الإثنين 14 / ذو القعدة / 1446 - 12 / مايو 2025
هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُۥ ۖ قَالَ رَبِّ هَبْ لِى مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ۖ إِنَّكَ سَمِيعُ ٱلدُّعَآءِ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

"هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ ۝ فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ۝ قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ۝ قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ [سورة آل عمران:38-41] لما رأى زكريا أن الله يرزق مريم - عليها السلام - فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء طمع حينئذ في الولد".

هُنَالِكَ من قوله : هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ ظرف يستعمل للزمان، وللمكان، فيمكن أن يكون المعنى هنالك، أي في ذلك الحين دعا ربه بهذا الدعاء، أو يكون للمكان بمعنى في ذلك المكان، وهو قائم عند مريم حينما شاهد فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء دعا ربه بهذا الدعاء، فالآية تحتمل هذا، وهذا.
وقول ابن كثير - رحمه الله -: "لما رأى زكريا أن الله يرزق مريم - عليها السلام - ... الخ": يكون هذا هو المقصود بقوله: هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ أي: لما رأى مظهراً من مظاهر قدرة الله  بهذا الإفضال، والإنعام، والرزق دعا هذا الدعاء حيث حرك نفسه، وانبعث فيها التطلع إلى شيء من فضل الله الذي هو بحاجة إليه، وهو الولد دعا حينئذ ربه.
ويحتمل أن يكون أنه حينما رأى قدرة الله حيث رزقت امرأة عمران بهذه البنت، إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [سورة آل عمران:35]، فرأى هذه البنت، وما هي عليه من الصلاح، وحسن الحال، وما أنبتها الله به من الإنبات الحسن، دعا ربه أن يرزقه بالولد.
والأول أقرب - والله تعالى أعلم -؛ لأنه هو المذكور قبله، كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً [سورة آل عمران:37] فلما رأى هذا المظهر من مظاهر قدرة الله - تبارك، وتعالى - دعا ربه أن يرزقه الولد مع تخلف سببه.
"طمع حينئذ في الولد، وكان شيخاً كبيراً قد، وهن منه العظم، واشتعل رأسه شيباً، وكانت امرأته مع ذلك كبيرة، وعاقراً، لكنه مع هذا كله سأل ربه، وناداه نداء خفياً".

