الخميس 10 / ذو القعدة / 1446 - 08 / مايو 2025
قَالَ رَبِّ ٱجْعَل لِّىٓ ءَايَةً ۖ قَالَ ءَايَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ ٱلنَّاسَ ثَلَٰثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا ۗ وَٱذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِٱلْعَشِىِّ وَٱلْإِبْكَٰرِ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

"قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا [سورة آل عمران:41] إشارة لا تستطيع النطق، مع أنك سوي صحيح كما في قوله: ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا [سورة مريم:10].
ثم أمر بكثرة الذكر، والشكر، والتسبيح في هذه الحال فقال تعالى: وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ [سورة آل عمران:41]".

قوله: بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ، العشي: يكون من بعد الزوال إلى غروب الشمس، والإبكار يكون من وقت طلوع الفجر إلى الضحى، يعني أول النهار، وهذه هي أوقات الذكر.
وسيأتي طرف آخر في بسط هذا المقام في أول سورة مريم - إن شاء الله تعالى -.

مرات الإستماع: 0

"اجْعَلْ لِي آيَةً [آل عمران:41] أي: علامةً على حمل المرأة".

اجْعَلْ لِي آيَةً الآية كما سبق هي العلامة، وكما قال ابن جرير - رحمه الله -: إن كان هذا النداء، والصوت صوت الملائكة، وإشارة منك فاجعل لي آية؛ ليزول عني، وسوسة الشيطان[1] هذا الذي ذكره ابن جرير، يعني لماذا طلب الآية؟ علامة، ويمكن أن يُقال: بأنه طلب ذلك ليطمئن قلبه، يعني إذا حصل الحمل؛ لأنه إذا انعقد الحمل برحمها يريد آية يعرف أن الحمل وُجد، ليس عندهم في السابق مثل هذه الأشياء الموجودة الآن، إنما يُعرف الحمل بعد مدة بعلامات، لكن في أول ما ينعقد ما تعلم المرأة بذلك، أما الآن تحاليل الحمل تُخرج هذا، فأراد أن يعرف أن الحمل وجد من باب ليطمئن قلبه.

"آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ أي: علامتك ألا تقدر على كلام الناس، ثلاثة أيام، يمنع بمنع لسانه - وفي النسخة الخطية: يمنع لسانه عن ذلك - مع بقاء الكلام بذكر الله - وفي النسخة الخطية: مع بقاء قدرته على التكلم بذكر الله".

آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ يعني ينحبس لسانه، وليس أنه يصمت باختياره، هذه ليست آية، وإنما الآية ألا يستطيع الكلام، لا يقدر على الكلام ثلاثة أيام، وهو سليم من غير علة، وليس به بأس يمنعه من الكلام، ولكنها آية من الله - تبارك، وتعالى - وهذه آية على ظاهرها، كما قال الله - تبارك، وتعالى - وبعض السلف - واختاره ابن جرير - قال: هي آيةٌ، وعقوبة[2] وهذا غريب، ولا يخلو من إشكال، وبُعد، عقوبة على ماذا؟ وهذا مقام تفضل، وتكريم، وقد ذكره الله، وقص خبره لبيان قدرته - سبحانه، وتعالى - فانحباس الكلام، ليست عقوبة، وكونه طلب الآية هذا ليس بشك، وإنما كان ذلك من باب طلب ما يحصل به طمأنينة النفس - والله أعلم -.

"يُمنع لسانه عن ذلك مع بقاء قدرته على التكلم بذكر الله؛ ولذلك قال: وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا".

ليس الذكر هنا المقصود به بالقلب، هو حُبس لسانه من النطق، إلا بذكر الله؛ لهذا يقال: بأن ذلك يدل على منزلة الذكر، وأهميته، فهذا مقام إظهار آية يعرف بها الحمل، فهو ممنوعٌ من الكلام، لكن ذكر الله لا غنى للمؤمن عنه بحالٍ من الأحوال، فكيف يبقى ثلاثة أيام لا يذكر ربه؟! فاستُثني الذكر، وهذا يدل على أهمية الذكر، ومنزلته، وأنه ينبغي أن يكون هجير الإنسان، ويكثر من الاشتغال به، فلو مُنع أحدٌ من الذكر لكان هذا أولى بالمنع - والله أعلم -. لكنه استُثني.

