ﷺ في جواب السؤال: من أحقُ الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك ثلاثًا[7] فهل معنى ذلك أن الأم هي التي يجب أن تُطاع في ما يكون معصيةً للأب إذا حصل الاختلاف بين الأبوين في توجيه الولد؟ وذكرت قول الإمام مالك - رحمه الله - لمن سأله قال: إن أبي في السودان، وإنه يأمرني أن أقدم عليه، وأمي تمنعني من ذلك؟ فقال الإمام مالك - رحمه الله -: أطع أباك، ولا تعصِ أمك[8] فاختلف علماء المالكية في مراد الإمام مالك بهذا، هل قصد أطع أباك فيما لا يكون معصية لأمك، أو ماذا؟ لكن الذي يظهر - والله أعلم - أن ما ذُكر في الحديث: "مَن أحق الناس؟"[9] أنه في ما يتصل بالمخالطة، والمعاشرة، فالأم لها حق أعظم من حق الأب في هذا الجانب بالبر، والمعاشرة، والمخالطة، ونحو ذلك "من أحق الناس بحسن صحابتي؟" في المصاحبة، وأما اتخاذ القرار، والتوجيه، أين يسكن؟ وأين يتجه؟ يسافر، أو لا يسافر، ونحو ذلك، فصاحب القرار هو الأب، وليس الأم - والله أعلم - وهو أحق بتسميته.

"وامتنع مريم من الصرف للتعريف، والتأنيث، وفيه أيضاً العُجمة". 

لأن أصلها أعجمي، فالأسماء - أسماء الأعلام - في القرآن أعجمية، إلا ما قل - كما ذكرنا في بعض المناسبات - قالوا: أربعة أنبياء أسماؤهم عربية، والباقي: أعجمية - والله أعلم - لكن هو ممنوعٌ من الصرف للعلمية، والتأنيث، ويُنضاف إلى ذلك العجمة، فاجتمع فيه ثلاث علل.

"وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ ورد في الحديث ما من مولودٍ إلا نخسه الشيطان حين يولد، فيستهلُ صارخًا إلا مريم، وابنها؛ لقوله: وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ الآية".

وأصل المعاذ الموئل، والملجأ، والمعقل وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ فالله - تبارك، وتعالى - استجاب ذلك، فذريتها هو عيسى  - عليه الصلاة، والسلام - فلم يتسلط عليه الشيطان في النخس، ويؤخذ من هذا مشروعية قول ذلك عند الولادة، إذا رُزق الإنسان بمولود، ونحو هذا، يقول مثل هذا لا بأس، قد ذكر النبي ﷺ فيما يقوله إذا أتى أهله: اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا[10] ذكر أنه إذا قُضي بينهم مولود فإنه لا يضره الشيطان، والأقرب - والله أعلم - أن المقصود بذلك لا يقربه الشيطان، بمعنى لا يتسلط عليه بالإغواء، فيكون خارجًا من الإسلام، كافرًا، لكن المعصية، ونحو ذلك هذا يقع كما هو مشاهد، الناس يقولون هذا، ومع ذلك لا يخلو أحد من مخالفة، ومعصية، وتقصير، فلا تكون لهم عصمة من المعاصي.

  1.  معاني القراءات للأزهري (1/251) والحجة للقراء السبعة (3/32).
  2. معاني القراءات للأزهري (1/251) والحجة للقراء السبعة (3/32).
  3.  أخرجه الترمذي في أبواب الرضاع برقم: (1173) وصححه الألباني.
  4. أخرجه مسلم في كتاب الفضائل، باب رحمته ﷺ  الصبيان، والعيال، وتواضعه، وفضل ذلك برقم: (2315).
  5.  أخرجه البخاري في كتاب العقيقة، باب تسمية المولود غداة يولد، لمن لم يعق عنه، وتحنيكه برقم: (5470) ومسلم في الآداب، باب استحباب تحنيك المولود عند ولادته برقم: (2144).
  6.  أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب أحب الأسماء إلى الله برقم: (6186) ومسلم في الآداب، باب النهي عن التكني بأبي القاسم، وبيان ما يستحب من الأسماء برقم: (2133).
  7.  أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب من أحق الناس بحسن الصحبة برقم: (5971) ومسلم في البر، والصلة، والآداب، باب بر الوالدين، وأنهما أحق به برقم: (2548).
  8.  شرح صحيح البخاري لابن بطال (9/190).
  9.  سبق تخريجه.
  10.  أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب التسمية على كل حال، وعند الوقاع برقم: (141) ومسلم في النكاح باب ما يستحب أن يقوله عند الجماع برقم: (1434).

مرات الإستماع: 0

لما ذكر الله -تبارك وتعالى- من اجتبى، واصطفى من عباده إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ۝ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [آل عمران:33-34]، ذكر دعاء امرأة عمران إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [آل عمران:35]، فذلك من شأن آل عمران الذين ذكر الله اصطفاءهم، وقد تحدثنا في الليلة الماضية عن هذه الآية الكريمة، وعن نذرها.

