لما قص الله -تبارك وتعالى- خبر امرأة عمران، وذكر نذرها، ودعاءها، وسؤالها إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [آل عمران:35-36]، بعد ذلك أخبر الله عن قبول هذا النذر فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [آل عمران:37].
فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ استجاب الله دعاءها، وقبل نذرها، فقد قالت: إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي [آل عمران:35].
ومن هنا أيها الأحبة! ينبغي على الإنسان إذا تقرب بعمل صالح أن يُتبع ذلك الدعاء، والسؤال للقبول فَتَقَبَّلْ مِنِّي، والتوسل إليه بالأسماء اللائقة بهذا المقام إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ تسمع دعائي، وتعلم بحالي العليم، فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ، بِقَبُولٍ حَسَنٍ بأحسن قبول، وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا فكان لها من النشأة، والنماء بأنواعه ما يفوق نظائرها.
وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا هيأ الله -تبارك وتعالى- لها زكريا، وهو زوج خالتها على المشهور، فصار كافلاً لها.
وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ [آل عمران:44]، يلقون السهام، القُرعة، يتنافسون كل واحد يقول: أنا أتولى أمرها، فكان السهم لزكريا، لزوج خالتها.
وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ المحراب هو أشرف المواضع، ولكن ليس هذا هو المراد، سُمي بالمحراب؛ لأنه أشرف المواضع في المسجد، يتقدم فيه الإمام، لكن المقصود بالمحراب مكان العبادة، الموضع الذي كانت تتقرب إلى الله فيه، وتمكث فيه للعبادة، فيُقال: المحراب لأشرف المواضع، فسُمي المكان الذي يصلي فيه الإمام بهذا الاعتبار.
كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا، وجد عندها رزقًا غير ما يأتيها به، وإنما هو شيء من فضل الله -تبارك وتعالى- بصرف النظر عن نوعه، وجنسه، بعضهم يقول: يجد فاكهة الصيف في الشتاء مما لا عهد لهم به، ويجد فاكهة الشتاء في الصيف مما لا عهد لهم به، فهو يعجب، ويسألها، وهو كافلها أَنَّى لَكِ هَذَا من أين لك هذا الرزق الطيب؟! قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [آل عمران:37]، بغير عِوض، بغير مقابل، أو بغير عد، يعني: يرزق رزقًا واسعًا، كثيرًا، والعرب يقولون: بأن الشيء إذا كثُر لا يُحصى، ولا يُعد، ولا يحُسب، يقولون: إذا زاد عن أربعين؛ فإنه يكون كثيرًا، فهذا العطاء الكثير يُقال: بغير حساب إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وقد مضى الكلام على نظائره في مناسبات سابقة بِغَيْرِ حِسَابٍ بغير عِوض.
وكذلك أيضًا هو كثير واسع، القليل يُعد دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ [يوسف:20] لكن الكثير يكون حثوًا بلا عد، ولا حسبان.
يؤخذ من هذه الآية الكريمة أيها الأحبة! من الفوائد، والهدايات: سرعة القبول، لاحظ الفاء تدل على التعقيب المُباشر، هي قالت: فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، امرأة تُناجي ربها، وتسأله، ويأتي مُباشرة الجواب: فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ فهذه الفاء تدل على سرعة الإجابة، وتدل على معنى آخر أيضًا، وهو أن ما بعدها مُرتب على ما قبلها، ماذا عملت؟
نذرت، وسألت القبول فَتَقَبَّلْ مِنِّي، ثم اعتذرت لما جاء المولود أنثى مما يدل على صدقها.
وكذلك أيضًا المؤكدات الموجودة في هذا الدعاء، والسؤال، والخطاب لربها وباريها "إني" فهذا للتوكيد إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى، إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا.
وكذلك التوسل إلى الله بهذه الأسماء رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ، رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى، فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، لاحظ هذه الأسماء تتكرر في دعاء قصير.
فيحتاج العبد أيها الأحبة! إلى ضراعة، وتقديم الأسباب للقبول.
فأسباب القبول منها ما ذُكر في هذه الآية، وتضمنته من ذكر التوسل بالأسماء الحسنى، والإخبات، وسؤال القبول لا يكون العبد كالذي يتعاظم، ويُعجب بعمله، نذرت لك كذا، ضمن القبول، لا، فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، وهذا لا يقوله إلا من كان صادقًا مُخلصًا كيف يُشهد الله على ما في قلبه عليم بحالي، وبنيتي وقصدي.
فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ لاحظ دعائها رَبِّ، فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا فالقبول من معاني الربوبية، العطاء، المنع، الإجابة، فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا، ولاحظ أيضًا هنا التعبير بقوله فَتَقَبَّلَهَا ما قال: فقبلها، والقاعدة أن زيادة المبنى لزيادة المعنى، يعني: إذا زاد حرف في الكلمة ففيه معنى زائد، فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ لاحظ هي ماذا قالت؟
قالت فَتَقَبَّلْ ما قالت فاقبل فَتَقَبَّلْ فهذا التقبُل يدل على أن هذا التقبُل مستصحب لها في كل أحوالها فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ في كل طور من أطوارها منذ نذرت، حتى ولدت، حتى شبت، واكتملت، تقبلها الله -تبارك وتعالى-، وهذا القبول مُطلق، فَتَقَبَّلَهَا ما قال: فتقبل عملها مثلاً، وإنما تقبلها بكليتها، بما في ذلك العمل الذي يصدر عنها.
وإذا قبِل الله عبدًا لا تسأل عن حاله، وما يُساق له من الألطاف الربانية، وما يكون فيه من الخيرات، والبركات، ومن ذلك ما ذكره الله -تبارك وتعالى-: كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا إذا قبل الله العبد فإن ذلك يكون في بحبوحة من ألطاف الله في الدنيا تغمره الرحمات، وفي البرزخ، وفي عرصات القيامة، وفي الجنة، ولهذا يسأل الإنسان دائمًا ربه، القبول فإن الله -تبارك وتعالى- إنما يتقبل من المتقين.
فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ، لاحظ تقبلها بقبول، فذكر التقبل، وما فيه من الزيادة في اللفظ، ثم ذكر القبول بِقَبُولٍ حَسَنٍ فجمع بين هذا وهذا؛ ليدل -والله أعلم- على ما ذُكر بعده بِقَبُولٍ حَسَنٍ، القبول قد يكون على شيء من الإغضاء، والإغماض كما قال الله في النفقات التي تكون من قبيل الدون: حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92]، وقال: وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ [البقرة:267]، أمر بالإنفاق مما يُحب الإنسان، ونهى عن قصد الخبيث وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ، ولا تقصدوا، الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ، يعني: لو أعطي لكم، إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ [البقرة:267]، يعني: على إغضاء، وإغماض، أغمض عن كذا غض الطرف عما فيه من النقص، والعيب فيأخذه حياء، ومداراة لكنه لربما يتخلص منه من الناحية الأخرى.
فقد يأخذ الإنسان على إغضاء، ولكن هنا القبول، جاء بهذا القيد، والوصف الكامل بِقَبُولٍ حَسَنٍ، وجاء الوصف هنا بهذه الصيغة مما يدل على كمال هذا القبول "حسن" بِقَبُولٍ حَسَنٍ، وهذا أيضًا فيه التوكيد بالحرف الباء ما قال: فتقبلها ربها قبولاً حسنا، لا، بِقَبُولٍ حَسَنٍ فالباء هذه تدل على توكيد لهذا القبول، بِقَبُولٍ حَسَنٍ فصار هذا الحرف كالآلة للتقبل، فهذا يدل على مزيد عناية بهذا المُتقبل، بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا.
لاحظ هنا التعبير بالإنبات وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا، وهذا الإنبات يشمل الإنبات بنوعيه: نبات وإنبات الجسد فيشب، ويترعرع في مدة قياسية على غير نظائره.
وكذلك الإنبات الآخر إنبات الأرواح بالعلوم، والفهوم، والمعاني، والألطاف الربانية، والأخلاق الكاملة، والأوصاف الحميدة.
وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا فهذا تعبير عن التربية بالإنبات؛ لأن هذه حقيقة التربية التي جاءت في القرآن باسم التزكية، "ويُزكيهم" قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:9]، فلفظ زكى يدل على معنيين في ضمنه:
المعنى الأول: تطهير حتى يكون المحل قابلاً.
