الأحد 13 / ذو القعدة / 1446 - 11 / مايو 2025
قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِى غُلَٰمٌ وَقَدْ بَلَغَنِىَ ٱلْكِبَرُ وَٱمْرَأَتِى عَاقِرٌ ۖ قَالَ كَذَٰلِكَ ٱللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

"فلما تحقق زكريا هذه البشارة أخذ يتعجب من وجود الولد منه بعد الكبر، قال: رَبِّ أَنَّىَ يَكُونُ لِي غُلاَم وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ [سورة آل عمران:40] أي الملك: كَذَلِكَ اللّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاء [سورة آل عمران:40] أي: هكذا أمر الله عظيم، لا يعجزه شيء، ولا يتعاظمه أمر".
قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّيَ آيَةً [سورة آل عمران:41] أي: علامة أستدل بها على وجود الولد مني".

ما سبب هذا السؤال: اجْعَل لِّيَ آيَةً ؟ هل قصد بذلك آية على وجود الحمل، وانعقاده، وصحته؟ هذا معنىً قريب، قد قال به جماعة من أهل العلم.
ومن أهل العلم من ذهب بها إلى معنى آخر، قالوا: إنه طلب الآية، وذلك أنه لما سمع نداء الملائكة بصوت، وهو يصلي في المحراب كأنه وقع له شيء من الوسوسة، أراد دفعها فكأنه يقول: اللهم إن كان هذا الصوت هو صوت الملائكة، وهذه البشرى هي بشرى حق منك يا رب فاجعل لي آية تدل على ذلك، فهو لم يكتفِ بالبشارة بمجرد سماع الملائكة، فأراد أن يتحقق أكثر، ويتوثق.
وهؤلاء الذين يقولون بهذا يقولون: إن الآية التي جعلت له فيها نوع عقوبة، أي هي آية مع العقوبة، وذلك بانحباسه عن الكلام من غير علة ثلاثة أيام إلا من التسبيح، والذكر، قال تعالى: آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا [سورة آل عمران:41]، والرمز المقصود به الإشارة بالشفة، وقد يكون بالعين، واليد، وما إلى ذلك، وفي الآية الأخرى يقول سبحانه: ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا [سورة مريم:10]، يعني من غير مرض، ومن غير عله، فهؤلاء قالوا: استجيب دعاؤه فجعلت له آية، وكان فيها نوع عقوبة، وذلك أنه لم يكتف بالبشارة حينما سمع الملائكة تبشره، والمعنى الأول أقرب - والله أعلم -، مع أن هذا المعنى الثاني ذهب إليه بعض الكبار كابن جرير - رحمه الله -.

مرات الإستماع: 0

"أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ تعجبٌ، واستبعادٌ أن يكون له ولدٌ مع شيخوخته، وعقم امرأته، ويُقال: كان له تسعٌ، وتسعون سنة، ولامرأته ثمانٌ، وتسعون سنة، فاستبعد ذلك في العادةِ، مع علمه بقدرة الله تعالى على ذلك".

يدل على هذا أنه هو الذي سأل لما رأى هذه الألطاف تنزل على مريم - رحمها الله - سأل ربه الولد هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ فلو لم يكن يعلم أن الله قادر على هذا لما سأل، وهؤلاء أعلم الناس بالله لكنَّ سؤاله هنا أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ على سبيل الاستعظام، يعني من أي وجه يكون؟ وهو يعلم أن الله على كل شيءٍ قدير، لكن يقول: المحل غير قابل، يعني هذه المرأة الكبيرة العاقر، وهو بهذا السن أيضًا، قد بلغ من الكبر عتياً، ثم يأتيه الولد أَنَّى من أي وجه؟ يعني هل سترجع شابة؟ وإذا رجعت شابة هي عقيم أيضًا، المانع موجود أَنَّى يَكُونُ لِي من أي وجه يكون؟ فقال ذلك على سبيل الاستعظام، وأن ذلك مستبعد في مجاري العادات، لكنه ليس ببعيد على قدرة الله - تبارك، وتعالى -.

"فسأله مع علمه بقدرة الله [- وفي النسخة الخطية: فسأله لعلمه بقدرة الله -] واستبعده؛ لأنه نادرٌ في العادة، وقيل: سأله، وهو شابٌ، وأجيب، وهو شيخ".