 قال: الله -تبارك وتعالى- بعد ذلك: فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [آل عمران:36]، لما نذرت ما في بطنها، وذلك مُبهم، ولم تكن تعلم هل هذا الحمل ذكر، أو أنثى، فلما علمت بذلك، ورأته، وعاينته أنه أنثى، والأنثى لا تلي من الأعمال، والمهام، والوظائف، وما إلى ذلك ما يليه الرجال، فقالت معتذرة رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ.

لما تم حملها، ووضعت مولودها قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى يعني: قد لا يتحقق على يديها ما كنت أُأَمله في المنذور من الولد، من القيام على الخدمة ببيت المقدس، ونحو ذلك، جاء هذا الاحتراز وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ من كلام الله ، وفي القراءة الأخرى المتواترة: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعْتُ، والقاعدة أن المُحترزات في القرآن تأتي في كل موضع بحسب ما يليق به، محُترزات الجُمل الاحترازية، فهنا لدفع لبس أو وهم.

إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى فهنا إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى قد يتبادر إلى الذهن أنها تُخبر ربها -تبارك وتعالى- خبرًا يُفيد العلم بما وضعت، كأن الله لا يعلم ذلك، والله بكل شيء عليم، علمه مُحيط بجميع الأشياء، فلما كانت العبارة، والصيغة هكذا على سبيل الإخبار، جاء هذا الاحتراز من قِبلها على إحدى القراءتين: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعْتُ يعني لست أفيد علمًا، وأضيف علمًا إلى الله لم يكن معلومًا، فالله يعلم ما كان، وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون.

وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعْتُ، وإنما قالت ذلك على سبيل الاعتذار، وعلى القراءة الأخرى: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ فهذا يكون من كلام الله يُبين فيه عن هذا المعنى أن ذلك الذي قالته لم يكن خافيًا ، فهذا احتراز، المُحترزات في المواضع المتنوعة في القرآن تختلف فوائدها بحسب المقام.

وهنا قالت: وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى على القراءة الأولى: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعْتُ يكون هذا من قبيل الموصول لفظًا المفصول معنى، يعني الكلام متصل كأنه من قول قائل واحد إلا أن هذه الجملة من كلام الله، وما قبلها من كلامها، وما بعدها من كلامها، وهذا كثير في القرآن في بعض المواضع بلا إشكال، يعني: أنه من كلام اثنين، وفي بعض المواضع يحتمل، وفي بعض المواضع بحسب القراءة.

تجد في كلام امرأة العزيز مثلاً الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ [يوسف:51]، فاعترفت بهذا، وأنه صادق، ونحو ذلك، قال الله : ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ [يوسف:52]، هذا يحتمل أنه من كلامها، يعني تقصد زوجها أنها كانت مجرد مراودة، ولم تقع في الفاحشة، ويحتمل أنها تقصد يوسف أنها لا تقول عليه في غيبته كلامًا يبهته، وإنما تقول الحق فيه، والصدق، وهو في السجن، ويحتمل معنى ثالث: أن يكون هذا من كلام يوسف ، وهو اختيار أبي جعفر ابن جرير -رحمه الله-، يعني: أن يوسف طلب فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ [يوسف:50]، يقول: أنا أردت أمرًا ليعلم أني لم أخن، يعني: العزيز، أني لم أخنه بالغيب، هذه التهمة التي تدخلت فيها، وقالت: مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [يوسف:25]، فهذه تهمة أُلصقت به، ثم أُدخل السجن، فأراد أن يُبين عن براءته، فيحتمل هذا.

فلاحظ على القول بأنه من قول يوسف يكون من الموصول لفظًا المفصول معنى، يعني: الذي قبله من كلام امرأة العزيز، ويحتمل على قول بعض المفسرين أنه من كلامها سواء قصدت به يوسف ، أو قصدت زوجها على قول الجمهور، وإن اختلفوا من أرادت ذَلِكَ لِيَعْلَمَ.

على كل حال، فهنا وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى ليس الذكر يعني كالأنثى في النهوض بالأعباء، والمهام، والقيام بمختلف الوظائف، ونحو ذلك، فالذكر أقوى من الأنثى، وأقدر بلا شك، تقول:  وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ أحُصنها مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ رجيم: يعني مرجوم، مطرود من رحمة الله ، مطرود عن الخير على قول الجمهور، ويحتمل -كما ذكرنا- في الاستعاذة أن الرجيم بمعنى الراجم، فعيل بمعنى فاعل، يعني: يرجم الناس بالخواطر السيئة، والوساوس، والشبهات، ونحو ذلك، والإيرادات السيئة.

