الأربعاء 29 / شوّال / 1445 - 08 / مايو 2024
إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَخْفَىٰ عَلَيْهِ شَىْءٌ فِى ٱلْأَرْضِ وَلَا فِى ٱلسَّمَآءِ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

" إِنَّ اللّهَ لاَ يَخْفَىَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء ۝ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [سورة آل عمران:5-6:] يخبر تعالى أنه يعلم غيب السماوات، والأرض، لا يخفى عليه شيء من ذلك.
هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء أي يخلقكم في الأرحام كما يشاء من ذكر، وأنثى، وحسن، وقبيح، وشقي، وسعيد.
لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [سورة آل عمران:6] أي هو الذي خلق، وهو المستحق للإلهية وحده لا شريك له، وله العزة التي لا ترام، والحكمة، والأحكام، وهذه الآية فيها تعريض، بل تصريح بأن عيسى ابن مريم عبد مخلوق، كما خلق الله سائر البشر؛ لأن الله صوره في الرحم، وخلقه كما يشاء، فكيف يكون إلهاً كما زعمته النصارى - عليهم لعائن الله -، وقد تقلب في الأحشاء، وتنقل من حال إلى حال كما قال تعالى: يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ [سورة الزمر:6]".

يعني أن الله حينما توعد من كفر بآياته أخبر بإحاطته، وقدرته على خلقه - سبحانه، وتعالى - فقال: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ [سورة آل عمران:6]، والمقصود بالتصوير في هذه الآية أي نقلهم من طور إلى طور، أي من النطفة إلى العلقة، ثم إلى المضغة، وما إلى ذلك حتى يكتمل هذا الخلق، ومن ذلك جعل هذا المخلوق ذكراً، أو أنثى، وما يحصل لهم من تفاوت في الألوان، وما يحصل لهم من تفاوت في الخلق.
والتصوير يأتي بمعنى التشكيل، وهذه المعاني التي يذكرها بعض السلف كلها داخلة فيه، إذ كل ذلك يفعله الله بهم كما ذكر في الآيات الأخرى، كقوله: يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِن بَعْدِ خَلْقٍ [سورة الزمر:6] فهذا هو التصوير.
وحينما يقول الله : هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ [سورة الحشر:24] يكون الخالق بمعنى المقدر، والبارئ بمعنى الموجد المنشئ من العدم، والمصور بمعنى الذي أعطى كل مخلوق شكله، وصوره بما يليق به، فيكون التصوير بمعنى التشكيل، ويدخل في هذا التشكيل ما يحصل لهم من التخطيط، حيث إنه بعد أن يمر على الجنين واحد، وثمانون يوماً يخطط الجنين أي أنه يرسم، فالعيون تكون عبارة عن نقط، والفم نقطة، وتظهر خطوط الأيدي، والأرجل، وهكذا شيئاً فشيئاً ثم تنفصل هذه الأشياء، ويتشكل بصورة ينتقل معها من طور إلى طور حتى يكون بهذه الهيئة، قال سبحانه: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء [سورة آل عمران:6].

مرات الإستماع: 0

"لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ [آل عمران:5]: خبرٌ عن إحاطة علم الله بجميع الأشياء على التفصيل، وهذه صفةٌ لم تكن لعيسى، ولا لغيره، ففي ذلك ردُّ على النصارى."

هو كما سبق، ينظرون إلى أن السياق في الرد على النصارى، فيحَّملون هذه الجمل، والألفاظ مثل هذه المعاني، لكن إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ هذا كله في تقرير استحقاقه للعبادة، وأنه الواحد الذي يجب أن يُتوجه إليه وحده دون سواه. 