والثاني: إنماء هنا أَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا، ولاحظ أنه أضاف ذلك إلى نفسه، ولم يُضفه إلى زكريا مع أنه لا شك من كبار المربين، فالأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- إنما بُعثوا للبلاغ عن الله ، وتزكية النفوس.
يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ [البقرة:129]، فتلاوة الآيات بالبلاغ، والتعليم هذا الفرع الأول؛ التعليم، التحفيظ، الإقراء، يبقى الجانب الثاني: التربية على هذه الآيات التي لقنهم إياها، وعلمهم إياها، فيجتمع لهم هذا وهذا؛ العلم والتربية، فالعلم بلا تربية لا ينفع، فإن العلم إذا صار إلى نفوس فيها ما فيها من الإيحاش والجفاف فإن ذلك لا يتغلغل فيها، ولا يُثمر الثمار الطيبة، بل يصير -كما هو مشاهد- إلى حال غير محمودة، من الإعراض عن آيات الله، وما في مضامينها من الأحكام، والحِكم، والمعاني، والهدايات.
مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا [الجمعة:5]، أسوء، وأقسى، وأشد مثلين في القرآن مضروبة، مثل لأمة: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ [الجمعة:5]، والثاني لفرد لا يُقصد به المُعين، وإن قال: بعضهم بأنه فلان من الناس، ولكنه يصدق على كل من كان بهذه الصفة آتاه الله آياته لكنه لم يقم بها كما يجب فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ [الأعراف:175-176]، فذكر الداعي إلى الانتكاسة، الإخلاد إلى الأرض بكل معانيها، المال، الشهرة، الرئاسة، إلى غير ذلك من المطالب التي قد يوظفها حامل القرآن في غير وجهها.
أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ، وذكر الكلب في أسوء صوره، وحالاته، وهو حينما يُخرج لسانه يُحركه فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ، يعني: تطارده، تدفعه، تزجره يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ، أو تتركه في حاله، وفي سبيله يَلْهَثْ [الأعراف:176]، فهذا في جريه خلف الدنيا، وتهافته عليه صار بهذه المثابة، لكن إذا كان هذا الوحي وهذه التزكية معه فهنا يكون الإنبات حسنا.
أضاف الله ذلك إلى نفسه وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا ما قال: أنبتها زكريا إنباتًا حسنا، فإن المخلوق لا يملك ذلك، هذا لله -تبارك وتعالى- إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص:56]، نوح يقول: لابنه ارْكَب مَّعَنَا [هود:42]، ولكنه أبى، وحملته شقاوته على الهلاك بكل معانيه بالغرق، وبالحرق بالنار، وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ [هود:42]، ما قال: ولا تكن مع المغرقين، غرق يغرق الإنسان، ويكون شهيدًا، الغريق شهيد، ولكن إذا كان مع الكافرين فهذا هو الهلاك المحقق.
فنوح لم يستطع هداية ابنه هداية التوفيق، والنبي ﷺ لم يستطع هداية أبي طالب مع أنه بذل، وقدم ما لم يُقدمه كثير من المسلمين، وإنما ذلك إلى الله، فالمُربي هو كباذر الحبة، فقد تنبت، وقد لا يخرج منها شيء، والناس منابت مثل الأرض، والله هو الذي يُخرج النبات، ويُحيي الأرض بعد موتها.
هذا المُزارع، هذا الباذر عليه أن يبذل السبب، يُلقي البذور، ويتعاهد ذلك بالسقي، ويضع عليها السياج الذي يحميها من المؤثرات الأخرى، ولكن القبول من الله، والهداية من الله، وتجد ابنين، أو بنتين في بيت واحد، من مشغب واحد، في بيئة واحدة، من أبوين، هذه يكون لها أحسن الأحوال في النماء، والإنبات، والزكاء، والقبول، وتلك أبعد ما تكون، تبحث عن الشقاء، وعن أسبابه، وتُلاحقها، وتنفر غاية النفور من الخير، وأسباب النجاة، والسعادة في الدنيا والآخرة، فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا [آل عمران:37].
فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [آل عمران:37].