يؤخذ من هذه الآية الكريمة من الهدايات: فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ لاحظ الخطاب باسم الرب -كما ذكرنا في الليلة الماضية-، وفي مناسبات سابقة بأن هذا أكثر ما جاء في القرآن؛ لأن من معاني الربوبية العطاء والمنع، والقبول والرد، ونحو ذلك، فهي تسأل ربها أن يتقبلها، وأن يحفظها، ونحو هذا؛ لأنها قد نذرتها، رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى لاحظ لفظة الوضع "وضعتها أنثى" الوضع كأن شيء يحمله الإنسان، ثم بعد ذلك وضعه.

الأم أيها الأحبة! تحمل الولد تسعة أشهر، تصور لو قيل لك أحمل هذه الساعة تسعة أشهر، ستعجز، وتتعب من أول ليلة، وتحمل ذلك في أضعف المواضع البطن، وهو معروف برقته، ومراقه، فهي تقوم به، وتقعد، وتنام، وتتقلب في فراشها، ويتقلب في جوفها، ويتحرك، ويثقل يومًا بعد يوم، ويزيدها عبئًا، وتعبًا، وعناء، ويقتات من دمها، وغذائها، وعافيتها، فهي تنقص كل يوم لا تزيد.

ثم بعد ذلك يتكمل، ويصيبها ما يُصيبها من آلام الولادة، ثم بعد ذلك تضع، فإذا وضعت كان ما كان مما يقع للنساء في حال النفاس من الضعف الشديد، ثم بعد ذلك يأخذ بمجامع قلبها، وتشتغل به فلا تنصرف عنه بنظرها، ورعايتها، وتعاهدها لحظة واحدة، تنام بمقلة، وتنظر بالأخرى خوفًا على هذا الولد، حتى يشب، وإذا شب، وقوي ساعده، واشتد فإنها لا تنساه، تزداد همومه، وتكبر معه، فإذا ضاق ضاقت، وإذا حزن حزنت، وإذا رأت منه مظاهر تدل على قلة الاكتراث، أو سوء الرعاية، أو نحو ذلك من الاستطالة، والجفاء آلامها ذلك غاية الإيلام، هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ [الرحمن:60]، فهي معه دائمًا في همومه، وآلامه، ومشكلاته، وأمراضه تمرض، وتحمل مشاعر لا يعرفها الولد، ولا يستشعرها، هنا فَلَمَّا وَضَعَتْهَا تحمل شيئًا تسعة أشهر، ثم تضعه فهذه لها دلالة فيما يتصل بالكُلفة، والمشقة الحاصلة من الحمل.

وكذلك رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى هذا اعتذار، وفيه أن العبد يعتذر إلى ربه -تبارك وتعالى- في أمور قد لا تدخل تحت طاقته، وقدرته، وإمكاناته، ولم يتسبب بها، يقول: يا رب أردت كذا سعيت في كذا، أردت أن تقرب إليك في كذا، عزمت في هذا الموسم على كذا، لكن حيل بيني، وبينه فأنت تسمع وترى، يعتذر إلى ربه، والله يعلم الحال والمُتقلب، ولكن هذه سنة جارية دل عليها القرآن الاعتذار إلى الله فيما يقع من العبد من أمور لا يستطيع معها النهوض بما يُريد على وجه التمام، أو يعجز بالكلية، كأن يمرض، ولا يستطيع الذهاب إلى الجمعة، والجماعة، فيقول يا رب أنت تسمع، وترى حالي، قد حيل بيني، وبين المسجد، ونحو هذا.

كذلك أيضًا رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى هذا على سبيل الاعتذار، فما يكون من هذا القبيل لا يكون إعلامًا لله -تبارك وتعالى- فيما كان خافيًا عليه، فلا إشكال في ذلك.

وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ لاحظ باعتبار أن هذا من كلام الله، يكون فيه هذا الاحتراز الذي ذكرنا بالإضافة إلى معنى زائد، وهو أنه مُشعر بتعظيم لهذا المولود، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فعُبر عنه بهذه الصيغة بِمَا وَضَعَتْ هذا المولود سيكون له شأن عظيم، وسيصل خبره إلى كل سمع، وسيكون من شأنه أمور في المستقبل، فهذه مريم -رحمها الله-، ولدت عيسى المُعجزة، الآية الدالة على قدرة الله ، ونبي من كبار الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- جاءت به هذه المولودة التي كانت أمها معتذرة من أنها أنثى.