مرات الإستماع: 0

بعد ذلك قال الله -تبارك وتعالى-: إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ [آل عمران:5]، فهذا بمعنى الإحاطة إحاطة العلم بكل صغيرة وكبيرة بهذا الكون في العالم العلوي والعالم السُفلي، ومثل هذا النفي إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ [آل عمران:5]، كما ذكرنا في بعض المناسبات يتضمن ثبوت كمال ضده، قلنا: إن النفي الذي يتوجه في أوصاف الله -تبارك وتعالى-، أو أوصاف النبي ﷺ، أو أوصاف الملائكة، أو القرآن؛ فإنه يقتضي ثبوت كمال ضده، فإذا قال: لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ [البقرة:255] فذلك لكمال حياته وقيوميته يعني فيه إثبات كمال حياته وقيوميته، فإذا نفى الظلم فذلك لكمال عدله، وهنا إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ [آل عمران:5]، لكمال علمه وإحاطته وإلا فالنفي بمجرده لا يكون مدحًا كما هو معلوم، فإذا جاء في أوصاف الله أو ما ذكرت فإنه يكون متضمنًا لثبوت كمال ضده.

إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ [آل عمران:5]، وهذا فيه أيضًا حافز للنفوس على الامتثال والإيمان والقبول والإذعان فلا يخفى عليه ما تُكنه الصدور، وما يصدر عن الخلق من الإيمان والكفر والأعمال الصالحة والأعمال السيئة، الله لا يخفى عليه شيء: يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر:19]، "خائنة الأعين" مُسارقة النظر إلى ما لا يحل، قد يخفى على الناس، ولكنه لا يخفى على الله -تبارك وتعالى-.

وكذلك ما يُكنه الإنسان في صدره من المقاصد الصحيحة والنيات الصالحة، وما يكون أيضًا من المقاصد الفاسدة كالرياء والسمعة والإشراك بأنواعه، وكذلك أيضًا ما يتعلق بمحبة الله ومحبة الخلق، وكذلك الخوف والرجاء والتوكل، لا يخفى عليه شيء من ذلك، ومثل هذا يُربي المراقبة لله تعالى، وهو أحوج ما نكون إليه في مثل هذه الأوقات أن يُراقب الإنسان ربه، وهذا من أجل الأعمال القلبية، وهو ارتقاء إلى مرتبة الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك[1].

هذه المراقبة نحن بحاجة إليها؛ لأن الشر والفتنة والحرام أصبح أقرب في هذا الوقت، وهذه الوسائل إلى الواحد منا من اليد للفم، في غاية القرب وهو جالس لربما في المسجد يفتح هذا الجهاز وينظر إلى ما حرم الله -تبارك وتعالى-، الصغير والكبير، الفتيات والشباب، الكبار النساء، الرجال الشيوخ، ولربما يصل إليه ابتلاء من غير طلب لينظر الله -تبارك وتعالى- في حال العبد وتقواه ومراقبته وخوفه منه، فالنفوس قد تتطلع إلى شيء من ذلك من باب الفضول، أو ما جُبلت عليه من الشهوات، والشيطان يُزينها؛ ولكنه يبقى الإيمان الرادع والخوف من الله ومراقبته أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى [العلق:14].

فهذا باب المراقبة هو باب الإحسان الأكبر، وهو الذي يحتاج الناس إلى تربية عليه، يُربى عليه يُنشأ الصغير، وهكذا يُربي كل واحد نفسه على هذه الخلّة والخصلة التي هي من شُعب الإيمان، وذلك بكثرة النظر في مثل الأسماء الحسنى الدالة على هذا المعنى كالرقيب، والعليم، والخبير، واللطيف، والمُحيط عند من عده من الأسماء.

وهكذا السميع والبصير، ينظر في معانيها ويتأمل في ذلك ويتدبر، يقرأ القرآن بتدبر، وتجد في ثنايا الآيات التي تتحدث عن الأحكام وغيرها ما يُربي هذا في نفوس أهل الإيمان السميع البصير، العليم الخبير، اللطيف الرقيب، كل ذلك مما يحصل به التحقق بهذا الوصف.

إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ [آل عمران:5]، فذكر الأرض والسماء، وذلك يدل على الإحاطة بجميع أحوال العالم العلوي والسُفلي، فالسماء كل ما علا، والأرض يشمل الطِباق السبع، فالأرض جنس والجنس يصدق على جميع أفراده، وكذلك أيضًا السماء فإنها تشمل السماوات السبع، ولا حاجة للقول بأن ذلك إنما ذكر يعني الأرض والسماء؛ لأنهما مشهودان أمام الخلق فخاطبهم بما يُشاهدون، لا، إنما السماء تشمل العالم العلوي، والأرض تشمل العالم السُفلي، وهذا يشمل جميع الخلق، والله تعالى أعلم.

إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ [آل عمران:5]، وذكر الأرض قبل السماء باعتبار الترقي من الأدنى إلى الأعلى، وربما يكون ذلك باعتبار الناس أهل التكليف من الثقلين يعيشون في الأرض، وأهبط الله آدم، وقدّر أن يكون البقاء في هذه الأرض والابتلاء فيها والعمل، فذكر الأرض قبل السماء؛ لأنهم يدرجون على هذه الأرض وتكون أعمالهم ومزاولاتهم عليها.

إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ [آل عمران:5] وكذلك أيضًا هذا يدل على كمال حياته وقيوميته، فقد ذكر الحي القيوم في أول هذه السورة، ومن كمال حياته وقيوميته أنه لا يخفى عليه شيء من أحوال الخلق، فهذا الذي تقوم به معايشهم وأرزاقهم، ويقوم عليهم بأعمالهم وآجالهم، وما أشبه ذلك، لا بد من علم مُحيط بأحوال الخلق، فيرزقهم ويرصد أعمالهم، وما يصدر عنهم، ثم يُجازيهم على ذلك، وهذا فيه ما فيه من الوعد والوعيد لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ [آل عمران:5]، فأهل الأعمال الطيبة الصالحة والإيمان لا يخفى عليه عملهم، ومن ثَم فإنه سيُجازيهم، وأصحاب الأعمال السيئة لا يخفى عليه شيء من حالهم فيكون ذلك من قبيل الوعيد لهم.

فإذا قال قائل لمن تحت يده: لا يخفى عليّ عملك، لا يخفى عليّ حالك إذا كان عمله طيبًا، فهذا يبعث الطمأنينة في نفسه، وأنه سيُجازى الجزاء الأوفى، وإذا كان عمله سيئًا فقيل له لا يخفى علينا عملك، فإن ذلك فيه من الوعيد والتهديد والتخويف ما لا يخفى.

وكذلك أيضًا فيه إثبات صفة العلم لله -تبارك وتعالى-، وأن هذا العلم علم مُحيط كامل بالكليات والجزئيات، يعلم تفاصيل الأشياء.

وكذلك أيضًا لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ [آل عمران:5]، فشيء هنا نكرة في سياق النفي فتفيد العموم، فيشمل ذلك أعمال العباد: الأعمال القلبية، أقوال اللسان، أعمال الجوارح، يشمل الأعمال الطيبة والأعمال السيئة، كما يشمل أيضًا جميع ما يجري في هذا الكون، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ [آل عمران:5]، ما تسقط من ورقة إلا يعلمها، لا تكون لأحد حركة، ولا تسكينة إلا يعلمها، حبة في جوف صخرة يعلمها، فلا تخفى عليه خافية.

كل ما في هذا الكون قد علم الله به علمًا مُحيطًا، ما يصدر عن الناس من أقوال وأفعال ونجوى كل ذلك يعلمه، فهذه النجوى لا تخفى عليه، وما يُبيته الإنسان من المقاصد والنيات، وما إلى ذلك يعلمه، فيكون التعامل مع الله -تبارك وتعالى- بهذا الاعتبار، أنك تتعامل مع من يعلم السر وأخفى، أخفى من السر، فيكون الإنسان في حال من الصدق والإخلاص والمراقبة، ويكون في حال من إصلاح العمل، فيستوي حاله حينما يخلو مع حاله حينما يكون في الخلوة؛ لأنه يتعامل مع ربّ عليم خبير، ويعلم قصده ونيته، ولا يحتاج أن يتصنع للناس، ولا أن يُرائي بأعماله، بصدقاته، بعباداته ونحو ذلك؛ لأنه يتعامل مع ربٍّ السر عنده علانية، وإذا خلا بنفسه كان في حال من التقوى لله  والحياء منه فلا يصدر عنه ما لا يليق، إذا كان يتحفظ الإنسان من الناس ويستحي من الناس، فالله أحق بأن يُعظم، وأن يُستحيى منه، وهكذا. 

  1. أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الإيمان، والإسلام، والإحسان، وعلم الساعة، رقم: (50)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب معرفة الإيمان، والإسلام، والقدر وعلامة الساعة رقم: (8).