فقوله -تبارك وتعالى-: وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا فالله أضاف الإنبات الحسن إليه ، فالآباء والمربون إنما يبذلون السبب كباذري الأرض، ولكن الله -تبارك وتعالى- هو وحده الهادي والموفق، فالذي يملك القلوب وهدايتها هو الله وحده، ولكن هذا لا يُعفي الآباء من بذل الأسباب والجد والاجتهاد في تنشئة الصغار على طاعة الله وتقواه، ولا شك أن التنشئة والتربية والتعليم والتوجيه مع الدعاء أن ذلك له أثر لا يخفى، ولكن يبقى توفيق الله وإرادته فوق ذلك، فكما أن الله -تبارك وتعالى- هو الذي يُخرج النبات لكن لابد من البذر والسقي والتعاهد والرعاية لهذا النبات وللأرض التي يُزرع أو يُبذر أو يُغرس فيها، فلو أن الإنسان ترك السبب لم يضع البذر ولم يزرع، أو وضع ذلك وترك السقي وترك حياطته ورعايته فلا يُنتظر بعد ذلك أن يخرج النبات، فلا يقولن قائل: بأن الله هو الذي يُنبت الزرع، ويُخرج الثمار، ولكن هذه أجرى الله عادته وسنته على أن ترتبط بأسباب جعلها الله في هذا الخلق والكون، فلا يصح إلغاؤها وتركها والإعراض عنها ثم بعد ذلك انتظار، ثم الذي لا يتزوج وينتظر الولد، أو لا يزرع وينتظر الثمر، فهذا غير صحيح.
فالإنسان يبذل الأسباب يختار الأم الصالحة ليتزوجها، لا يبحث عن امرأة لهوى توافقه في نفسه من جمال ونحو ذلك مع الإعراض عن الصلاح والتقوى وطيب المنشأ؛ لأن هذه المرأة هي التي ستلي ولده وتقوم على تربيتهم، وكذلك لا ينشغل بدنياه، أو ينشغل بدنيا غيره، أو ينشغل بآخرة غيره ويُعرض عن ولده وأهله، ومن الناس من ينشغل بدنياه وتثمير أمواله، ومن الناس من ينشغل بدنيا غيره ليعمرها، ومن الناس من ينشغل بآخرة غيره في الدعوة والبرامج والتعليم والخروج بالوسائل المختلفة، ويواصل الليل والنهار على هذا الأساس، وبيته مُضيع، فلا بد من بذل الأسباب.
وقوله -تبارك وتعالى-: وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا [الكهف:82] هذه كرامة من الله حصل فيها حفظ هذا المال والكنز لهذين اليتيمين، ولكن ليس بالضرورة أن صلاح الآباء يقتضي صلاح وحفظ الأبناء، فهذا ولد نوح مثال شاهد، والغلام الذي قتله الخضر كان أبواه صالحين، بنص الآية، ولم يكن الولد كذلك: فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا [الكهف:80]، وهنا هذا السبب مُشار إليه بقوله -تبارك وتعالى- في هذه الآية: وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا فالمُربي هنا والقائم على شؤونها هو في غاية الصلاح والصدق والنُصح والعلم مع ما آتاه الله -تبارك وتعالى- من الوحي والنبوة.
فإذا وجد مثل هذا وأكمل الناس فيه الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- فإن القبول من المُعلم والمُربي والداعية ونحو ذلك يتطلب أمورًا مجتمعة، إذا توافرت وحصل معها توفيق الله حصل بسبب ذلك ألوان البر والخير والصلاح والمعروف، فلابد أن يكون هذا المُعلم أو المُربي أو الموجه أو الداعية أو نحو ذلك أن يكون ناصحًا مُخلصًا، فإخلاصه أن يُريد ما عند الله ليس بمُرائي ولذلك قد يكون الإنسان يحمل نية فاسده فإذا سمع الناس كلامه انقبضت قلوبهم لا يُحتمل، مع أن الكلام الذي يقوله قد يكون غاية في الحكمة والعلم والفصاحة ونحو ذلك، فهذا لابد فيه من الإخلاص والصدق فتُقبل القلوب عليه.
الأمر الثاني: وهو النُصح فهذا الإنسان كما قال النبي ﷺ: الدين النصيحة، ما معنى النصيحة؟ أن ينصح سواء كان ذلك بالقول أو بالفعل، فلان ناصح بفعله، بمعنى أنه يبذل جهد ولا يدخر وسعًا ولا يُفرط ولا يُهمل فيبذل المُستطاع في سبيل الإصلاح، المعلمون، المربون، الدعاة إلى الله، الخطباء، بحاجة إلى مثل هذه المقومات الأساسية.