فيؤخذ من هذا أيها الأحبة! أن الإنسان لا يدري مهما كان فضله، ومنزلته، وشرفه، واجتهاده في الطاعة، والتقرب إلى الله، الإنسان دونه حجاب الغيب، فلا تحزن، لا تحزن، تأمل كثيرًا في حال يوسف حينما أُخذ كأني أراه، وهم يريدون به شرًا ألقوه في البئر، ورجعوا إلى أبيهم باكين ليستحوذوا على قلب أبيهم، ونظره، ورعايته، واهتمامه بعد أن حجبوا يوسف عنه، ما دروا أنهم يقودونه إلى المجد بهذا العمل الذي أرادوا به إسقاطه، والقضاء عليه، فيذهب إلى المجهول كما يُقال، يعني: قد يُقتل، قد يُسترق، قد يُفعل به أي شيء، هم لا شأن لهم به، المهم أن يغيب، فإن قُتل فهو بغير أيديهم، فهم في الواقع كانوا يقودونه إلى المجد، إلى مجامع المجد، فآتاه الله النبوة، وصار هو العزيز، وجاء هؤلاء في حال من الاضطرار.

ولاحظ هذه القضايا التي احتفت بذلك، يأخذه العزيز إلى قصره، ويتربى في القصر، نعم هو مُسترق، خرج من البئر إلى الرق، ولكن تأتي المراودة؛ لتقوده إلى السجن، يعني من سجن البئر إلى سجن الرق، إلى سجن العزيز، أو سجن الملك، فوضعوه فيه، فقيض الله  الفتيين، وأراهما تلك الرؤية ليعرفوا قدره، ثم بعد ذلك جاءت رؤيا الملك؛ ليتذكر هذا الذي نجى منهما، فتكون هذه الرؤيا هي السبب في خروجه، وبروزه، ومعرفة قدره، بعد متى؟ بعد ماذا؟

بعد ما توقفوا، ورفعوا أيديهم، وقالوا: وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين، سأل الملأ الكبار يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ [يوسف:43]، مُباشرة لو أعطى هذا الساقي الخاتم، وقال: ما تعرف أحد يُعبر قال: إلا في واحد، وسأله، وعبر له لم يكن لها شأن، لكن يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ [يوسف:43]، فأعلنوا إفلاسهم أَضْغَاثُ أَحْلامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلامِ بِعَالِمِينَ [يوسف:44]، على القولين في الآية هل يقصدون وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلامِ بِعَالِمِينَ [يوسف:44]، يعني: لا علم لنا، ولا بصر بتعبير الرؤى أصلاً، أو يقصدون أن هذه الرؤيا هي من قبيل الأضغاث، يحتمل، أَضْغَاثُ أَحْلامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلامِ بِعَالِمِينَ [يوسف:44].

فعندها نطق، وتذكر ذاك، فجاءت هذه الرؤيا؛ لتُبرز، وتقود إلى هذا الوجه الذي خرج منه يوسف من الحبس، وعرفوا قدره، ومُباشرة خرج ليكون هو العزيز اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ [يوسف:55]، بعد ما خُير، وأُطلقت يده، ومُكن.

لاحظ، فلا تحزن لا تدري أين الخير، فقدر الله -تبارك وتعالى- مبني على العلم، والحكمة، ولو كُشف للإنسان عن صفحة الغيب، ونظر لعرف أن الله عليم حكيم وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [البقرة:216]، وعسى -كما هي القاعدة- من الله واجبة، يعني متحققة الوقوع.

فهذا معنى كبير أيها الأحبة! يحتاج إلى تأمل، ونظر أن يستلهم المؤمن منه العِبر، وأن يكون مبنى النظر على ذلك في الحياة، والأقدار، وما يقع عليه، وعلى غيره فيطمئن، وتسكن نفسه، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ تعتذرين منها، هذه المرأة سيكون لها شأن كبير، طبعًا هذه المرأة هي المرأة الوحيدة التي ذُكرت في القرآن باسمها، الفاضلات كثير من أمهات المؤمنين خديجة، عائشة، سائر أمهات المؤمنين، بنات النبي ﷺ، صحابيات، نساء من خيار أهل الإيمان عبر القرون، والأجيال الماضية، لم يُذكر في القرآن اسم امرأة إلا هذه، وتكرر كثيرًا، وإذا ذُكر ابنها عيسى لم يكاد يُذكر إلا منسوبًا إليها، يعني الأنبياء يُذكرون بأسمائهم نوح، وهود، وصالح، وإبراهيم، ولوط، ومحمد، عليهم الصلاة والسلام، بأسمائهم، وَإِذْ قَالَ مُوسَى [البقرة:54] لكن عيسى ابن مريم، تنويهًا بشأنها، وتذكيرًا بالمعجزة من نساء من العالمين.