يعني هو كما قال الله في سورة مريم: وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا [سورة مريم:8]، والعتي هو الذي بلغ من الكبر غايته، وذلك أن أصل العتي بالنسبة للإنسان الكبير هو ما يحصل له من الجفاف، واليبَس في العظام، والمفاصل، والتقحل في البدن، فالإنسان مثل النبات، أو الشجرة تبدأ صغيرة، ثم بعد ذلك تكتمل، ثم بعد ذلك تبدأ بالضعف، والتقحل، ويؤثر ذلك في ثمرتها، وفي هيئتها، وما إلى ذلك، فهذا هو المراد - والله أعلم - بقوله: وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا [سورة مريم:8]، فالهرم سبب مانع لوجود الولد، وقد كان زكريا كبيراً جداً حتى قيل: إنه بلغ مائة، وعشرين سنة، والأمر الآخر من جهة امرأته، وهو أنها عاقر، والعاقر هي التي لا تلد، وقد بيّن الله أن ذلك لم يكن بسبب كبرها فحسب، كانت كبيرة أيضاً، وإنما كان ذلك وصفاً ملازماً لها منذ شبابها، وذلك لقوله: وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا [سورة مريم:5] فهذا يدل على اتصافها بذلك، وملازمة هذه الصفة لها من أولها، كما تقول: وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا [سورة النساء:96] قال: وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا [سورة مريم:5].
فالحاصل أنه دعا ربه قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً [سورة آل عمران:38] مع تعذر هذا في العادة لا على قدرة الله ، وقد بشر الله إبراهيم ﷺ بالولد، وقد تقادم به العمر، وامرأته كانت أيضاً عقيمة، وكبيرة؛ ولهذا أقبلت في صيحة من هول المفاجأة، وصاحت قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ [سورة هود:72]، وهذا التعجب الذي جاء مفسرا هذا التفسير في قصة إبراهيم ﷺ هو المراد هنا - والله تعالى أعلم - بقول زكريا ﷺ: أَنَّىَ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ [سورة آل عمران:40] فهو يتساءل، ويتعجب؛ لأن ذلك مستبعد بطريق العادة لا سيما مع وجود المانعَين من جهته، ومن جهة امرأته.
وهذا القول أحسن من قول بعضهم: إن هذا التساؤل من زكريا قصد به هل يرزق هذا الولد الذي بشر به من هذه المرأة العاقر، أو من غيرها؛ إذ لا حاجة لهذا القول؛ لأن هؤلاء إنما بنوا قولهم على أمر، وهو أنهم أرادوا يستبعدوا استبعاده، فقالوا: كيف يستبعد الولد، وهو يعلم أن قدرة الله فوق كل شيء، ولكن الصواب أن ذلك كان كما قالت امرأة إبراهيم: أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا، ولهذا قال بعض أهل العلم: إنه قال ذلك استعظاماً لقدرة الله أَنَّىَ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ [سورة آل عمران:40].
وبعضهم يقول: إنه يتساءل يقول: بأي شيء أستوجب هذا الولد، وامرأتي على هذه الحال؟ وعلى كل حال الآية لا إشكال فيها، فإن هذا لم يكن في مجاري العادات فلما بشر به قال ذلك تعجباً مع أنه يعلم أن الله على كل شيء قدير، فأنت حينما تبشر الإنسان بأمر سيحصل له، يتساءل مثل هذا التساؤل، ويتعجب مثل هذا التعجب مع إيقانه به إذا كان واثقاً بالمخبر، كأن لإنسان فقير مثلاً: ستكون زكواتك مثلاً كافية لأهل البلد، أو نحو ذلك، فهو يقول: أنى يكون ذلك، وأنا الآن لا أجد ما أقتات به!! فإذا كان يقول ذلك مستبعداً لوقوعه أصلاً، شاكاً في الخبر فهذا شأن، لكن إذا كان واثقاً من المخبر كأن يخبره نبي مثلاً بهذا، أو نحو ذلك، فإنه لا يقوله استبعاداً على قدرة الله ، فالإنسان يصدر منه مثل هذا، فهو بحسب حاله، ووثوقه بالمخبر.
"لكنه مع هذا كله سأل ربه، وناداه نداء خفياً، وقال: رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ: أي من عندك ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً أي: ولداً صالحاً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء [سورة آل عمران:38]".

الذرية هي النسل، وتطلق على الواحد، وعلى الجمع، والمراد به هنا الواحد؛ بدليل قوله في الآية الأخرى: فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ، وَلِيًّا ۝ يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ [سورة مريم:5-6]، فهو سأل واحداً يكون وارثاً له.

مرات الإستماع: 0

"هُنَالِكَ إشارةٌ إلى مكان، وقد يُستعمل في الزمان، وهو الأظهر هنا، أي: لما رأى زكريا كرامة الله - تعالى - لمريم، سأل من الله الولد".

هُنَالِكَ يعني في ذلك الموضع، أو في ذلك الوقت، يعني في ذلك الموضع حينما دخل عليها المحراب، أو هُنَالِكَ في ذلك الوقت الذي رأى فيه هذه الآية، سأل، فأخذ منه بعض أهل العلم السؤال حال رؤية الآيات، والألطاف الربانية، ونحو ذلك، يسأل العبد ربه من فضله، ونحو ذلك.

يقول: "وقد يُستعمل في الزمان، وهو الأظهر هنا" في ذلك الحين، يعني "أي لما رأى زكريا كرامة الله لمريم سأل من الله الولد" يعني في ذلك الوقت، في ذلك الزمان، أو في ذلك المكان الذي هو قائمٌ فيه عند مريم، فهذا يحتمل.

ويمكن أن يكون في ذلك الزمان، والمكان، دعا حينها، فهو في ذلك الموضع، وقاله في ذلك الوقت هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ ووجه الارتباط بين هذا السؤال، وما شاهد: أنه رأى رزقًا من غير سبب، يعني من غير كد، ولا تعب، ولا سعي، ولا جلب، ولا غير ذلك، فلما رأى ذلك سأل ربه الولد، حيث قد انعدمت أسبابه، فهو كبير في السن، وامرأته عاقر، فالله يرزق من يشاء بغير حساب، وقد مضى الكلام على قوله: بِغَيْرِ حِسَابٍ في بعض المناسبات، يعني يعطي عطاءً كثيرًا، أو من غير عوض، ولا مقابل، فهذا وجه الارتباط، يعني أنه سأل الولد لما رأى رزقًا من غير سبب، فسأل ذلك، وقد تلاشت، أو تعذرت في مجاري العادات أسبابه، فلا يوجد من امرأة عاقر فضلًا عن زوجٍ كبير في السن، قد رق عظمه، ووهن، وبلغ من الكبر عتيًا، وذكرنا أن معنى "عتيا" جفاف المفاصل، فإذا تقادم الإنسان العمر، جفت مفاصله، ووهن العظم، وهي رقة العظام، وهشاشة العظام.