"وَاذْكُرْ رَبَّكَ قال: وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا إنما حُبس لسانه عن الكلام تلك المدة؛ ليخلص فيها لذكر الله شكرًا على استجابة دعائه، ولا يشغل لسانه بغير الشكر، والذكر".

وقد يُقال غير هذا، يعني حبس لسانه إظهارًا للآية، وليس من أجل التفرغ، وإنما آية كما طلب، وأمره، ووجهه بهذه الحال أن يكثر من ذكر الله كما أمر الله أهل الإيمان يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا [الأحزاب:41] وهنا قال له: وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ [آل عمران:41] فهنا لما ذكر العشي - أعني المفسر - بعضهم يقول: التسبيح يعني الصلاة، العشي من بعد الزوال، فتدخل فيه صلوات الْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ صلاة الفجر، وباقي الصلوات تكون بالعشي، هذا بصرف النظر عن الصلوات المكتوبة عليهم كم كانت، لكن العشي من بعد الزوال، فيدخل فيه الظهر، والعصر، وبعضهم يُدخل فيه ما وراء ذلك، لكن التسبيح في ظاهره المتبادر، وإن كان يقال للصلاة إلا أنه يكون بمعنى التنزيه لله هذا الأصل عند الإطلاق، وهذا يدل على تأكده في هذين الوقتين: العشي، والإبكار، والقاعدة أن العرب قد تذكر طرفي الشيء، وتريد الشمول، والعموم، يعني هذا معنًى آخر، أنه ذكر العشي، والإبكار، والمقصود: وما بينهما وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ [البقرة:115] طيب، وما بينهما؟ فالعرب تذكر الطرفين، وتريد الشمول، والعموم، يعني ليس يكون ذلك فقط في العشي، والإبكار، وإنما في كل حين لا يزال لسانك رطبًا من ذكر الله[3] لكنه يتأكد في هذين الوقتين وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [الكهف:28] لكن على التوجيه الثاني أنهم لا يقتصرون فقط على الغداة، والعشي، وإنما كل وقت، فذكر الطرفين ليشمل سائر الأوقات، يعني أهل طاعة، وعبادة، وتقرب إلى الله في كل حين.

"إِلَّا رَمْزًا إشارةً باليد، أو بالرأس، أو غيرهما، فهو استثناءٌ منقطعٌ".

الاستثناء المنقطع عرفنا أنه يكون المستثنى ليس من جنس المستثنى منه، بمعنى لكن أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا إذا قلنا: إن الاستثناء منقطع "لكن رمزاً" فيفيد هذا في المعنى: أن الرمز ليس من الكلام، فالمستثنى ليس من جنس المستثنى منه، والرمز المقصود به الإشارة، يشير إليهم، مثلًا أشرت هكذا يعني: اجلس، هكذا يعني: قم، ونحو ذلك، فهذا هو الرمز، والرمز يُقال للوحي، يعني بعضهم قال: إِلَّا رَمْزًا أي، وحيًا، والوحي يكون بالإشارة، وغيرها، والكلام المباشر، وغير ذلك، كما قال الشاعر:

أوحى إليها الطرف أني أحبها فأثرَّ ذاك الوحي في وجناتها[4]

أوحى لها الطرف: يعني أشار لها بعينه إشارة معينة، فهمت المراد أنه يحبها، فأثر ذلك في وجناتها الحمرة من الحياء، فالوحي هنا إشارة بعينه، وهكذا إِلَّا رَمْزًا أي، وحيًا، وهكذا قول من قال: إشارة، أو إيماءً، ويكون بتحريك الشفتين باللفظ من غير إبانة صوت، وقد يكون إشارة بالحاجب، أو كما سبق بالعين.