وفي هذا يؤخذ عبرة، وهي أن المرأة الصالحة: إنما المجد الحقيقي هو فيما اختاره الله لها، انظر ما ذكره الله في سورة الأحزاب مثلاً: يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفًا ۝ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الأحزاب:32-33] هذه الأوصاف الكاملة، فالمرأة يكون كمالها بتقواها، وصلاحها لا بمنافسة الرجال، والترجل، والخروج عن كرامتها، وحشمتها، وأنوثتها، وما إلى ذلك، المرأة تستطيع أن تصل إلى مراتب عالية لكن بماذا؟

أن تسلك الطريق الذي رسمه الله لها، هب أن امرأة حصلت أعلى الشهادات، وتقلدت أكبر الوظائف، ماذا تزن، وتساوي عند هذه المرأة التي ذُكرت في القرآن كثيرًا، وكانت مع ابنها آية للعالمين؟

فنقول للأخوات المؤمنات: الطريق هو تقوى الله ، وطاعته، والإيمان به، والخشية منه، والجد، والاجتهاد في التقرب إليه مع الحياء، والحشمة، والوقار، والقرار، ونحو ذلك. 

فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [آل عمران:36].

كان آخر ما ذكرنا ما يتصل بقوله -تبارك وتعالى-: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ، وعلى القراءة الأخرى المتواترة وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعْتُ، وما لهذه الجملة من دلالات على القراءتين.

يؤخذ من هذه الآية الكريمة على هذه القراءة وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعْتُ،  قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعْتُ فهذه فيه التفات، وعرفنا المراد بالالتفات.

كذلك أيضًا يؤخذ من هذه الآية الكريمة من قوله -تبارك وتعالى- عنها عن قولها: وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى فهذه الآية تُقرر أصلاً في الفرق بين الذكر والأنثى، فالذكر له خصائصه العقلية، والجسدية، والنفسية، والسلوكية التي تقتضي مغايرة الوظائف المنوطة به عن الوظائف المنوطة بالمرأة، فالمرأة لها خصائصها العقلية، والجسدية، والنفسية، ولها قُدراتها العملية، ركبها الله -تبارك وتعالى- تركيبًا يصلح للمهام المنوطة بها.

فلو نظرت إلى الدماغ أول ما تنظر، فإن العلماء في علم التشريح يذكرون: أن تلافيف دماغ الرجل أكثر من التلافيف الموجودة في دماغ المرأة، القضية خلقة، ويقولون: هذه القضية لها ارتباط كبير بالعقل، العقل الوهبي، يعني الذي يكون هبة من الله ، وليس الكسبي الذي يُكتسب بالتجارب، والخبرات، ونحو ذلك، وهكذا أيضًا القدرات على التركيز، واتخاذ القرار، والضبط، ونحو ذلك.

فالمرأة لا تمتلك القدرات التي تكون للرجل، ولذلك كان القِوامة للرجل، وليست للمرأة، لكن في المقابل عند المرأة من قدرة الاحتمال في جوانب تتعلق بها، وتختص بها، وتتفق مع مهامها المنوطة بها ما لا يوجد عند الرجل، الرجل لو بقي بين يديه الرضيع، أو الصغير ساعة، وبكى لم يحتمل، لكن المرأة تحتمله العمر، الولد بعد الولد، وهي في صبر واحتمال، وسعة صدر، وهو يبكي النهار كله، ويقرن ذلك بالليل، الرجل لا يحتمل لربما دقائق معدودة.

وهكذا القيام على شؤون الصغار، ونحو ذلك، هذا مما لا يُطيقه الرجل، ولا صبر له عليه، بخلاف المرأة، فقد ركبها الله تركيبًا خاصًا، وحتى من الناحية الجسدية تجد الرقة في خلقتها، والدقة في مفاصلها، وأعضائها، وأبعاضها، ونحو ذلك ما لا يكون للرجل.

وكذلك أيضًا تجد في تركيبها البدني ما يصلح لحالها، وما يُراد بها، حوض المرأة أوسع من حوض الرجل، لماذا؟

لأنه مستقر الولد الحمل، فخلقها الله هكذا، ولذلك تجد أيضًا أن الله خلق فيها ما يصلح لتربية الصغير بعد خروجه من بطنها، حيث يرضع، وليس ذلك للرجل.

فالذين يريدون أن يسووا بين الرجل، والمرأة يقولون: لا فرق بين الرجل والمرأةن هؤلاء مخالفون للحس، وللفطرة، ومناقضون للعقل، ومضادون للشرع، لا يمكن، وهذا تجده في كل المخلوقات، فإنك بمجرد نظرة تستطيع أن تُفرق بين الفحل من النبات كالنخل والأنثى منه بمجرد نظرة، فالفحل من النخيل تجد أن جذعه في غاية الضخامة، وتجد أن أصول الكرب ضخمة، بينما تجد النخلة الأنثى في حال من دقة الجذع، ودقة أصول الكرب، ونحو ذلك، أصول الكرب أعني أصول العسيب، هذا في نبات.

وقل مثل ذلك في الحيوانات، تستطيع أن تُفرق بمجرد نظرة عابرة بين الفحل من كل أنواع هذه الحيوانات من الإبل، والبقر، والغنم، وحتى ما دون ذلك كالدجاج، والحمام، وأنواع الطيور الصغار، والكبار، هذا أمر مُشاهد، ولا يمكن لأحد أن يُخالفه إلا من انتكست فطرته.