لا هذا بعيد، يعني لا حاجة لهذا التكلف من أجل أن يُبرر هذا السؤال أَنَّى يَكُونُ لِي يعني بعد ما وصلت إلى هذا السن، فالجواب هو في مضامين الآية: أنه سأل، وهو شيخ، يعلم قدرة الله لكن يرد على هذا سؤال: هل هذا من الاعتداء في الدعاء مثلًا؟ أن يسأل أمرًا لا يتفق مع مجاري العادات، يعني ما أجراه الله في هذا الخلق، وسنة الله في هذا الخلق، هذا يحتاج إلى خرق عادة، فهل له أن يدعو بذلك؟ يقال: هذا نبي، وهم أعلم الناس بالله فيحتمل أن يكون قصد بذلك المعجزة، وخرق العادة، فلا يكون لغيره من آحاد الناس، ويحتمل أن ذلك يكون سائغًا باعتبار أن الله على كل شيء قدير، فسأل الولد، مع وجود أصل السبب، ما هو أصل السبب؟ التزوج، لكن الذي يكون خارجًا عن العادة فيمن سأل الولد من غير زواج، يدعو ربه أن يرزقه ولداً، ويقول: لا أريد الزواج، ولا يتزوج، فهذا اعتداء في الدعاء، لكن تزوج، ولم يُرزق، وتقدم به العمر، وامرأته عاقر، فهنا أصل السبب وُجد، وهو التزوج، لكن وجد المانع، فسأل ربه أن يرفع ذلك، فلا يكون من هذا القبيل - والله أعلم - وهذا القول بأنه سأل، وهو شاب، وأُجيب، وهو شيخ، لا حاجة إليه، وقد قال الله  في خبره في سورة مريم: وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا [مريم:8] وذكرنا أن العتي: هو اليُبس في المفاصل - والله المستعان - والعظام تكون في حال من الجفاف من شدة الكبر، قال: وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا [مريم:8] فدل على أنها كانت كذلك في شبابها.

والشيخ عبد الرحمن السعدي - رحمه الله - يقول: كأنه في وقت دعائه لم يستحضر هذا المانع لقوة الوارد في قلبه، وشدة الحرص العظيم على الولد[1] يعني أنه بلغ هذا السن، وامرأته عاقر، فدعا لغلبة الحال عليه، كان ذُهل عن هذا المانع، فسأل، فهذا جواب آخر فيما أوردته: هل هذا يكون من قبيل الاعتداء في الدعاء؟ ولهذا تعجب أَنَّى يَكُونُ لِي هو سأل، قال: نعم سأل في حال الذهول عن هذا المانع، وقد لا يُحتاج إلى هذا، سأل، وهو مستحضر له، لكن حينما قال: أَنَّى يَكُونُ على سبيل الاستعظام، ومعرفة من أي وجه يكون ذلك، وليس باستبعاد على قدرة الله - تبارك، وتعالى -.

فالسعدي - رحمه الله - يقول: لما قُبلت دعوته[2] وكان سأل في حال ذهول عن هذا المانع، حصل عنده هذا التعجب، ولا أرى أن هذا من الضرورة أن يُحمل على هذا المحمل: أنه سأل في حال ذهول، فلا يُظن ذلك بمثله - والله أعلم - وإن لم يكن ذلك نقصًا، والقرطبي - رحمه الله - ذكر وجهين في معنى هذا الاستفهام أَنَّى يَكُونُ لِي:

الأول: أنه سأل هل يكون له الولد، وهو، وامرأته على نفس الحال؟ أو يردان إلى حال من يلد؟ يعني يرجع للشباب.

والثاني: أنه سأل هل يُرزق الولد من امرأته العاقر، أو من غيرها؟[3] سترزق ولد، طيب من أين؟ من نفس المرأة هذه؟ هذا يحتمل.وبعضهم يقول: من أي شيءٍ استوجب هذا، وأنا، وامرأتي على هذا الحال؟ وبعضهم يقول: قاله على وجه الاستعظام لقدرة الله لما رأى من الآية في مريم، وليس للاستبعاد، وهذا أقرب - والله أعلم -.

