هُنَالِكَ من قوله : هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ ظرف يستعمل للزمان، وللمكان، فيمكن أن يكون المعنى هنالك، أي في ذلك الحين دعا ربه بهذا الدعاء، أو يكون للمكان بمعنى في ذلك المكان، وهو قائم عند مريم حينما شاهد فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء دعا ربه بهذا الدعاء، فالآية تحتمل هذا، وهذا.
وقول ابن كثير - رحمه الله -: "لما رأى زكريا أن الله يرزق مريم - عليها السلام - ... الخ": يكون هذا هو المقصود بقوله: هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ أي: لما رأى مظهراً من مظاهر قدرة الله بهذا الإفضال، والإنعام، والرزق دعا هذا الدعاء حيث حرك نفسه، وانبعث فيها التطلع إلى شيء من فضل الله الذي هو بحاجة إليه، وهو الولد دعا حينئذ ربه.
ويحتمل أن يكون أنه حينما رأى قدرة الله حيث رزقت امرأة عمران بهذه البنت، إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [سورة آل عمران:35]، فرأى هذه البنت، وما هي عليه من الصلاح، وحسن الحال، وما أنبتها الله به من الإنبات الحسن، دعا ربه أن يرزقه بالولد.
والأول أقرب - والله تعالى أعلم -؛ لأنه هو المذكور قبله، كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً [سورة آل عمران:37] فلما رأى هذا المظهر من مظاهر قدرة الله - تبارك، وتعالى - دعا ربه أن يرزقه الولد مع تخلف سببه.
يعني هو كما قال الله في سورة مريم: وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا [سورة مريم:8]، والعتي هو الذي بلغ من الكبر غايته، وذلك أن أصل العتي بالنسبة للإنسان الكبير هو ما يحصل له من الجفاف، واليبَس في العظام، والمفاصل، والتقحل في البدن، فالإنسان مثل النبات، أو الشجرة تبدأ صغيرة، ثم بعد ذلك تكتمل، ثم بعد ذلك تبدأ بالضعف، والتقحل، ويؤثر ذلك في ثمرتها، وفي هيئتها، وما إلى ذلك، فهذا هو المراد - والله أعلم - بقوله: وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا [سورة مريم:8]، فالهرم سبب مانع لوجود الولد، وقد كان زكريا كبيراً جداً حتى قيل: إنه بلغ مائة، وعشرين سنة، والأمر الآخر من جهة امرأته، وهو أنها عاقر، والعاقر هي التي لا تلد، وقد بيّن الله أن ذلك لم يكن بسبب كبرها فحسب، كانت كبيرة أيضاً، وإنما كان ذلك وصفاً ملازماً لها منذ شبابها، وذلك لقوله: وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا [سورة مريم:5] فهذا يدل على اتصافها بذلك، وملازمة هذه الصفة لها من أولها، كما تقول: وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا [سورة النساء:96] قال: وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا [سورة مريم:5].
فالحاصل أنه دعا ربه قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً [سورة آل عمران:38] مع تعذر هذا في العادة لا على قدرة الله ، وقد بشر الله إبراهيم ﷺ بالولد، وقد تقادم به العمر، وامرأته كانت أيضاً عقيمة، وكبيرة؛ ولهذا أقبلت في صيحة من هول المفاجأة، وصاحت قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ [سورة هود:72]، وهذا التعجب الذي جاء مفسرا هذا التفسير في قصة إبراهيم ﷺ هو المراد هنا - والله تعالى أعلم - بقول زكريا ﷺ: أَنَّىَ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ [سورة آل عمران:40] فهو يتساءل، ويتعجب؛ لأن ذلك مستبعد بطريق العادة لا سيما مع وجود المانعَين من جهته، ومن جهة امرأته.
وهذا القول أحسن من قول بعضهم: إن هذا التساؤل من زكريا قصد به هل يرزق هذا الولد الذي بشر به من هذه المرأة العاقر، أو من غيرها؛ إذ لا حاجة لهذا القول؛ لأن هؤلاء إنما بنوا قولهم على أمر، وهو أنهم أرادوا يستبعدوا استبعاده، فقالوا: كيف يستبعد الولد، وهو يعلم أن قدرة الله فوق كل شيء، ولكن الصواب أن ذلك كان كما قالت امرأة إبراهيم: أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا، ولهذا قال بعض أهل العلم: إنه قال ذلك استعظاماً لقدرة الله أَنَّىَ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ [سورة آل عمران:40].
وبعضهم يقول: إنه يتساءل يقول: بأي شيء أستوجب هذا الولد، وامرأتي على هذه الحال؟ وعلى كل حال الآية لا إشكال فيها، فإن هذا لم يكن في مجاري العادات فلما بشر به قال ذلك تعجباً مع أنه يعلم أن الله على كل شيء قدير، فأنت حينما تبشر الإنسان بأمر سيحصل له، يتساءل مثل هذا التساؤل، ويتعجب مثل هذا التعجب مع إيقانه به إذا كان واثقاً بالمخبر، كأن لإنسان فقير مثلاً: ستكون زكواتك مثلاً كافية لأهل البلد، أو نحو ذلك، فهو يقول: أنى يكون ذلك، وأنا الآن لا أجد ما أقتات به!! فإذا كان يقول ذلك مستبعداً لوقوعه أصلاً، شاكاً في الخبر فهذا شأن، لكن إذا كان واثقاً من المخبر كأن يخبره نبي مثلاً بهذا، أو نحو ذلك، فإنه لا يقوله استبعاداً على قدرة الله ، فالإنسان يصدر منه مثل هذا، فهو بحسب حاله، ووثوقه بالمخبر.
الذرية هي النسل، وتطلق على الواحد، وعلى الجمع، والمراد به هنا الواحد؛ بدليل قوله في الآية الأخرى: فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ، وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ [سورة مريم:5-6]، فهو سأل واحداً يكون وارثاً له.