المقصود أنه لا ينطق، ولكنه يشير إليهم بما يفهمون عنه مراده، فهذا إذا قلنا: بأن الاستثناء منقطع يكون الرمز إِلَّا رَمْزًا ليس من الكلام، وإذا قيل: بأن الاستثناء متصل يكون الرمز من الكلام، وهذا معروف في اللغة؛ ولهذا تجد قال بيده هكذا، فأضيف القول إلى اليد بمعنى الإشارة، فهذا صحيح في اللغة، فيُنسب القول إلى الإشارة، أو الفعل، أو نحو ذلك.

"بِالْعَشِيِّ من زوال الشمس إلى غروبها وَالإِبْكَارِ من طلوع الفجر إلى الضحى".

الْعَشِيِّ من زوال الشمس إلى الغروب، هذا الذي اختاره ابن جرير[5] وبعضهم وسَّعه - كما ذكرت، فقالوا: إلى الصبح، يعني يدخل فيه المغرب، والعشاء.

وَالإِبْكَارِ من طلوع الفجر إلى الضحى، هذا قاله ابن جرير - رحمه الله -[6] فـالإِبْكَارِ أول النهار، والغدوة فسرها بعضهم: بأنها من الفجر إلى طلوع الشمس، وبعضهم يفسر الْغَدَاةِ بمثل البكور، يعني أول النهار، يعني هذا الوقت الذي نجلس فيه الآن، فهذا من الإِبْكَارِ هذا وقت البكور؛ ولذلك الأفضل في الذكر أن يكون بعد الفجر، وقبل طلوع الشمس، باعتبار أن الْغَدَاةِ تكون قبل طلوع الشمس، من الفجر إلى طلوع الشمس، والْعَشِيِّ يكون من الزوال، والمساء يكون من الزوال، فلو قال أذكار المساء بعد صلاة الظهر أجزأه؛ لأنه قالها في المساء، لكن الأفضل أن تكون في الآصال، والآصال: جمع أصيل، ويكون ذلك بعد العصر، وقد يُقال لما هو أخص من ذلك يعني بعد انكسار الشمس، يعني اصفرار ذهاب بياض الشمس، وتوهجها - الذي نسميه بالعامية المسيَّان - عندما تصير الشمس صفراء ضعيفة، بعضهم يخص الأصيل بهذا، وبعضهم يقول بعد العصر.

قفت فيها أصيلانًا أسائلها وعيَّت جوابًا وما بالربع من أحد[7].

لكن لو قيلت أذكار الصباح بعد الفجر، وأذكار المساء بعد العصر، هذا هو الأحسن، ويمكن أن يقولها بعد الظهر، فيجزئه، ولو أخرها بعد المغرب فيكون ذلك في وقتها، لا قضاءً، فكل هذا مساء، وعلى العشي بتوسعته إلى الصبح، فيكون لو قالها أيضًا بعد المغرب، أو بعد العشاء، لكن الأفضل أن يكون بعد العصر، لا سيما أنه يكون أحوج ما يكون إلى هذا.

أولًا: هذان طرفا النهار.

الأمر الثاني: أن النبي ﷺ أخبر عن انتشار الشياطين في وقت المغرب، إلى ذهاب فحمة العشاء، فهو بحاجة إلى تحصين، قد وُجد من تلبس به شيطان، فلما رُقي، وتكلم هذا الشيطان على لسانه ذكر أنه أخَّر الأذكار إلى العاشرة، يقول: إلى العاشرة لم يقل أذكار المساء، ومن عادته أنه يقول ذلك، فيقول: لما تأخر، وجاءت العاشرة، ولم يقل الأذكار تلبست به، عذر قبيح، لكن هؤلاء كما قال شيخ الإسلام: أهل ظلم، وكذب. 

