قوله تعالى: فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ على قراءة حمزة، والكسائي: (فناداه الملائكة)، وكثير من أهل العلم من السلف فمن بعدهم يقولون: إن المقصود بالذي ناداه هو ملك واحد، وهو جبريل - عليه الصلاة، والسلام -، وهو الموكل بالوحي، فيكون بهذا الاعتبار، يكون من العام المراد به الخصوص، كقوله تعالى: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ [سورة آل عمران:173] فالقائل واحد، والمقول له واحد، ولهذا فالأصوليون يذكرون هذه الآية، في جملة الأمثلة التي يذكرونها على العام المراد به الخصوص، حيث يقولون: فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ، أي: جبريل، لكن ليس هذا محل اتفاق؛ لأن من أهل العلم من يقول: إنه محمول على ظاهره، وهو الجمع الحقيقي، أي جمع من الملائكة بشروه، وأخبروه بهذه البشارة.
هذا قاله كثير من السلف غير قتادة أيضاً، ولكن الاسم هذا هل هو اسم عربي، أو اسم أعجمي، أو أنه معرب؟
فإذا قلنا: إنه ليس من الأسماء العربية أصلاً؛ فلا مجال لتفسيره بهذه الطريقة، على أنه من كلام العرب، وعلى كل حال الله سماه يحيى، وأخبر أن هذا الاسم مبتكر، بمعنى أنه ليس له سمي، لم يسمَّ به أحد قبله كما قال تعالى: لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا [سورة مريم:7].
قوله: مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ [سورة آل عمران:39] أي بعيسى بن مريم، هذا التفسير قاله كثير من السلف، وكلمات الله - تبارك، وتعالى - شرعية، وكونية، فعيسى ﷺ إنما وجد، وخلق بكلمة الله الكونية، فالله - تبارك، وتعالى - إذا أراد شيئاً قال له: كن، فأطلقت الكلمة على ما تكوَّن، وخلق بها عيسى، وأطلق عليه كلمة من باب إطلاق السبب على المسبب، أي سمي عيسى كلمة لأنه وجد بسبب الكلمة من غير أب، فالمسبَب عيسى ﷺ، والسبب الكلمة، فلما سمي بذلك، قيل له كلمة، أي صار ذلك من باب إطلاق السبب الذي هو الكلمة على المسبب، يعني الناتج عنها الذي خلق بها، وهو عيسى ﷺ، فقيل: هو كلمة الله ألقاها إلى مريم، فهذا هو المراد.
السلف يفسرون الكلمة ببعض معناها أحياناً، فالسيد مثلاً ليس هو الحكيم فقط؛ إذ قد يكون الإنسان حكيماً، ولا يكون سيداً، لكن السيد لا يكون موصوفاً بالحماقة، والخرق، وسوء التدبير، فإن ذلك ليس من الصفات التي تحصل بها السيادة، وإنما تحصل السيادة باجتماع عدة أوصاف يكون بها الإنسان نبيلاً سيداً يحصل له بها الشرف، وكلما كانت هذه الأوصاف كلما كانت السيادة أكثر، وأوفر، وأعظم، فيسود بذلك قومه، ويكون مقدماً فيهم، ويفوق أقرانه في كل شيء من الخير، فالسيادة هي الشرف في العلم، والعمل، والشرف في العبادة، فكل ذلك داخل فيه - والله أعلم - وتفسيره بالحليم التقي أحسن من تفسيره بالحكيم، فهذا أقرب، وأدخل، وأعلق بمعنى السيادة، والذي لا يحسن التدبير، ولا يضع الأمور في مواضعها، ولا يوقعها في مواقعها فهذا لا يكون سيداً إلا بقيد كأن يقال له: الأحمق المطاع، فبهذا القيد يمكن، أما أن يكون سيداً هكذا بإطلاق، ولا يحسن التدبير فلا.
على كل حال النبي ﷺ قال عن الحسن: إن ابني هذا سيد[1]، فالحاصل أن المقصود بالسيد هو الشريف المقدم، ويكون شريفاً مقدماً بناء على اجتماع عدة أوصاف، فلا يكون السيد بخيلاً، ولا يكون ضيق العطن، وضيق الصدر، ولا يكون سيء التدبير، ولا يكون في غاية الجهل، ونحو ذلك.
هذا كله من اختلاف التنوع، يعني ما نحتاج أن نرجح، فهم يفسرون بما يقرب المعنى بجزئه.
الحصور: أصله من الحصر، وهو الحبس، ومعناه المتبادر هنا، وهو الذي عليه عامة أهل العلم هو الحبس عن النساء، يعني الممتنع من النساء، وهذا الامتناع يحتمل أمرين من جهة سببه:
الأول: ألا يكون له تطلع إلى النساء أصلاً، ولا شهوة، أي ليس له رغبة أصلاً، وقد جاء هذا عن بعض السلف، ولكن هذا فيه بعد، ولا يمدح الإنسان به إطلاقاً، بل هو من النقص، والعيب، وهو لون من العجز كبير، وإنما يكون المدح حينما يكون هذا الانصراف بإرادة، وعزيمة ثابتة راسخة، لا يلتفت معها إلى هذه المقارفة، وهذه المقارفة من أهل العلم من يقيدها بالحرام، يقول: المقصود بالحصور هو الذي يمنع نفسه من مقارفة ما حرم الله مع النساء، ولكنه يتزوج.
ومنهم من يقول: بل هو منقطع للعبادة، وذلك كان جائزاً في شريعتهم، فهو معرض عن النساء لا يشتغل بهن، ولا يتزوج، وإنما فرغ نفسه للعبادة، فهذا المعنى تحتمله الآية، وهي تفسر بهذا - والله تعالى أعلم -، لكن من أي جهة؟ هل هو الانصراف تماماً لا بالتزوج، ولا غيره مع القدرة على إتيان النساء؟ أو يكون المراد بالحصور هو الذي ينصرف عن مقارفة الحرام دون ما أحل الله - تبارك، وتعالى -؟
ليس بلازم أن يكون المراد بالذرية الطيبة أن يكون له نسل، وعقب، فإن الإنسان إذا رزق بالولد كان ذلك ذرية، وعلى هذا يكون دعاءه قد استجيب.
وقوله: وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ [سورة آل عمران:39]، هذه بشارة ثانية بنبوة يحيى بعد البشارة بولادته، وهي أعلى من الأولى، كقوله لأم موسى: إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [سورة القصص:7].
- أخرجه البخاري في كتاب المناقب - باب علامات النبوة في الإسلام (3430) (ج 3 / ص 1328).