مرات الإستماع: 0

لما ذكر الله -تبارك وتعالى- ما جرى لمريم، حيث كان يدخل عليها زكريا المحراب فيجد عندها في كل مرة رزقًا، فيسألها أنى لك هذا؟! فتقول: هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ، فلما رأى ذلك حرك نفسه ودعاه إلى سؤال الله -تبارك وتعالى- الهبة، هبة الولد فهذا الرب الذي له كل شيء، وهو على كل شيء قدير، حيث وهب هذه المرأة هذا الرزق من غير كد ولا جهد ولا عناء ولا تعب ولا سبب، فهو قادر على أن يرزقه الولد فعند ذلك دعا ربه: قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ [آل عمران:38].
رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ، أي: من عندك، ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً صالحة تقية، إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ عظيم السمع تسمع سؤال السائلين، ودعاء الداعين.
يؤخذ من هذه الآية الكريمة من المعاني والهدايات: هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ أخذ منه بعض أهل العلم هذا الموضع إثبات القياس؛ لأن حقيقة القياس هو إلحاق النظير بالنظير، وقياس التمثيل الذي هو قياس الفقهاء هو إلحاق فرع بأصل في حكم، لعلة جامعة بينهما، والأقيسة أنواع هذا واحد منها، لكنه بمعنى إلحاق النظير بالنظير، فهو حينما رأى هذا العطاء والوهب من غير كد، ولا بذل، ولا سبب، فالله -تبارك وتعالى- قادر على أن يهبه الولد، وإن كانت مقدمات ذلك في الطبائع البشرية، ومسببات ذلك في مجاري العادات مُمتنعة، فقد بلغ من الكِبر عتيا، والعتي هو ما يحصل من الجفاف في المفاصل من الكِبر.
وكذلك أيضًا قد وهن العظم منه واشتعل الرأس شيبا، فهذا الوهن الذي يحصل في العظام -هشاشة العظام- هذا مما يحصل للكبار، وتكون القوى قد تلاشت وضعفت، القوى الغريزية التي تتجدد معها خلايا الجسم، فإذا ضعُف وضعُفت هذه القوى فإن ذلك يبدأ بالتلاشي فلا خلايا الجلد تتجدد فتبدأ التجاعيد، ولا خلايا الدماغ تتجدد، فإذا مات شيء منها بدأ الإنسان بالنسيان، وما يُسمى بالخرف أو الزهايمر أو نحو ذلك.
وهكذا في سائر أجزاءه وأبعاضه يضعُف وتضمر الكُلى، ونحو ذلك كما هو معلوم، فوهن العظام اشتعال الرأس لماذا يبيض الرأس إذا تقدم العمر، العلماء قديمًا يُعللون ذلك بضعف القوة الغريزية عند الإنسان فيتحول اللون إلى أبيض، وذلك إشارة إلى ضعف هذا الإنسان هذا المخلوق، وأنه صار إلى حال كما قال الله : وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ [فاطر:37]، فقيل: الرسول، وقيل: الشيب، فهو نذير بقُرب الأجل.
الحاصل أنه سأل ربه مع أن الحال يتعذر معها في مجاري العادات إنجاب الولد هو كبير في السن، وكذلك امرأته على كبر سنها عاقر لا تلد، والعاقر لا تُنجب ولو كانت شابة فكيف مع كبر السن، فاجتمعت هذه الأسباب الثلاثة كبر السن في حق زوجها، وكبر السن بالنسبة إليها، وكذلك العُقم.
لكن الله -تبارك وتعالى- لا يُعجزه شيء، وهو على كل شيء قدير، فالذي خلق آدم من غير أب ولا أم، وخلق حواء من آدم، وخلق عيسى من أم بلا أب، فهذه صنوف ثلاثة وصور وحالات لا شك أنها دالة على كمال القدرة، وخلق باقي الخلق من أبوين، فالذي صرف هذا التصريف في الخلق ونوعه قادر على أن يهبه الولد من غير وجود المحل القابل. 
وقوله: هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ يدل على الاعتبار أن يعتبر الإنسان بكل ما ينتفع به من مسموع ومشاهد، ينتفع بما يرى من آيات الله الكونية والآيات النفسية والآيات المتلوة، فلما رأى هذه الآية وهي أمر خارق للعادة، وجد عندها رزقًا، عند ذلك تطلعت نفسه إلى ألطاف الله وهباته فسأل الولد، فهذه امرأة ليست بنبيه ومع ذلك كان يأتيها هذا الرزق كرامة من الله لها، فأنبياء الله أكرم وأعظم، وزكريا من الأنبياء وهو ممن أُمر النبي ﷺ أن يقتدي بهم كما في سورة الأنعام: وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ ۝ وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلاً فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ ۝ وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الأنعام:85-87]، إلى أن قال:  أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [الأنعام:90]، فذكره في جملة هؤلاء الأنبياء الكرام -عليهم صلوات وسلامه-.