هؤلاء الكفار ممن لا خلاق لهم صاروا يُطلقون على الجنس البشري الجندر اسم يصدق على الذكر والأنثى لئلا يُقال: ذكر، أو أنثى، ليتوصلوا في النهاية إلى المساواة الكاملة، فيجوز للرجل أن يتزوج الرجل، ويجوز للمرأة أن تتزوج المرأة، جندر الكل جندر، فهؤلاء محاربون للفِطر، والعقول، ومناقضون للمحسوس فضلاً عن الدين، والشرائع الربانية التي أنزلها الله -تبارك وتعالى- على رسله قاطبة، فكل ذلك مبناه الحياة من أولها إلى آخرها على هذا التفريق وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى.

وهذه المقولة التي ذكرها القرآن صادرة من امرأة لكنها ذات فِطرة، هذه المرأة التي ذكرها الله في القرآن لم تتدنس فطرتها، بل كانت من كامل الفِطر، ومن أهل الإيمان، والعبودية لله ، وتقدست أسمائه-، وليس لأحد أن يقول: إن هذه مقالة امرأة ذكرها القرآن، وليست بقول الله ابتداء، يقال: هذا ذكره الله، وأقره، والقاعدة أن كل قول أورده الله في القرآن، فإما أن يرد قبله، أو في مضامينه، أو بعده ما يدل على بطلانه، أو يسكت عنه، فالأول واضح أنه باطل، والذي سكت عنه سكوته يدل على أنه حق، هذا في الأعم الأغلب، وهذا كثير.

قد يذكر أشياء، أو شيئين، ويسكت عن أحدها، ويُبطل غيره، سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ فدل على بطلان هذين القولين وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ [الكهف:22]، ما قال: باطل، ولا قال: رجمًا بالغيب، ففُهم منه كما قال: شيخ الإسلام، وغيره أن هذا هو القول الصحيح في عدد أصحاب الكهف[1].

وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ [الأعراف:28]، وسكت عن الآخر وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا دل على أنه صحيح، وأبطل دعواهم أن الله أمرهم بها.

فالمقالات التي في القرآن إما أن يرد قبلها، أو في أثنائها، أو بعدها ما يدل على البطلان فهي باطلة، أو يُسكت عنها فهي صحيحة غالبًا، والقواعد أغلبية.

وهنا كما قال الله : وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ [النساء:32]، إذا كان مجرد تمني المرأة ما للرجل من خصائص، وأوصاف، ونحو ذلك ممنوع، وكذلك الرجل لا يتمنى ما للمرأة، فكيف من يتجاوز مجرد التمني، ويدعي أن المرأة كالرجل سواء؟ كيف من يدعي أنهما سواء، أو يُطالب أن يكون للمرأة ما للرجل تمامًا؟

فهذا غير صحيح، نعم قد تكون المرأة أفضل، وأتقى، وأقرب عند الله -تبارك وتعالى-، وأعلى منزلة في الجنة من كثير من الرجال، هذا لا إشكال فيه، ثواب الأعمال، جزاء الأعمال في الحسنات، والسيئات لا فرق بين رجل وامرأة، الميزان واحد، لكن الكلام في المهام، والوظائف المنوطة بكل واحد منهما من أجل أن تقوم الحياة، فالمرأة تلي الجيل، الحمل، والولادة، وتربية النشء تربية سليمة، صحيحة، لا تُسلم ذلك إلى غيرها من العاملات، ونحوهن، والرجل يذهب، ويكتسب، ويطلب الرزق، وبهذا يحصل التكاتف، والتعاون، وتتضافر الجهود، وتُبنى الأسرة، والمجتمع، والحياة، وإذا قصر أحد الطرفين، أو الشريكين في مهامه، ووظائفه أدى ذلك إلى آثار، وأضرار لا تخفى، وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى.

كذلك أيضًا قدمت هنا الذكر وَلَيْسَ الذَّكَرُ إما باعتبار أنه الأفضل، والأكمل، أو باعتبار ما في نفسها من أنها كانت تُرجي أن يكون المولود ذكرًا؛ ليلي من الأعمال ما لا تليه المرأة، وقد نذرت ما في بطنها أيًا كان، فقالت وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى.

وكذلك أيضًا يؤخذ من هذه الآية الكريمة من قوله -تبارك وتعالى-: وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ يؤخذ منه صحة تسمية المولود من أول يوم، وليس لأحد أن يقول: بأن شرع من قبلنا ليس بشرع لنا إذا جاء في شرعنا ما يُخالفه، وقد جاء عن النبي ﷺ تسمية المولود في اليوم السابع، لكن أيضًا ثبت تسمية المولود في اليوم الأول، فقد جرى ذلك في وقائع في سنة رسول الله ﷺ، حيث كان الصحابة يأتون بمواليدهم إلى النبي ﷺ فيُحنك المولود، ونحو ذلك، ولربما سماه، أو سأل عن اسمه، فكان ذلك يدل على أن التسمية يمكن أن تكون من اليوم الأول، بل لا بأس لو كانت قبل الولادة، لاسيما أن الآن الناس صاروا عبر هذه الأشعة، ونحوها يتعرفون على نوع وجنس المولود، فيعرفون أن هذا الذي سيولد ذكر، أو أنثى، ومن ثَم فيمكن أن يُسمى قبل أن يولد لا مانع من هذا شرعًا، وإن كان الأفضل والأكمل أن يكون في يوم سابعه.

كذلك يؤخذ من هذه الآية وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ أن الأم يمكن أن تُسمي المولود، لا مانع من هذا، لكن شرعًا من الأحق بالتسمية؟ الأب أحق من الأم.

وهذا -كما ذكرنا- من قبل فيما يتصل بأحق الناس بحسن الصحابة، يعني المعاشرة في الحديث من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك، ثلاثًا[2]، فقد يقول: قائل إذا كانت الأم بهذه المثابة، وهي التي حملت، وتعبت، فكيف يكون الأب أحق؟ هو -كما ذكرنا- أن الحديث من أحق الناس بحسن صحابتي[3]، في المعاشرة، لكن من الذي يتخذ القرار؟ الأب، وليست الأم، ومن ذلك التسمية لاسيما أنه يُنسب إلى أبيه، ما يُنسب إلى أمه، فهذا الاسم سيُضاف إلى الأب.

وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ، وهذه يُعبر عنها البلاغيون أنها من قبيل الإطناب، يعني: لا علاقة لذلك -والله أعلم- بمطلوبها الأهم بالنذر، وما حصل لها من المولود الأنثى، فزادت، وقالت: وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ ليكون ذلك أعلق أيضًا بالقبول يختص بهذه التي سُميت بهذا الاسم، ويُقال: إن مريم في لغتهم بمعنى العابدة، فاختارت لها اسمًا مناسبًا يتفق مع الغرض الذي جرى فيه النذر.  

النذر أن تكون مفرغة نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا مُخلصة للعبادة، والطاعة، وخدمة بيت المقدس، فهذه بمعنى العابدة مريم، ودل أيضًا على ما ينبغي من حُسن الاختيار للأسماء، أسماء المولودين، يختار له الاسم المناسب، ولا يختار الأسماء التي تحمل دلالات سيئة، كأن تكون من أسماء الكفار، أو الأسماء الأعجمية مطلقًا، أو ما يكون له من المعاني، والمدلولات ما يقبُح.

وللأسف تجد أن الكثيرين يبحثون عن أسماء غريبة، ونادرة، وإذا سألوا عنها ما معنى هذا الاسم ما يعرفون، وإذا حاول أن يُجيب قال: يُقال: نبات في الصحراء، ولربما اسم للقرد، هذا الواقع، وقد سمعت من هذا أشياء، وفي بعض الأسماء فتشت القواميس والمعاجم، ولم أجد له ذكرًا إطلاقًا، وسألت بعض المُسمين بهذا، ما معنى هذا الاسم الذي سُميت به؟ لا يوجد له معنى في لغة العرب، فهو لا يعرف، وأبوه لا يعرف، سأل أباه فلم يعرف، طيب لماذا يُسمى؟

من أجل الإغراب نبحث عن أسماء غريبة غير متكررة على الألسُن، نبتكرها، نخترعها حتى لو كان ليس لها مدلول، أو كان لها مدلول غير جيد يعني معنى سيء، ونحو ذلك، هذا لا يليق.

كذلك الأسماء غير المستحسنة، بعض الناس يعتقد أن من البر إذا جاءت بنت أن يُسميها على اسم أمه، ويعتقد أن القضية مسابقة بينه وبين امرأته، أنا الذي أسبق، وأسمي على أمي، قد يكون اسم الأم غير مناسب، والبنت في المستقبل تُحرج من هذا الاسم، وتشعر أنه من قبيل العبء، ولربما استثقلت أمه بسبب هذا الاسم الذي يُلاحقها، ولربما يُعيرها المعلمات قبل الطالبات به، أول ما تُسأل حينما تدخل مدرسة، ما اسمك؟ اسمي فلانة، فهمتم، أو لا، ما معنى فلانة؟

في مقابلة الابتدائي، والمتوسط، والثانوي، والجامعة، هذا أول سؤال يوجه إليها، والطالبات لربما يلزمنها بها، ويُعيرنها في كل حين، لا حاجة إلى هذا، وليس هذا من البر، سم بالأسماء الحسنة، والبر أن تُعاشر بمعروف، وأن يكون لهؤلاء الأبوين من صنوف الإحسان المالي، والقولي، والعملي، وليس بتسمية الولد على اسم الأب، أو الأم، ولو كان اسم الأب، أو الأم غير مستحسن.