  1.  تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (5/384).
  2.  المصدر السابق (5/386).
  3. أخرجه الترمذي ت شاكر في أبواب الدعوات، باب ما جاء في فضل الذكر برقم: (3375) وصححه الألباني.
  4.  البيت في بيان المعاني (1/54) غير منسوب لقائل
  5.  تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (20/348).
  6.  المصدر السابق.
  7.  البيت للنابغة الذبياني. انظر: ديوانه (47) وإيضاح شواهد الإيضاح (1/252) وخزانة الأدب، ولب لباب لسان العرب للبغدادي (4/125).

مرات الإستماع: 0

لما بُشر زكريا بالولد وقال: رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ، فأُجيب: كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ [آل عمران:40]، فعندها أراد أن يتعرف على وقوع ذلك وثبوت هذا الحمل بعلامة فارقة يحصل بها الميز فيما بُشر به، فقال: رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ [آل عمران:41].

رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً، أي: علامة استدل بها على وجود الحمل، هذا الحمل المُستبعد في مجاري العادات، الذي هو في غاية الغرابة من أجل أن يُسر بذلك، ويغتبط ويفرح: قَالَ آيَتُكَ، أي: علامتك أنك لا تستطيع التحدث إلى الناس ثلاثة أيام إلا بالإشارة مع أنك صحيح، لا بأس ولا علة فيك، يعني: أنه ينحبس لسانه عن الكلام، لا أنه يمتنع عن الكلام بإرادته؛ بل يكون ذلك ممتنعًا عليه، فلا يستطيع أن يتكلم ثلاثة أيام إلا رمزًا، يعني: إشارة، فهذه المدة أُمر فيها أن يُكثر من ذكر الله -تبارك وتعالى-: وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ [آل عمران:41]، يحتمل أن يكون المراد بالتسبيح هنا الصلاة بالعشي والإبكار، والعشي يكون من بعد زوال الشمس كل ذلك يُقال له: العشي، فيدخل فيه وقت الظهر والعصر، وقد يدخل فيه في العشي باستعمال أوسع ما هو أوسع من ذلك، يعني: بعد المغرب، فالمقصود أن ذلك يحتمل هذا المعنى.

ويحتمل أن يكون المراد بالتسبيح التسبيح بالمعنى المُتبادر الذي هو تنزيه الله -تبارك وتعالى- عن النقائص، كقول: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم، ونحو ذلك، وهذا هو المُتبادر، وبين القولين مُلازمة؛ فإن الصلاة مشتملة على التسبيح في ركوعها وسجودها كما هو معلوم، وكذلك أيضًا في القيام في بعض ما جاء في أدعية الاستفتاح "سبحانك اللهم وبحمدك" في أولها، والصلاة يُقال لها تسبيح، فرض الصلاة ونفلها يُقال له ذلك.

فيؤخذ من هذه الآية الكريمة من الفوائد: قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً هذا يدل على أنه لا بأس أن يطلب الإنسان آية يتعرف بها على أمر تطمئن نفسه بهذه الآية، ويحصل له كمال اليقين، لم يكن شاكًا قط، ولكن وجود الآية هو زيادة في باب اليقين، واليقين يتفاوت فهو على ثلاث درجات: علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين، فهذه ثلاث مراتب كبار، وفي كل مرتبة يحصل أيضًا من التفاوت ما لا يخفى، فقد يتيقن الإنسان بخبر من يثق به مضمون هذا الخبر فإذا جاءه آخر يثق به ازداد اليقين، فإذا جاء ثالث ورابع وعاشر ازداد اليقين.

وهذا أمر معلوم يجده الإنسان من نفسه كالشِبع والري ولا يُحد بحد معلوم، هنا يدل ذلك: قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً أنه كلما زادت الدلائل والبراهين ازداد اليقين، ومن هنا كان أهل العلم أكثر الناس يقينًا، العلم الصحيح الذي يدل على الله -تبارك وتعالى، فهم أعظم الناس يقينًا وأثبت الناس اعتقادًا، وأما من قل بصره وعلمه فإنه يتشكك، ولهذا فإن عامة المسلمين يعني العوام الذين ورثوا الدين من آبائهم أنهم يحصل لهم التشكيك إذا وجد المُشكك والمُلبس، والذي يُثير الشبهات، بينما العالم الراسخ على اسمه راسخ فإنه لا يتحرك ولا يتزعز كالجبل الثابت.