ثم أيضًا: هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ [آل عمران:38]، التوجه إلى الله وذكر هذا الاسم الكريم بالذات الرب دعا ربه؛ لأنه من معاني الرب العطاء والرزق والمنع وما إلى ذلك، فمن سأل الولد فيتوجه إلى ربه الذي يملك النفع والضر والعطاء والمنع والرزق أن يهبه الولد، دعا ربه: قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً فكان أيضًا اسم الرب مكررًا فتوجه بالسؤال بهذا الاسم، وتوسل به، وهو في غاية المناسبة كما ذكرنا في بعض المواضع السابقة، قَالَ رَبِّ هَبْ لِي؛ لأن ذلك مناسب للوهب فإن الوهب من معاني الربوبية التي تضمنها هذا الاسم الكريم: قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً، هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وأضاف ذلك إلى الله ؛ لأنه الذي يملكه وحده من غير لجأ إلى أحد من المخلوقين ليكون سببًا في حصول هذا الولد، يعني: لم يتعاطَ شيئًا من التطبب والذهاب إلى الأطباء والحكماء ونحو ذلك، وإنما: هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً.
ثم التعبير في لفظ الوهب: هَبْ لِي فهذه مواهب من الله الأولاد وهب من الله، من الذي يستطيع أن يقول إن هؤلاء الأولاد جاءوه بجهده وقدراته وإمكاناته وحذقه ونحو ذلك، لا أحد يستطيع كما هو معلوم، يأتي أفحل الرجال وليس له من الولد شيء يكون عقيمًا، فهذه من الله -تبارك وتعالى- مواهب، فإذا كانت مواهب من الله فإن ذلك يوجب الشكر على هذه النعمة، فإن الولد نعمة فيُشكر على ذلك، ولا يُقابل ذلك بالكفران بتضييعهم، أو بصدور أعمال أو تصرفات أو أقوال تُنافي شُكر هذه النعمة، يعني: بعض الناس لربما يُسقط هؤلاء الأولاد، لماذا؟ بزعمه أنه لا يريد الأولاد ولا يُريد العناء.
وبعضهم يُسقطهم خوف الفقر على اعتقاد الجاهلية، أو يكتفي بولد واحد أو بولدين على طريقة وهدي من لا يعرفون الله من الأجانب الكفار، فهذا خلاف ما ينبغي من الاعتقاد الصحيح، والامتثال لقول النبي ﷺ: تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم[1]، والله -تبارك وتعالى- يقول: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ [الإسراء:31]، وفي الأنعام: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ، يعني: من فقر واقع، نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ [الأنعام:151]، فالله تكفل برزق الآباء وبرزق الأولاد، وليس الآباء هم الذين يرزقون أنفسهم فكيف بغيرهم من أولادهم ونحو ذلك؟!
هذا هو اليقين والاعتقاد والإيمان الصحيح، فالله هو الذي يرزق عباده.
وكذلك أيضًا فإن ما يكون خلاف شكران هذه النعمة نعمة الولد: هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ما تسمع من عبارات من بعض الأمهات خاصة، ولربما بعض الآباء: الحضيض الذي ما عنده أولاد، وقد سمعت إحدى النساء في سؤال أرادت أن تسأل وهي تولول، وحاصل كلامها أنها تريد أن تنتحر بسبب طفل واحد صغير لم يجاوز السنتين تقول: إنه شقي أتعبها، هناك من يعيش في حال من الغم؛ لأنه لا يولد له، وهناك من يعيش في حال من الغم؛ لأنه ولد له، والمؤمن يكون على أحوال من الصبر والشكر يتقلب بينها، فهذه النعم تحتاج إلى شكر، ومن شكرها أن يرعى الإنسان هذه النعمة حق رعايتها، فيُربي هؤلاء الأولاد تربية صالحة، سُيسأل عنهم: كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته[2].
وكذلك أيضًا في توجهه إلى الله في هذه الحال يدل على كمال يقينه: هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ؛ لأنه يطلب شيئًا في العادة لا يكون، وليس هذا من الاعتداء في الدعاء؛ لأنه لو كان من الاعتداء في الدعاء ما دعا به، ومعلوم أن من أنواع الاعتداء في الدعاء أن يسأل الإنسان ما هو محال عقلاً أو ممنوع شرعًا، أو ممتنع عادة، مُحال عقلاً مثل أن يطلب أن يكون في مكانين في وقت واحد مثلاً، ومحال شرعًا مثل أن يطلب يسأل دخول الكافر الجنة فهذا حرمه الله على الكافرين، والمحال عادة مثل: أن يطلب الثمر من غير زرع، والولد من غير نكاح، لكن هذا بذل السبب هنا وتزوج ولم يُنجب، فالدعاء ليس من قبيل الاعتداء في مثل هذه الحالة، فالله قادر على أن يُصلح هذه الحال، وأن يُغير حال هذه المرأة فتُنجب، والله على كل شيء قدير.
ويمكن أن يكون ذلك أنه سأل ليكون ذلك من باب المعجزة، والآية فهو نبي من أنبياء الله -تبارك وتعالى-.
ويؤخذ من قوله: رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً الإنسان إذا تعلقت نفسه بشيء أنه يتوجه إلى المالك المعبود، لا أن تتحرك نفسه باتجاه غير صحيح فتثور كوامن الحسد في نفسه على من أعطاهم الله ، فهذه تحسد فلانه؛ لأنها رُزقت بعشرة من الولد، وهي لم تُرزق بهم، وهذا يحسد فلان؛ لأن أولاده جميعًا من الذكور وهو يُزرق بالإناث، وهكذا فيتوجه الإنسان إلى الله.
والحسد للمخلوقين هو اعتراض على قدر الله -تبارك وتعالى-، اعتراض على حكمته وقسمه لهذه الأرزاق، فإذا رأيت شيئًا ونعمة أعطاها الله لأحد من خلقه فتوجه إلى من منحها وأعطاها وأولاها.
قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً هو يريد إحسانًا محضًا ليس باستحقاق، هَبْ لِي فذلك مناسب في مثل هذا المقام.
وهذا القيد حينما سأل الولد: هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً التقييد بالطيبة فهذا لابد منه؛ لأنه ليس الهدف أن يُرزق الإنسان بالأولاد والذرية على أي حال كانوا، وإنما أن يُرزق بالذرية الصالحة الطيبة، وأما الولد من حيث هو فقد يكون سببًا للشقاء، وسببًا للهلاك أحيانًا، إما الهلاك في الدين فيغويه هذا الولد، أو يكون الهلاك في نفسه ودنياه، فكم من أب أو أم كان حتفه على يد ولده.
وسمعتم في رمضان أولئك الأشقياء كيف فعلوا بأبويهم -نسأل الله العافية-، فهؤلاء الآباء -رحمهم الله- لو علموا حينما رزقوا بهؤلاء الأولاد العققة أن حتوفهما ستكون على يد هؤلاء الأولاد ما ظنكم؟! هل تظنون هل تعتقدون أنهم سيفرحون بهم؟!
أبدًا، لن يفرحوا بهم طرفة عين، ولكن لا يعلم الغيب إلا الله -تبارك وتعالى-، فالإنسان قد يُلح ويدعوا بالولد ويحزن لعدم رزقه بالولد، وهو لا يدري أين الخير له، ولذلك يرضى الإنسان بما قسم الله له، وإذا دعا يُقيد هذا الدعاء: هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً، اللهم إني أسألك ولدًا صالحًا، ابنًا صالحًا، ابنة صالحة، وإذا دعا لغيره بذلك أسأل الله أن يرزقك ذرية ما يقول هذا فقط، وإنما ذرية طيبة، كما في قوله -تبارك وتعالى-: وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا [مريم:6].
أما الدعاء المطلق هكذا فغير صحيح؛ لأنه إذا كان رضيًّا تقيا صالحًا فإنه ينفع أبويه في الدنيا والآخرة، وإذا كان فاقدًا للصلاح فهو أعق من حِسل -نسأل الله العافية- لا يجلب لأبويه إلا العناء والشقاء والكبد والفضيحة والحسرات، ومن هنا قال الله -تبارك وتعالى-: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ [التغابن:14]، هذه العداوة كما ذكر بعض أهل العلم كالحافظ ابن القيم -رحمه الله-[3] الجالب لها المحبة والشفقة، يدعونه يحملونه على معصية الله ، ويُقعدونه عن طاعته فيفعلون به فعل عدوه الذي يُقعده عن كل صالحة ويُثبطه عن كل خير، ويقوده إلى كل شر، ويعتذر هذا الأب بأنه من أجل هؤلاء الأولاد فعلنا هذا من أجل هؤلاء الأولاد، ارتكبنا كذا من المخالفات من أجل الأولاد، من أجل الزوجة، ونحو ذلك.
ثم أيضًا في قوله -تبارك وتعالى-: رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً هذه الأوصاف، وبهذه الألفاظ: هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ، إذا كانت الهبة من الله فما ظنكم؟! ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً فهذا ينتظم الصلاح والخير والبر، هذه المعاني تكون مجتمعة فيه، وبهذا يعلم الأبناء والبنات ما لهذه الأوصاف من قيمة في دعاء الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-، فينبغي أن يترسموا ذلك، ويتمثلوا به في واقعهم وحياتهم وأخلاقهم وتعاملهم، البر الحقيقي ليس بأن يُسمي الولد على أبيه، ويُسمي البنت على أمه على أي حال كان، وإن كان هذا قد يكون من البر ويؤجر على نيته، لكن أن يفعل هذا يُسمي ثم يرفع صوته على أبيه أو على أمه أو يتعامل معها بنزغ وزجر وكهر وغِلظة، أو يشمئز منه ومن تصرفاته أو يسأم منه، ومن كثرة طلباته، ونحو هذا فهذا أبعد ما يكون عن البر، ما قيمة أن يُسمى الولد باسم الأب، أو باسم الأم خاصة إذا كانت أسماء كما ذكرنا بالية قد أكل عليها الدهر وشرب، ثم تكون هذه الأسماء تُلاحق هؤلاء الأولاد فتكون شينًا في حقهم، والواقع العملي الذي أمر الله به: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا ۝ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ، أيضًا الدعاء يدل على أصالة في البر وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء:23-24]، وهذا الدعاء أيضًا يُرغمه على تذكر الإحسان السابق حتى لا يظن أنه قد جاء بشيء جديد، لا، كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء:24]، هذا دين يقضي بعضه، هذا البر الحقيقي.
وكذلك: هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ سميع هذه صيغة مبالغة على وزن فعيل، سميع، يعني: عظيم السمع سَمِيعُ الدُّعَاءِ بمعنى يسمع سؤال السائلين وهذا كالتعليل لما قبله، سألتك لأنك سميع الدعاء، فهذا توسل إلى الله بهذه الصفة، وهذا من آداب الدعاء. 

  1. أخرجه أبو داود، كتاب النكاح، باب النهي عن تزويج من لم يلد من النساء، برقم (2050)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (2940).
  2. أخرجه البخاري، كتاب الجمعة، باب الجمعة في القرى والمدن، برقم (893).
  3. انظر: عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين (ص:64).