فالمسألة ليست فرض لإرادة على هذه المسكينة التي لا تستطيع أن تدفع عن نفسها حديثة الولادة، أو هذا الولد حديث الولادة باسم البر، وتحت عنوان البر، لا، من حق الولد أن يُختار له الاسم الصالح، الحسن الذي يحمل دلالة حسنة؛ ليؤثر عليه في الحياة، أما اسم من بيئة لربما هم أنفسهم لا يعرفون معنى الاسم، وقد عفى عليه الدهر هذا الاسم، وانتهى، وانقضى، وكان صالحًا لتلك البيئة، أما اليوم فلم يعد له أي معنى، فهذا خطأ، وظلم لهؤلاء الأطفال، المواليد، وقد تكلمت عن أشياء من هذا في الكلام عن أحكام الطفل، وبقي شطر الموضوع لم أتحدث عنه، لعل الله يُيسر في حين ووقت أن أتحدث عن الجوانب التربوية، المتعلقة بالطفل.

فالحاصل أنها سمتها بهذا الاسم وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ، ثم لم تكتفِ بهذا، بل قالت وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ.

لاحظوا المطلوب المهم بالنسبة إليها، أو الأهم أن تُعيذها بالله، وأيضًا الذرية، وهي قد أنجبت عيسى ، فالشيطان له مُلابسات مع الإنسان، وقد جاء عن النبي ﷺ: ليس مولود إلا يستهل، استهلاله أن يعصر الشيطان بطنه فيصيح، إلا عيسى ابن مريم[4]، وأن ذلك لم يقع لعيسى  استجابة لدعاء هذه المرأة الصالحة، وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ.

وكذلك جاء مؤكدًا في قوله تعالى: وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ، وقبلها إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى لاحظ إِنِّي وَضَعْتُهَا في الماضي أُنْثَى، وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا في الماضي، نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا في الماضي، وَإِنِّي أُعِيذُهَا بالفعل المضارع الذي يدل على الاستمرار، فهذه الاستعاذة تكون مُلازمة.

وقد أرشدنا النبي ﷺ إلى أمر يمكن الخلاص فيه من الشيطان، وهو أن الإنسان إذا أراد أن يُعاشر أهله يقول: اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا، فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره شيطان أبدا[5]، فهذا من الأمور المهمة، ولذلك فإن المعاشرة ليست مجرد قضاء وطر، وإنما لها معاني ودلالات.

وكذلك النكاح في أصله -كما ذكرنا- في بعض المناسبات، كما في الكلام على آيات الصيام في قوله -تبارك وتعالى-: فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [البقرة:187]، وقبل سنوات في رمضان تكلمت عن قوله: وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ فبعضهم يقول: هذا النكاح هذا الوطء تبتغي به ما كتب الله لك من الولد الصالح الذي يدعو لك بعد موتك، ويعبد الله -تبارك وتعالى-، ويُقيم دينه، وشرعه، فلا تكون النية مجرد الاستمتاع، وقضاء الوطر، وذكرت في موضوع الزواج برُمته أن يكون للإنسان فيه نية، والنيات الصالحة في الزواج الاقتداء بالمرسلين، وسُننهم -عليهم الصلاة والسلام-.

وكذلك أيضًا أن يكون ذلك سببًا للعفاف بالنسبة إليه، وبالنسبة لأهله، وكذلك أيضًا أن يكون ذلك سببًا للولد الصالح، وكذلك أيضًا يكون سببًا لإصلاح المجتمع، وتكثير الطُهر، والعفاف فيه، وتكثير الصالحين الذين يعبدون الله ، كل هذه من النيات الصالحة في النكاح في الزواج. 

  1. انظر: مجموع الفتاوى، (13/ 367).
  2. أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب من أحق الناس بحسن الصحبة، برقم (5971)، ومسلم، كتاب البر، والصلة، والآداب، باب بر الوالدين وأنهما أحق به، برقم (2548).
  3. أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب من أحق الناس بحسن الصحبة، برقم (5971)، ومسلم، كتاب البر، والصلة، والآداب، باب بر الوالدين وأنهما أحق به، برقم (2548).
  4. أخرجه الدارمي، كتاب الفرائض، باب ميراث الصبي، برقم (3170)، وقال محققه: إسناده ضعيف رواية سماك عن عكرمة مضطربة، وقال ابن حجز في اتحاف المهرة: موقوف، (7/ 529)، برقم (8390).
  5. أخرجه البخاري، كتاب الدعوات، باب ما يقول إذا أتى أهله، برقم (6388)، ومسلم، كتاب النكاح، باب ما يستحب أن يقوله عند الجماع، برقم (1434).