الأمر الثالث: العلم فلا يكون كلامه وتوجيهه بجهل، فإن الجاهل كما قال بعض السلف: "يُفسد أكثر مما يُصلح".
الأمر الرابع: وهو البيان بحيث يُبين عن ما يُريد.
والأمر الخامس: الحكمة؛ وهي أن يضع الأمور في مواضعها، يتحدث في الوقت المناسب للحديث، ويؤجل إلى وقت الإمكان، ويضع الأولويات فيما يطرح، ويُخاطب كل فئة بحسب حالها وما يصلح لها، ويُدرج الناس في العلم والتربية بما تقتضيه الحكمة.
هذه خمسة أمور أساسية، والباقي يتفاضل الناس فيه ويتفاوتون لكن هذه لابد من توافرها، وهي أكمل ما تكون في الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-، بإخلاصهم ونُصحهم، وفي بيانهم وفصاحتهم وعلمهم وحكمتهم، لكن قد يتخلف الأثر؛ لأن الله بعد هذه الهداية هداية الإرشاد التي بُذلت: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى:52]، هذه هداية إرشاد لكن تبقى: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص:56]، فالهداية المنفية عن النبي ﷺ هي هداية التوفيق، هذه التي يملكها الله، فإذا الإنسان بذل وسعه فعند ذلك يكون قد فعل ما يجب عليه، وعندها كما قال الله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة:105]، ضلاله لن يؤثر في مرتبتك عند الله وفي جزاءك، إذا كان الإنسان لم يدخر وسعًا، لكن أن يُفرط ابتداءً من اختيار الأم والتربية والتنشئة، وبعض العامة يقول: المُربي هو الله، هذه عبارة مُجملة، فيترك التربية تذرعًا بذلك.
وكذلك أيضًا لربما يترك هذا الولد في حال وبيئة تعصف به الفتن من كل ناحية ثم يطلب بعد ذلك صلاحه، فهذا يكون قد عرضه للضلال والفتنة والانحراف، وأعجب من هذا كما قال الفرزدق:
دع عنك لومي فإن اللوم إغراءُ |
فداوني بالتي كانت هي الداء. |
أن يكون هذا الولد في حال من التمرد فتجد أن اللجأ في مثل هذه الحالة أحيانًا يكون إلى ما يزيده غيًّا، فلربما تُرك يذهب في بيئة فاسدة مُفسدة بحجة أنه يتعلم المسؤولية، ويعتمد على نفسه ونحو ذلك، هذا خطأ، وسيُسأل الإنسان عن ذلك كله.
فهنا: وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا كرامة من الله -تبارك وتعالى-: كُلَّمَا دَخَلَ تتكرر هذه الكرامة، فهذه الكرامة هي وجود الرزق من غير سبب واكتساب، والله على كل شيء قدير، نعم هذا على خلاف العادة الجارية لكن خرق العادات هذا الذي يُقال له: المعجزات هو في لغة القرآن والسنة، وفي كلام من خوطبوا بالقرآن -السلف الصالح - يُقال لها: الآيات والبراهين.
فهذه براهين على صدق الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-، فخوارق العادات هي من البراهين، وهذه الآيات على نوعين: منها ما يكون خارقًا للعادة، هو الذي اصطلح عليه فيما بعد القرون المفضلة على يد بعض أهل الكلام سُمي بالمُعجزات، ولا مشاحة في الاصطلاح، خوارق العادات، ثم شاع في عُرف الاستعمال عندهم أن ما يجري على يد الأنبياء من الخوارق، يُقال له: معجزات، وما يجري على يدي أتباعهم، يُقال له: كرامات.
والواقع أن الجميع من جنس واحد، وكما قال العلماء كالشاطبي -رحمه الله-: بأن كل آية خارقة يعني لتابع نبي فهي آية للنبي الذي تبعه؛ لأنها إنما ظهرت على يده لاتباعه لهذا النبي فكانت آية للنبي المتبوع.
وهذا يدل أيضًا على وجود هذه الكرامات في الأمم السابقة: كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا وهذه الكرامات وخوارق العادات والمعجزات هي أنواع:
منها: ما يكون من قبيل الخوارق البصرية، فيُبصر أشياء لا يصل إليها الناس، كما حصل للنبي ﷺ رأى في جدار المسجد الجنة والنار.
