"اجْعَلْ لِي آيَةً [آل عمران:41] أي: علامةً على حمل المرأة".
اجْعَلْ لِي آيَةً الآية كما سبق هي العلامة، وكما قال ابن جرير - رحمه الله -: إن كان هذا النداء، والصوت صوت الملائكة، وإشارة منك فاجعل لي آية؛ ليزول عني، وسوسة الشيطان هذا الذي ذكره ابن جرير، يعني لماذا طلب الآية؟ علامة، ويمكن أن يُقال: بأنه طلب ذلك ليطمئن قلبه، يعني إذا حصل الحمل؛ لأنه إذا انعقد الحمل برحمها يريد آية يعرف أن الحمل وُجد، ليس عندهم في السابق مثل هذه الأشياء الموجودة الآن، إنما يُعرف الحمل بعد مدة بعلامات، لكن في أول ما ينعقد ما تعلم المرأة بذلك، أما الآن تحاليل الحمل تُخرج هذا، فأراد أن يعرف أن الحمل وجد من باب ليطمئن قلبه.
"آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ أي: علامتك ألا تقدر على كلام الناس، ثلاثة أيام، يمنع بمنع لسانه - وفي النسخة الخطية: يمنع لسانه عن ذلك - مع بقاء الكلام بذكر الله - وفي النسخة الخطية: مع بقاء قدرته على التكلم بذكر الله".
آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ يعني ينحبس لسانه، وليس أنه يصمت باختياره، هذه ليست آية، وإنما الآية ألا يستطيع الكلام، لا يقدر على الكلام ثلاثة أيام، وهو سليم من غير علة، وليس به بأس يمنعه من الكلام، ولكنها آية من الله - تبارك، وتعالى - وهذه آية على ظاهرها، كما قال الله - تبارك، وتعالى - وبعض السلف - واختاره ابن جرير - قال: هي آيةٌ، وعقوبة وهذا غريب، ولا يخلو من إشكال، وبُعد، عقوبة على ماذا؟ وهذا مقام تفضل، وتكريم، وقد ذكره الله، وقص خبره لبيان قدرته - سبحانه، وتعالى - فانحباس الكلام، ليست عقوبة، وكونه طلب الآية هذا ليس بشك، وإنما كان ذلك من باب طلب ما يحصل به طمأنينة النفس - والله أعلم -.
"يُمنع لسانه عن ذلك مع بقاء قدرته على التكلم بذكر الله؛ ولذلك قال: وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا".
ليس الذكر هنا المقصود به بالقلب، هو حُبس لسانه من النطق، إلا بذكر الله؛ لهذا يقال: بأن ذلك يدل على منزلة الذكر، وأهميته، فهذا مقام إظهار آية يعرف بها الحمل، فهو ممنوعٌ من الكلام، لكن ذكر الله لا غنى للمؤمن عنه بحالٍ من الأحوال، فكيف يبقى ثلاثة أيام لا يذكر ربه؟! فاستُثني الذكر، وهذا يدل على أهمية الذكر، ومنزلته، وأنه ينبغي أن يكون هجير الإنسان، ويكثر من الاشتغال به، فلو مُنع أحدٌ من الذكر لكان هذا أولى بالمنع - والله أعلم -. لكنه استُثني.
"وَاذْكُرْ رَبَّكَ قال: وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا إنما حُبس لسانه عن الكلام تلك المدة؛ ليخلص فيها لذكر الله شكرًا على استجابة دعائه، ولا يشغل لسانه بغير الشكر، والذكر".
وقد يُقال غير هذا، يعني حبس لسانه إظهارًا للآية، وليس من أجل التفرغ، وإنما آية كما طلب، وأمره، ووجهه بهذه الحال أن يكثر من ذكر الله كما أمر الله أهل الإيمان يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا [الأحزاب:41] وهنا قال له: وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ [آل عمران:41] فهنا لما ذكر العشي - أعني المفسر - بعضهم يقول: التسبيح يعني الصلاة، العشي من بعد الزوال، فتدخل فيه صلوات الْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ صلاة الفجر، وباقي الصلوات تكون بالعشي، هذا بصرف النظر عن الصلوات المكتوبة عليهم كم كانت، لكن العشي من بعد الزوال، فيدخل فيه الظهر، والعصر، وبعضهم يُدخل فيه ما وراء ذلك، لكن التسبيح في ظاهره المتبادر، وإن كان يقال للصلاة إلا أنه يكون بمعنى التنزيه لله هذا الأصل عند الإطلاق، وهذا يدل على تأكده في هذين الوقتين: العشي، والإبكار، والقاعدة أن العرب قد تذكر طرفي الشيء، وتريد الشمول، والعموم، يعني هذا معنًى آخر، أنه ذكر العشي، والإبكار، والمقصود: وما بينهما وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ [البقرة:115] طيب، وما بينهما؟ فالعرب تذكر الطرفين، وتريد الشمول، والعموم، يعني ليس يكون ذلك فقط في العشي، والإبكار، وإنما في كل حين لا يزال لسانك رطبًا من ذكر الله لكنه يتأكد في هذين الوقتين وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [الكهف:28] لكن على التوجيه الثاني أنهم لا يقتصرون فقط على الغداة، والعشي، وإنما كل وقت، فذكر الطرفين ليشمل سائر الأوقات، يعني أهل طاعة، وعبادة، وتقرب إلى الله في كل حين.
"إِلَّا رَمْزًا إشارةً باليد، أو بالرأس، أو غيرهما، فهو استثناءٌ منقطعٌ".
الاستثناء المنقطع عرفنا أنه يكون المستثنى ليس من جنس المستثنى منه، بمعنى لكن أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا إذا قلنا: إن الاستثناء منقطع "لكن رمزاً" فيفيد هذا في المعنى: أن الرمز ليس من الكلام، فالمستثنى ليس من جنس المستثنى منه، والرمز المقصود به الإشارة، يشير إليهم، مثلًا أشرت هكذا يعني: اجلس، هكذا يعني: قم، ونحو ذلك، فهذا هو الرمز، والرمز يُقال للوحي، يعني بعضهم قال: إِلَّا رَمْزًا أي، وحيًا، والوحي يكون بالإشارة، وغيرها، والكلام المباشر، وغير ذلك، كما قال الشاعر:
أوحى إليها الطرف أني أحبها |
فأثرَّ ذاك الوحي في وجناتها |
أوحى لها الطرف: يعني أشار لها بعينه إشارة معينة، فهمت المراد أنه يحبها، فأثر ذلك في وجناتها الحمرة من الحياء، فالوحي هنا إشارة بعينه، وهكذا إِلَّا رَمْزًا أي، وحيًا، وهكذا قول من قال: إشارة، أو إيماءً، ويكون بتحريك الشفتين باللفظ من غير إبانة صوت، وقد يكون إشارة بالحاجب، أو كما سبق بالعين.
المقصود أنه لا ينطق، ولكنه يشير إليهم بما يفهمون عنه مراده، فهذا إذا قلنا: بأن الاستثناء منقطع يكون الرمز إِلَّا رَمْزًا ليس من الكلام، وإذا قيل: بأن الاستثناء متصل يكون الرمز من الكلام، وهذا معروف في اللغة؛ ولهذا تجد قال بيده هكذا، فأضيف القول إلى اليد بمعنى الإشارة، فهذا صحيح في اللغة، فيُنسب القول إلى الإشارة، أو الفعل، أو نحو ذلك.
"بِالْعَشِيِّ من زوال الشمس إلى غروبها وَالإِبْكَارِ من طلوع الفجر إلى الضحى".
الْعَشِيِّ من زوال الشمس إلى الغروب، هذا الذي اختاره ابن جرير وبعضهم وسَّعه - كما ذكرت، فقالوا: إلى الصبح، يعني يدخل فيه المغرب، والعشاء.
وَالإِبْكَارِ من طلوع الفجر إلى الضحى، هذا قاله ابن جرير - رحمه الله - فـالإِبْكَارِ أول النهار، والغدوة فسرها بعضهم: بأنها من الفجر إلى طلوع الشمس، وبعضهم يفسر الْغَدَاةِ بمثل البكور، يعني أول النهار، يعني هذا الوقت الذي نجلس فيه الآن، فهذا من الإِبْكَارِ هذا وقت البكور؛ ولذلك الأفضل في الذكر أن يكون بعد الفجر، وقبل طلوع الشمس، باعتبار أن الْغَدَاةِ تكون قبل طلوع الشمس، من الفجر إلى طلوع الشمس، والْعَشِيِّ يكون من الزوال، والمساء يكون من الزوال، فلو قال أذكار المساء بعد صلاة الظهر أجزأه؛ لأنه قالها في المساء، لكن الأفضل أن تكون في الآصال، والآصال: جمع أصيل، ويكون ذلك بعد العصر، وقد يُقال لما هو أخص من ذلك يعني بعد انكسار الشمس، يعني اصفرار ذهاب بياض الشمس، وتوهجها - الذي نسميه بالعامية المسيَّان - عندما تصير الشمس صفراء ضعيفة، بعضهم يخص الأصيل بهذا، وبعضهم يقول بعد العصر.
قفت فيها أصيلانًا أسائلها |
وعيَّت جوابًا وما بالربع من أحد. |
لكن لو قيلت أذكار الصباح بعد الفجر، وأذكار المساء بعد العصر، هذا هو الأحسن، ويمكن أن يقولها بعد الظهر، فيجزئه، ولو أخرها بعد المغرب فيكون ذلك في وقتها، لا قضاءً، فكل هذا مساء، وعلى العشي بتوسعته إلى الصبح، فيكون لو قالها أيضًا بعد المغرب، أو بعد العشاء، لكن الأفضل أن يكون بعد العصر، لا سيما أنه يكون أحوج ما يكون إلى هذا.
أولًا: هذان طرفا النهار.
الأمر الثاني: أن النبي ﷺ أخبر عن انتشار الشياطين في وقت المغرب، إلى ذهاب فحمة العشاء، فهو بحاجة إلى تحصين، قد وُجد من تلبس به شيطان، فلما رُقي، وتكلم هذا الشيطان على لسانه ذكر أنه أخَّر الأذكار إلى العاشرة، يقول: إلى العاشرة لم يقل أذكار المساء، ومن عادته أنه يقول ذلك، فيقول: لما تأخر، وجاءت العاشرة، ولم يقل الأذكار تلبست به، عذر قبيح، لكن هؤلاء كما قال شيخ الإسلام: أهل ظلم، وكذب.