 

"كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ [آل عمران:40] أي: مثل هذه الفعلة العجيبة يفعل الله ما يشاء، فالكاف لتشبيه أفعال الله العجيبةِ بهذه الفعلة، والإشارةُ بذلك إلى هبة الولد لزكريا، واسم الله مرفوعٌ بالابتداء، وكذلك خبره، فيجب وصله معه، وقيل: الخبر - وفي النسخة الخطية: وقيل: إن الخبر يفعل ما يشاء - ويحتمل كذلك على هذا وجهين:

أحدهما: أن يكون في موضع الحال من فاعل يفعل.

والآخر: أن يكون في موضع خبر مبتدأٍ محذوف تقديره الأمر كذلك".

وهذا خلاف الأصل، الأصل عدم التقدير.

"والآخر: أن يكون في موضع خبر مبتدأٍ محذوف تقديره الأمر كذلك، أو أنتما كذلك، وعلى هذا يُوقف على كذلك، والأول أرجح لاتصال الكلام، وارتباط قوله: يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ مع ما قبله؛ ولأن له نظائر كثيرةً في القرآن، منها قوله: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ [هود:102]".
  1. تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص:490).
  2. المصدر السابق.
  3. تفسير القرطبي (4/79).

مرات الإستماع: 0

لما بشر الله -تبارك وتعالى- زكريا بالولد بعد أن دعا ربه ولم يكن على حال يُنجب معها، ولم تكن امرأته كذلك، فلما بُشر قال: قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ [آل عمران:40]، قال متعجبًا فرحًا: أَنَّى يَكُونُ كيف يكون لي غلام؟!

والغلام هو الصغير وهو يُطلق إطلاقات، ومن هذه الإطلاقات أنه يُطلق على من ناهز البلوغ، يعني قارب البلوغ، لو فُسر بهذا فيكون ذلك باعتبار ما يكون، ولكن في بعض إطلاقاته يُقال: لحديث الولادة غلام، الشاهد: أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ صار إلى حال من تقدم العُمر والشيخوخة التي لم تكن مظنة للإنجاب، هذا بالإضافة إلى حال امرأته: وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ وهي العقيم التي لا تلد، قال ربنا -تبارك وتعالى- جوابًا لهذا التساؤل والتعجب بهذه الجملة القصيرة: كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، كذلك الله -تبارك وتعالى- يفعل مثل هذه الأفعال العجيبة التي تكون خارقة للعادة؛ لأن قدرته نافذة، فهو على كل شيء قدير، وقوله -تبارك وتعالى-: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الأنعام:17]، فكل ذلك منه وإليه -جل جلاله، وتقدست أسمائه-.

يؤخذ من هذه الآية الكريمة من الهدايات والمعاني: أن قوله : رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ استعمل اسم الرب هنا وهو في غاية المناسبة؛ لأن هذا التدبير وهذا التصريف وهذا الرزق وهذا عطاء أيضًا لمن لم يكن مظنة لذلك أعني الولد، كل ذلك من معاني الربوبية، فربه يتصرف فيه وفي غيره من أحوال المربوبين، وكذلك فيه معنى التربيب، والتربية بما يُعطيهم ويغذوهم به من النِعم الظاهرة الحسية والنِعم المعنوية.

قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ، يعني: لا تلد من العقر، وهذا يُقال للرجل والمرأة على حد سواء: وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ يُقال: رجل عاقر، وامرأة عاقر، يعني ذات عقر يعني معقورة، هنا هذا بالنسبة لمجاري العادات ممتنع من الجهتين، من جهة الرجل ومن جهة المرأة، لكن ذلك غير مُمتنع على قدرة الله -جل جلاله، وتقدست أسمائه-.

كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، فهذه كلها ممكنة بالنسبة لقدرته الواسعة العظيمة، فالخلق خلقه، ويتصرف فيهم، فهو الذي يجعل من يشاء عقيمًا، وهو الذي يرزق بالأولاد، وهو على كل شيء قدير.

كذلك مثل هذا يوجب امتناع اليأس، وإن كان في ما يبدوا من المعطيات أن الأمل شبه مفقود، سواء كان ذلك في رفع الاعتلال والمرض، أو في الرزق بالولد، أو في التوفيق إلى الخيرات، أو في نزول البركات، أو في الهداية، وتعرفون ونعرف أحوالاً عجيبة فيمن عافهم الله  بعد يأس الأطباء تمامًا، أجمع الأطباء والمراكز التي أُرسلت إليها التقارير، حالات رأيناها يقولون من الناحية الطبية العلمية في القُدر البشرية هذا لا يكون، ولكنه بالنسبة لقدرة الله يكون.