ومنها: ما يكون خوارق سمعية في السمع، فهذه مثل: النبي ﷺ عندما مر بقبرين فقال: إنهما ليُعذبان، وأخبر أنه لولا الخوف أن يتدافنوا لدعا الله أن يُسمعهم من عذاب القبر، الناس لو سمعوا من عذاب القبر والضرب -نسأل الله العافية- والنكال والصياح والويلات والحسرات في القبور لما ناموا، ولم يهنئوا بطعام ولا شراب ولا عيش.
فهذه خوارق من جهة السمع، وهناك خوارق أخرى قد تتصل بأمور كونية كانشقاق القمر.
وهناك خوارق أخرى من قبيل إيجاد طعام أو شراب أو نحو ذلك من غير سببه، مثل هذا المثال.
وكذلك أيضًا قد يكون بتكثيره، تكثير القليل منه كما وقع للنبي ﷺ، إلى غير ذلك من أنواع الخوارق كالمشي على الماء، ونحو هذا من الإلقاء في النار ولا يحترق حيث تتعطل الأسباب التي أجراها الله من أن النار مُحرقة الآثار.
وكذلك أيضًا مثل: الجري على الماء بطبيعته السيالة الرقيقة فهو لا يتماسك حتى يجري عليه الناس، ومع ذلك إذا أراد الله خرق هذه العادة وغيرها؛ لأنه هو الذي أجراها.
فهنا: كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ والمحراب هو المكان المُخصص للعبادة، وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا وهذا يدل أيضًا قوله كُلَّمَا، "كلما" هذه تدل على التكرار، يدل على حُسن رعايته لها، أنه كان يتردد عليها، يعني: ما جاءها أول مرة، ثم بعد ذلك تركها وشأنها، لا، كان يأتيها في اليوم في أوقات متعددة، فيجد عندها الطعام بكرة وعشيا، كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا، هذا يدل على أن الله -تبارك وتعالى- فعّال لما يُريد، يرزق من يشاء كما يُريد، نعم على الناس أن يبذلوا الأسباب في طلب الرزق ولكن إذا شاء الله جعل ذلك من غير سبب، وقد يجعل الله ذلك بسبب ضعيف لا يؤثر في مجاري العادات: وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ [مريم:25]، "هزي" هذه امرأة ضعيفة، في حال النفاس أضعف ما تكون المرأة عليه، فماذا عسى هذه اليد والساعد الضعيف أن يفعل بأعظم جذع، وأضخم جذع وأغلظ جذع وأخشن جذع، وهو جذع النخلة؟! لو جاء أقوى الرجال يريد أن يُحركه ما استطاع، فهي تُحركه بيده نُفساء امرأة ضعيفة ويتساقط الرُطب.
ألم تعلم أن الله قال لمريمِ |
وهُزي إليك الجذع يتساقط الرُطب |
ولو شاء أن تجنيه من غير هزه |
جنته ولكن كل شيء له سبب. |
فأجرى الله هذه الحياة على هذا النهج والسنة، ولكن إذا شاء خرقها فيأتي الرزق من غير أدنى تسبب، كما وقع لمريم في هذه الحال، وقد يكون بسبب ضعيف لا أثر له، كما في الحال الثانية: وَهُزِّي إِلَيْكِ.