ويؤخذ من هذا أن المرء ينبغي عليه أن يطلب مزيدًا من العلم من أجل أن يقوى يقينه ويتوافر علمه على المطالب الشرعية.

ويؤخذ من قوله -تبارك وتعالى-: قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً [آل عمران:41] أن السؤال يُراعى فيه التوسل بأسماء الله في كل سؤال بما يُناسبه من الأسماء، واسم الرب يتضمن معنى العطاء والمنع ونحو ذلك، فهنا كان عامة دعاء الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- في القرآن "ربي" وقد ذكر هذا المعنى الشاطبي -رحمه الله- في كتابه "الموافقات"[1].

قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا فمجيء الولد في مجاري العادات بالنسبة إليه مُمتنع ومع ذلك وجد مع أن السبب متعذر، وهنا وهو في حال سوية ليس به بأس ولا علة ومع ذلك ينحبس لسانه عن الكلام ثلاثة أيام، يتعطل اللسان من وظيفته الأصلية التي هي الكلام، فهذا يدل على كمال قدرة الله -تبارك وتعالى، فهو قادر على إيجاد ما شاء مع انعدام الأسباب أو ضعفها، كما أنه قادر على انعدام الأشياء مع قيام أسبابها، النار التي أُلقي فيها إبراهيم نار مُحرقة: قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69]، وخرج ليس به بأس، وهكذا.

فهذا يوجب الثقة بالله ، والإقبال عليه، ويفتح باب الأمل والفأل فلا وجود لليأس في قلب المؤمن، انظر إلى حاجات الأنبياء وسؤالات الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- فيما قص الله من خبرهم في سورة الأنبياء مثلاً على تنوع هذه الحاجات، فأيوب حينما دعا: أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الأنبياء:83]، مُباشرة جاءت الإجابة: فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ [الأنبياء:84]، لأن الله هو الذي يملك الشفاء: فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ [الأنبياء:84]، وهذا يونس في بطن الحوت في الظلمات يُنادي: أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87]، بطن الحوت في قعر البحر كيف يجد الهواء ويتنفس؟! لم يمت في بطن الحوت، لم يختنق، وليس في بطن الحوت فقط بل في قعر البحر، فكيف بقي على قيد الحياة وهو في هذه الحياة؟! وكيف وجد عنده الأمل في الخروج؛ لأنه لو لفظه الحوت في قعر البحر يموت ويغرق، فأسباب النجاة معدومة تقريبًا، ومع ذلك جاءت الاستجابة: فَاسْتَجَبْنَا لَهُ [الأنبياء:88] ونجاه الله من الغم، فهنا العلة والمرض أيوب وما أصابه من ضُر، وهنا الكرب في جوف الحوت.

وزكريا : رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا [الأنبياء:89] مع أنه كما سبق الأسباب شبه معدومة، ومع ذلك يأتيه بالولد، فالله على كل شيء قدير، كل ما تطلب، وكل الحاجات، كل الآمال هي عند الله ، والخلق لا يملكون لأنفسهم حتى يملكوا لك شيء، هم لا يملكون لأنفسهم ضرًا ولا نفعا، فكيف تؤمل النفع والدفع من المخلوقين؟! فالله -تبارك وتعالى- إذا شاء منع الأسباب من النفوذ، وإذا شاء أجرى الأمور على خلاف ما تقتضيه الأسباب، وإن شاء أوقع ما شاء من غير سبب، من غير سبب أعني الأسباب التي جعلها الله في مجاري العادات، وأما الله فإنه يفعل لحكمة، وأفعاله مبناها على الحكمة.

أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا فهذا الاستثناء إذا اعتبرناه متصلاً يعني أن المستثنى "رمزا" من جنس المُستثنى منه فيكون الرمز يعني الإشارة يكون من جنس الكلام، فيكون الكلام بالقول وبالإشارة ونحو ذلك، ولهذا نقول مثلاً: قال بيده، وهذا موجود وشواهده كثيرة، نقول: قال بيده، قال: بسيفه، فهذا بالفعل، وإذا اعُتبر الاستثناء من قبيل المنقطع يعني المستثنى ليس من جنس المُستثنى منه، "إلا رمزا" فيؤخذ منه أن الإشارة تقوم مقام العبارة، بل بعض أهل العلم قال: بأن ذلك أبلغ؛ لأن الإنسان قد يُخطأ في العبارة ويُخطأ في الاسم ولكنه حينما يُشير فإن ذلك يكون أدعى، وكما قال صاحب المراقي في معرفة الأشياء والأسماء واللغات:

فبالإشارة وبالتعين كالطفل فهم ذي الخفا والتبينِ[2]

يعني: أنت حينما تُشير إليه إلى هذا تقول له: ساعة مثلاً، أو تريد أن يُحضر لك شيئًا، فتُشير إليه هذا، أو نحو ذلك، فهذا قد يكون أبلغ بحيث لا يُخطأ المُتكلم، أو يسبق لسانه إلى شيء آخر.

وكذلك أيضًا لما بُشر زكريا بالولد وطلب هذه الآية، وأنه لا يتكلم فأخبره الله أنه لا يتكلم ينحبس لسانه عن الكلام: أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا [آل عمران:41]، لكن في الذكر فإن ذلك طُلب منه الإكثار منها إلا الذكر، فهذا يدل على أهمية الذكر، وأنه لا انقطاع، وذكر بعض أهل العلم في تعليل قول: "غفرانك" إذا خرج من الخلاء أن المقصود بذلك التعليل هو أنه ينقطع عن الذكر في هذا الوقت، وانقطاعه بأمر الشارع ومع ذلك هو يشعر بالتقصير، فيقول: غفرانك، فكيف بالذي يقضي الأوقات الطويلة ولسانه مُعطل عن ذكر الله ؟! نجد أننا في أوقات تمضي في ساعات انتظار، وفي الطريق، وفي السيارة، ونحو هذا، وحينما الإنسان يتقلب على فراشه قد تطول مدة هذا التقلب ولا ينام، ويجد أن لسانه قد انعقد عن الذكر.

فالذكر لا يمكن للمؤمن أن يستغني عنه بحال من الأحوال، ثلاثة أيام لا يتكلم إلا الذكر، ليس يذكر فقط بل كثيرًا: وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ [آل عمران:41]، إذا قيل: بأن هذه هي الصلاة وأنها تتضمن التسبيح، فهذا يدل على أن الصلاة هي أهم المهمات مع الذكر، فالآية انحباس اللسان عن الكلام، والذكر من الكلام، ومع ذلك هو مأمور بالإكثار منه، فكيف بمن لم ينحبس لسانه؟! لا غنى لنا بحال من الأحوال عن ذكر الله ، فإذا جف اللسان جف القلب، وإذا جف القلب تسحرت النفس، وكثُرت الواردات عليها من الهموم والوساوس والخواطر السيئة، وتسلط الشيطان، والإغواء، وما إلى ذلك، الذكر هو الحِصن.

ويؤخذ من هذه الآية الكريمة بقوله: وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا لم يرد الأمر بالإكثار من شيء من العبادات، يعني: يرد مقيدًا بالإكثار إلا الذكر، وهذا كثير: وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ [الأحزاب:35]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا [الأحزاب:41]، وذلك أنها عبادة خفيفة على اللسان لا تحتاج إلى هيئة مُعينة، يذكر قائمًا وقاعدًا وعلى جنب بكل حالاته، وثوابها وأثرها عظيم. 

  1. الموافقات (5/ 312).
  2. نشر البنود على مراقي السعود (1/ 110).