وقبل قليل قبل أن آتيكم كنت عند رجل -عافاه الله- وقع بسبب جلطة، فقال لهم الطبيب: بأن هذه الحالة بالنسبة للنظر والمعطيات الطبية عندهم أن الرجل مُدبر، يعني في أي لحظة توقعوا، وحتى لو أفاق فإنه سيفيق وهو فاقد لأشياء، والرجل جالس -أسأل الله أن يُبارك له ويزيده من فضله- معي في المجلس، وكل هذا في مدة قصيرة.

ورأينا من بقي مدة طويلة إلى حال تكلُس العظام والمفاصل لطول المُكث على السرير، وضمور الدماغ، وجميع من اطلعوا على حالته يقولون لا رجاء في الشفاء ولا أمل، ورأيته في هذا الدرس في هذا المسجد حاضرًا كأحدكم رأيته قبل ذلك ميت بقي خروج الروح فقط، أكثر من سنة وهو على السرير كان رجاء أهله فقط أن يبقى في المستشفى للرعاية يُقلبونه ويُنظفونه فقط؛ لأنه ليس عندهم علاج، وكان يطلبون خروجه؛ لأنهم لا يقدمون له علاجًا، فشافاه الله ، كان يُرقى صباح مساء بالقرآن ويُختم عليه، ورأيته في الدرس وليس به بأس، فالله على كل شيء قدير.

أنتم تعرفون من هذا أشياء وأشياء فلا محل لليأس ولا للقنوط سواء في هذا أو فيما هو أعظم منه من هداية القلوب، فقد يبدوا الإنسان في حال من العتو ولكنه قد ينقلب إلى حال يكون أكثر عطاء منك وأعظم غيرة، وأعظم عبودية، وأكثر بذلاً ونُصحًا ومحبة لدينه هذا شيء مشاهد، فلا ييأس الإنسان من ولد بعيد، أو من أحد من الناس يظن أنه لا جدوى ولا يمكن هدايته، فالقلوب بين أُصبعين من أصابع الرحمن يُقلبها كيف شاء، وانظر إلى سير الصحابة ، وانظر إلى حال بعضهم كيف كان، ثم تحول إلى نصير لدين الله يبذل نفسه ومهجته، بعد أن كان يقود الجيوش لحرب النبي ﷺ، القادة في يوم أحد منهم أبو سفيان أول من حارب المرتدين لقي ذا الخمار مرتدًا كان قد قدم من اليمن إلى المدينة فتوفي النبي ﷺ وهو في الطريق أعني أبا سفيان فلقي ذا الخمار فقتله قبل أن يُقاتل أبو بكر المرتدين، هذا أبو سفيان.

وسهيل بن عمرو العامري هو الذي ثبت قريشًا وقال: أنتم آخر من دخل في الإسلام، حذرهم من الردة بعد وفاة النبي ﷺ، وعكرمة، وخالد بن الوليد، الذين قادوا فلول المشركين يوم أحد بعد أن انهزموا والتفوا على المسلمين وكانت تلك الهزيمة المؤلمة الموجعة التي نزلت الآيات في سورة آل عمران في سياق طويل تُبين أسبابها، وتُخفف عن المسلمين مصابها، هؤلاء أصبحوا قادة، خالد بن الوليد لم يُهزم في معركة قط، أعداءه كانوا يقولون: هو ميمون، يقولون هكذا ميمون الطائر، فلربما ذهب إلى قوم ففروا قبل أن يصل إليهم، يقولون: هذا لا يُهزم، انظر في مدة وجيزة في حروب العراق، وفتوح العراق مدة وجيزة في شهور أكثر من أربعين معركة ما هُزم في واحدة منها، وفي بعض المعارك لم يشتبك القائد قائد الفُرس أو من حالفهم من العرب يُنظم جيشه، ويُعبي الجيش على فرسه، وخالد يطلب من عشرة أن يحموا ظهره ثم ينطلق عليه كالصقر وينتشله من فرسه ويضعه في حجره وينطلق به إلى عسكر المسلمين، بدون معركة والبقية يولون الأدبار، انتهت بدون معركة، هذه بعض مواقف خالد ، مواقفه عجيبة، هذا الذي كان يُحارب النبي ﷺ، كما قال الله : عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الممتحنة:7]، وأحسن ما قيل فيه هو أن يحول قلوب هؤلاء إلى الإيمان كما وقع لأبي سفيان وغيره فدخلوا في الإسلام، فلا تيأس! ولا تقنط من أحد! فالله قادر على هدايته، ولا يتألى أحد على الله ويقول: هذا لا يهتدي، هذا لا يمكن أن يستقيم، لا يمكن أن يتوب، لا يمكن أن يؤمن، لا، ذلك إلى الله.

كذلك أيضًا: أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ يدل على أنه لا بأس أن يوصف الإنسان بصفة فيه لا على سبيل الذم، عاقر، فلا يكون ذلك من قبيل الغيبة.

وكذلك أيضًا في قوله: أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ هذا ليس بتكذيب ولا اعتراض إطلاقًا، فهو أعلم الناس بالله وقدرته، لكن ذكر ذلك على سبيل الاستعظام؛ لأن ذلك ممتنع في مجاري العادات وإلا فهو يعلم أن الله على كل شيء قدير، ولذلك دعا: هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً لو كان يعتقد أن ذلك لا يمكن في قدرة الله لما دعا به؛ لكنه يعلم أن الله قادر عليه، فقال سبيل الاستعظام: أَنَّى يَكُونُ لِي ويتعجب من ذلك، أو يكون يسأل عن كيفية حدوثه، يعني: هل يحصل من هذه المرأة ومنه هو وهما على حالهما؟ أو أن شبابًا يتجدد ليكون ذلك أدعى لإنجاب الولد: أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ، والتعبير بالغلام يحتمل لو حملناه على المحل الآخر أنه الذي ناهز البلوغ أن ذلك من قبيل التفاؤل أنه يعيش كما جاءت البُشرى؛ لأن الله بشره بيحيى وقال: مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا [آل عمران:39]، معناه أنه سيعيش حتى يُصدق بعيسى  والمؤرخون يقولون بينهما ستة أشهر يحيى أكبر من عيسى بستة أشهر، وإن اختلفوا هل قُتل يحيى قبل رفع عيسى أو أنه قُتل بعد رفع عيسى .

فالشاهد أن الله أخبره أن يحيى سيعيش ويُصدق بعيسى ؛ لأن عيسى لم يولد حينها فجاء في البشارة فيكون ذلك باعتبار ما سيأتي، وكذلك أنه يكون سيدًا فسماه هنا بالغلام.

وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ ولم يقل: وقد كبرت، وإنما: بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ كأن الكبر قد تغلغل فيه وتمكن منه فلم يعد له حول ولا قوة، فهو مغلوب ضعيف، وهذا من بلاغة القرآن ودقة مثل هذه الألفاظ، نحن نقرأها ولكن قد لا تُحرك فينا ساكنًا ولا نستشعر هذه المعاني، "بينما تجد أعرابيًا سمع قارئًا يقرأ: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ [الحجر:94] فسجد، فقيل له: لما سجدت؟ قال: سجدت لفصاحته"، فهذا الأعرابي سمع هذه الجملة: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ [الحجر:94] فسجد خضوع مُباشر، "سجدت لفصاحته"[1]، ولعلكم رأيتم مقطعًا تداوله الناس لصبي صغير من بلاد شرق آسيا يقرأ في مسابقة، ولما بلغ آية يذكر الله فيها الآخرة بكى ولم يتمالك، ولم يستطع أن يُكمل قراءته، وجعل يعرك عينيه في حال تُنادي علينا بأمور نسأل الله أن يلطف بنا، قسوة القلوب، وقلة التدبر، طفل أعجمي لا يتمالك حينما يقرأ القرآن.

ولما ذكر أنه بلغه الكبر ذكر إضافة إلى ذلك أن امرأته عاقر، كل ذلك من باب التأكيد لحال الاستعظام والاستبعاد في مجاري العادات. 

  1. التحرير والتنوير (1/ 107).