كذلك أيضًا هذا العطاء المُتجدد المُستمر فقد لا يكون هذا العطاء مرة فيكون يُذكر ولا يُعاد ولا يُكرر، لا، كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا، من أين لك هذا الطعام؟ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [آل عمران:37]، إضافة النِعمة إلى المُنعم، وهؤلاء أصحاب عبودية وأصحاب مقامات عالية: هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ما قالت هذه بسبب أحوال وتجليات، ومزاولات، وتصفية، ورياضية للنفس تتذلل معها المطلوبات، أبدًا، مباشرة: قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يعني لا يد لي فيه، ولم تقل: هذه كرامة لي وإنما جاءت بهذا الجواب المُباشر فينبغي على العبد أن يُدرك هذا، فما بالعباد من نعمة فهو من الله لكن الغفلة غالبة، وإلا لو نظر الإنسان في أحواله كلها، لو نظر في مأكله ما يأكل ويُجلب له من أقطار الدنيا، ولم يتعب في زرعه ولا سقيه ويصل إليه، ولو نظر الإنسان في مسكنه وملبسه وأثاثه وفراشه وفي غير ذلك، لا تقل: أنا ما عندي إلا شقة فيها غرفتان أو ثلاث غرف، لا، لا، أنا أعطيك مثالاً أفضل ما يوجد من الحملات في الحج ما توفر لهؤلاء في حال هذا الترف الذي نُشاهده، حملة لربما تصل إلى قريب من عشرين ألف أو أكثر توفر له مقدار فراش واحد، أليس كذلك، ثم -أعزكم الله- إذا احتاج إلى الخلاء يحتاج أن يصطف في طابور -أعزكم الله- في مكان في موضع صغير لا يستطيع أن يفتر أو يتحرك فيه، وإذا أراد أن يضع ثيابه أو يغتسل يجهد ويتعب بحيث لا يصل إليه الماء، ولربما سقطت في غاية الضيق، وفي أحوال تعرفونها من حرارة تفوح لكثرة من يطرقها، والمياه الجارية فيها ونحو ذلك، الآن الإنسان في بيته يذهب متى شاء في مكان واسع، أليس هذا للجميع، لكن الإنسان لا يعرف نعمة الله عليه، يتقلب في غُرف، ينام وحده في غرفة، وهناك أفضل حالاته أنه يجد بقدر فراشه فقط لو تحرك انقلب من الجهة الأخرى ينقلب على من بجانبه، أليس كذلك، هذه نِعم لا نستشعرها، تذهب تغتسل متى شئت في بيتك، تذهب تتقلب في بيتك في أي حجراته شئت، تصور لو أُعطيت هناك هذه الغرفة في مِنى كما يُقدر هذا وكم تساوي؟! ومن الذي يُعطاها؟! هذه التي لربما ترى أنت أنها ليست على قدر المقام، لكن لا نستشعر هذا.
وهكذا في هذا الماء الذي نشربه، أنا رأيت في بعض البلاد التي فيها أنهار يشربون الماء أشبه ما يكون بالطين أحمر، ثم رأيتهم يحملونه من النهر في أساليب بدائية على حمير -أعزكم الله- تنك ويشربونه، لم أستطع أن أغسل فيه يدي ما استطعت، وإذا وقع على ثوبك صبغه، هذا الماء الذي عندهم وقالوا: لا يوجد عندنا غير هذا، ونحن كما ترون، في السابق اقرأوا كلام الشعراء وتغنيهم بالمياه:
شجت بذي شبم من ماء محنية |
صافٍ بأبطح أضحى وهو مشمول. |
يعني: رياح الشمال، صافٍ بأبطح أرض مُنبسطة ماء إذا وجده هذا هو الغاية، الآن نحن نقول: لا، هذا فيه لربما أمراض وبعوض ونحو ذلك، لا يُشرب من هذه المياه، وذاك في السابق كان عندهم غاية الأماني.
في الضحى بارد ورياح من الشمال يهب عليه هذه أمنية عندهم يذكرونه في أشعارهم، ومن منا الآن يبحث عن مثل هذا، النبي ﷺ وهو رسول الله تعرفون في غزواته في تبوك ونحو ذلك حينما ينهى أن يسبقه أحد إلى بئر من أجل أن الماء قليل ليُكثره ﷺ، ويجد رجلين قد سبقاه.
وكذلك في غزوة المُريسيع لما تشاجروا على الماء مولى لعمر ومولى لعبد الله بن أُبي، فمولى عمر يُقال له: الجهجاه سك مولى عبد الله بن أُبي رجل من جُهنية فحصل ما حصل يا للأنصار، وذاك قال يا للمهاجرين على ماء يزدحمون من أجل الكل يريد أن يُسرع ليأخذ مما علا في البئر قبل أن يصير إلى كدر، قبل أن يختلط الماء بالطين ولا يبقى إلا حُثالة.
وقوله: قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ، يرزق من يشاء من عباده بغير عوض، فهو الغني وبغير حساب يرزق الرزق الكثير كما ذكرنا، كما أعطى الله مريم، فإن قوله: كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا، الرزق هنا تنكير يدل على العظيم، وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ، و"إنّ" هنا تفيد التعليل، "إنّ الله"، "لأن الله" وهي تدل على التوكيد، تدل على اعتقاد راسخ، فهذا يوجب الثقة بالله ، إضافة إلى اسمية الجملة: إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ.